كنت أظن أن بوادر السادية بدأت تظهر عليّ حينما كتبت مقالاً بعنوان:"سأضربه ضرباً"، وكنت أعني سأضرب كل من يتهمني بالجهل ويحاول تعليمي، لأنني اكتشفت أن الكل جاهل مثلي و?"محدّش"أحسن من أحد. لكن بعد نشر المقال اكتشفت أيضاً أن الأكثرية سادية في عالمي وفي داخلها غضب وغصة وعنف، فأحد القراء طلب تغيير عنوان المقال من الضرب إلى"سألسعه بالسياط"، وأخرى إلى"سأكويه كياً"، فيما بعثت إلي قارئة تشكو من زوجها وكانت بداية رسالتها: حار ونار وزيت حار في"جثته". فالأخ طلب منها مهرها البالغ 40 ألف ريال ليخلعها، وهي لا تملك حتى أربعين هللة. وفق هذا وذاك اقترضت حتى يخلعها خلعاً ما بعده عودة. هذا وإن غلطنا وكتبنا موضوعاً عن حق المرأة، أو اشتكينا سهواً من طغيان رجل، جاءني من يكتب لي وينصحني ألا أتناول مثل هذه المواضيع، لئلا يطلع عليه قارئ من"تمبكتو"فرضاً فيتربص بالنساء العرب، خصوصاً أننا تحدثنا بخصوصيتها طال عمرها وكأنها المرأة الوحيدة على هذه الكرة. أفهم مشاعر القارئ و?"نشامته"لأمته العربية، ولكنني لا أستوعب كيف لا ينصف أمه وأخته وابنته وزوجته؟ هذا غير ضروري، وحقوق المرأة موضوع عمرنا مش"هنستوعبه"، ولنطرح موضوعاً آخر مثلاً عن"السلام". أفهم أن بعض شبابنا العربي يقتل ويموت ويضيع ويتوه ومن تبقى له شيء من العقل يذهب إلى أقرب سفارة لتعطيه أية تأشيرة لجوء، فإن لم تفعل ركب البحر والنهر والقصبة أيضاً حتى يهرب إلى أي رصيف مدينة لينام عليه، ولا أستوعب كيف نرفض الأمن والسلام والازدهار والعمل لمستقبل أفضل؟ لا أستوعب كيف أن الحرب والسلام والإرهاب والإدمان سيان عندنا لننسى الموضوع ولأتحدث عن موضوع أفهمه مثل الديموقراطية التي تعني الحوار والشورى والأخذ والعطاء، ولكنني شخصياً أكره الديموقراطية؟ لأنني لم أستوعب كيف لا تكون كلمتي هي النهاية الفاصلة وإلا...؟ وهكذا هي حال كل واحد فينا. لننسى هذا الموضوع ولأتكلم في فهمي وحبي للكتب والمطالعة، وهي إحدى هواياتي المفضلة لأنني أقضي معها أحلى الأوقات وأمتعها، ولذا فإنني أشجع على القراءة، لكنني حتى الآن لا أستوعب لماذا لا أفتح كتاباً، ومثلما أفهم في الرياضة لا أستوعب لماذا لا أركل كرة؟ أعرف أنني أريد أن أصبح مليونيرة عصري ولا أستوعب لماذا لا أعمل، وأن العالم تقدم حضارياً وصحياً وتكنولوجياً، ولا أستوعب لماذا أنا وحدي وكلما تقدمت خطوة تأخرت خطوتين؟ أيضا منذ زمن أنا متأكدة بأن تاريخي مليء بالشعارات الطنانة الرنانة والنزاعات المبتكرة والمظاهرات والتبديد والاستنكار والشكوى، ولا أستوعب لماذا ما زلت أصدق تلك الكلمات؟ أفهم أيضاً أن ورائي شعباً من القتلى والمهجرين والجائعين والمنكوبين والفتن والمفتونين، ولا أستوعب لماذا لا ألم الشمل وأبث الأمل؟ كما أنني أفهم أن الأدب مهم في حياة الأمم ولا أستوعب لماذا لا أحترم الكاتب؟ وأفهم أن الشجرة مهمة في حياتي ولا أستوعب لماذا لا أزرعها؟ وأنا فاهمة أن الآلة إذا أدرتها تديرني ولا أستوعب لماذا لا أتعلم تقنيتها؟ أختصر وأقول أنا فاهمة في كل شيء ولأنني غير مستوعبة بقيت علاقتي بنفسي علاقة صعبة، ملتبسة وقاسية، ولي صولات وجولات ومعارك ومشاحنات مع نفسي ومعكم غايتي الاستيعاب. ولا أستوعب فقط أفهم. ثمة جهل شديد لحق بي في الطفولة وألقى بظلاله عليّ في ما بعد، ولم أستطع التخلص من آثاره، وهذا ما يفسر روح اليأس التي تسيطر عليّ أحياناً، وهذا ما يفسر أيضاً الإحساس بالندم الشديد الذي يليه وبالتالي جلد الذات وجلد الآخرين، فهل حالك مثل حالي؟ إذاً تعال نعالج أنفسنا من أزمة الاستيعاب، فلعلنا إذا استوعبنا نشفى من عقد العنف والغضب والسادية المخيفة القاتلة، وبدلاً من الضرب واللسع والجلد نحنو ونعطف ونرق ونلين. خلف الزاوية قدمت يا عمري، عمري على طبق وأنت أغنية بالكاد تعطيها إن كنت عاصفة أهواك عاطفة أو كنت ناراً فدعني أحترق فيها [email protected]