تحوّل علي الطريفي بعد تقاعده من رجل متفهم محب للحياة، مبتسم واجتماعي، إلى رجل عصبي المزاج، يعيش في حلقة فارغة يغمرها الخوف واليأس، ولعل السؤال الأبرز في نظره"هل أتحول من إنسان نشيط إلى آلة تالفة أكل الزمان عليها وشرب؟"بحسب ما يروي عنه ابنه حسين الذي يقول:"خلال أشهر من تقاعده ورجوعه من سياحة خارجية، جاءنا عصبي المزاج ينتقد أتفه الأشياء بعد أن كان يغض النظر ويتسامح عن الأمور التي تستوجب الغضب، ما جعلنا ننفر من الجلوس أو الحديث معه بعد أن كنا نتسابق للخوض معه في أي موضوع". ولم ينكر علي ما نقل ولده بل أضاف إليه:"كنت أعيش روتيناً نظامياً، أصحو مع أذان الفجر وأصلي ثم أتناول فطوري، وأرتدي ملابس العمل وأنتظر الحافلة مع زملائي وأرجع متعباً فأنام، وهكذا فجأة وجدت نفسي على أبواب التقاعد، ما جعلني منشغلاً في الإجابة عن سؤال ماذا بعد التقاعد؟". أصاب هذا التساؤل الطريفي بحالة من الانزعاج النفسي، وعدم الرضا عن المستقبل، ويقول:"الخوف الذي انتابني من التقاعد، أن يضطرني إلى التقاعد من كل شيء حتى سلطتي الأبوية، ظناً مني أن هذا الأمر مرتبط بالعمل الذي يمنحني مكانة في عائلتي، ومن الصعب أن أغير روتيني الذي عشت معه سنوات طوال لأجد نفسي في البيت والشارع فقط، من دون أي تأثير في الحياة أو على نفسي". ولم يجد أبناء علي وأصدقاؤه حلاً لإخراجه من هذه الأزمة النفسية إلا عبر التفكير بمشروع يقضي معه معظم وقته. يقول علي:"لم أكن أفكر أن أفتح محلاً تجارياًً وأديره بنفسي، إلا أن هذا المقترح أعادني إلى الحياة مرة أخرى، وأصبح جل اهتمامي العائلة وتطوير عملي". وعن رأيه في التقاعد يقول علي:"هو شر لا بد منه، إنه ضروري من أجل تجديد الحياة، ولكي لا يدفن العامل أو الموظف في عمله بعد زمن طويل من الكدح والدأب". أما المتقاعد محمد عبدالمحسن الحريب، فكان على النقيض تماماً من الطريفي، فهو يعيش حالاً من السعادة بعد أن تفرغ لهوايته المفضلة في السفر والسياحة، والتي كان يتوق دائماً إلى ممارستها، إلا أن ظروف العمل في السابق كانت تحول دون تحقيق ذلك. يجد الحريب أن التقاعد المبكر أمراً ضرورياً للإنسان"فالحياة ليست عملاً فقط، ويجب على الإنسان أن يتفرغ لهواياته المفضلة ولحياته الخاصة بعد أن يؤمن مستقبله، فالحياة ليست جمع مالٍ فقط الحياة متعة وانفتاح". ويتعجب من الشعور السوداوي الذي يصيب معظم المتقاعدين، مشيراً إلى أن الأمر"لا يستحق كل هذا التشاؤم"، مضيفاً:"يجب على الموظف الذي شارف على التقاعد أن يهيئ نفسه للمرحلة المقبلة، بأن يكتب قائمة بمشاريعه واهتماماته، وأن يتفرغ كلياً لعائلته التي حتماً افتقدت التنقل والجلوس معه بسبب ظروف العمل، وأن يطرد الخوف من المستقبل، فالحياة جميلة متى ما رأيتها جميلة وقبيحة متى ما نظرت إليها بعيون التشاؤم". ويقترح الحريب على الذين يشارفون على التقاعد أن"يعيشوا التقاعد قبل استحقاقه من خلال إجازاتهم السنوية، وأن ينظموا أوقاتهم وتحركاتهم في الحياة الجديدة، ويحاولوا ممارسة الرياضة بمختلف فروعها، فهي مفيدة جداً، فأنا أحب المشي مثلاً وهو أمر ساعدني على تقبل حياة المتقاعدين". ويفسر الحريب سبب الحالة العصبية التي تنتاب غالبية المتقاعدين والتي تحوّل حياة أسرهم إلى جحيم بقوله:"هذا أمر طبيعي ويجب التعايش معه، لأن رب الأسرة لم يكن موجوداً مع أبنائه لوقت طويل بحكم ظروف عمله، والتفرغ لهذه المهمة تجعله يشعر بأنها ليست إلا تعويضاً عن فقدانه لسلطته الوظيفية، خصوصاً إذا كان مديراً أو مسؤولاً، وهو أمر معقد يجب علاجه بالخروج والتنزه والسفر واستثمار الوقت في أي شيء"، مشيراً إلى أن العائلة تلعب دوراً مهماً في احتواء هذه المشكلة من خلال"الدعم النفسي والمعنوي من العائلة، وهو من أكثر الأمور أهمية لامتصاص التوتر الذي يحل بالمتقاعد، خصوصاً خلال المرحلة الانتقالية، ويكون ذلك عبر استشارته الدائمة في الأمور المنزلية والقرارات الشخصية لأفراد العائلة، وإشعاره أن قيمته فعلية ومؤثرة وأنه العنصر الأساسي، وإظهار أن التقاعد جلب لهم السعادة، لأنه سيكون بينهم دائماً". التوقف عن العمل يؤدي إلى اضطرابات نفسية وتوصل أستاذ الطب النفسي في مركز دراسات الأسرة في جامعة روك في الولاياتالمتحدة الأميركية الدكتور اردمان بالمور إلى أن"الفرد عندما يتوقف عن العمل، فإن كميات الطاقة الكبيرة التي كان يبذلها يومياً تتعطل ولا تجد مخرجاً لها، وهي في الوقت نفسه لا تندثر أو تتوارى، فإذا عجز الإنسان عن استثمار هذه الطاقة المعطلة فإن ذلك سيؤدي إلى الاضطرابات العصبية والنفسية والعاطفية وأيضاً الخلافات الاجتماعية، وتبدو الحياة مملة ويشعر الزوجان بالإحباط والكآبة، ويصبح كل ما يفعلانه هو الجلوس والتحدث بلا معالم في مواضيع مكررة ومملة". ويشير الدكتور بالمور إلى أن"هؤلاء الذين يقضون فترة معاشهم جالسين على مقاعدهم من دون همل سيجدون أجسادهم قد بدأت في الضمور وأن صحتهم قد بدأت في التدهور". وأشارت الدراسات والأبحاث إلى أن بعض المتقاعدين يعيشون حياة سعيدة لما يقومون به من تجديد في حياتهم بصفة دائمة، ويرى متقاعدون أن التقاعد في سن متأخرة يحرم الإنسان من التمتع بالحياة"فما الفائدة من المال الكثير الذي يتوافر للمتقاعد وهو يعاني من أمراض الشيخوخة ومن ضعف العلاقات الإنسانية". ويطالب متقاعدون بفرض قانون المرحلية في التقاعد، ويأتي هذا المقترح لتفادي الأمراض النفسية والعصبية التي تصيب غالبية المتقاعدين، وتأتي هذه الفكرة بأن يأتي التقاعد على مراحل من خلال تقليص ساعات العمل ثم التفرغ الجزئي، حتى الوصول إلى استبدال دماء شابة بالمتقاعدين، لحل أزمة البطالة التي يعيشها العالم.