عندما قررت صعود جبل النور غار حراء، لم يكن يدور بخلدي أن أجد أعداداً هائلة من البشر كالتي صادفتني. أعداد كثيرة تصعد الجبل، ربما أكثر من مرة في اليوم الواحد، لاعتقادات سائدة لديهم على رغم خطورة الصعود على حياتهم، وكثير منهم تعرض للسقوط في مرات سابقة أثناء صعوده الجبل. مجموعات كبيرة من قاصدي المشاعر المقدسة، تحرص على زيارة الغار بعد الفراغ من مناسك الحج بأيام، خصوصاً أولئك الذين لا تزاحمهم مواعيد رحلات العودة إلى بلادهم، بل إن بعضهم يعتقد أن حجه لا يكتمل إلاّ بزيارة الغار والصلاة فيه! وحين عقدت العزم على الصعود بدافع من الفضول الصحافي، ظننت المهمة سهلة، بوصفي واحداً من سكان مكة الذين ألفوا الجبال وعقدوا معها صداقة خاصة، تساعدني على هذا الشعور مشاهدة المئات من الجنسيات كافة في صعود وهبوط، منهم الشاب والكهل والشيخ. بيد أنني عندما بدأت المهمة وجدت قواي تخور وتضعف شيئاً فشيئاً، حتى كدت أنهزم وأعود أدراجي قبل وصول الغار، غير أن باكستانياً قارب الشيخوخة مر بي وأنا مستريح لالتقاط أنفاسي قبل مواصلة السير، وهو يهتف بالآية الكريمة:"إلاّ تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا". وهكذا يمضي الشيخ في ترتيل وشدو شجي، فاستحييت من نفسي وقلت: الشيخ يواصل بسعادة بالغة، وأنا الشاب أعود مخذولاً؟ فقررت الاستمرار حتى وصلت الهدف، فماذا هنالك؟ من الأشياء التي صادفتني أثناء صعودي الجبل وتعجبت منها، ولو أنها لم تكن غريبة عليّ، كثرة الباعة في أماكن متفرقة من الجبل، فبعد كل مسافة نقضيها في الصعود نجد باعة جائلين، ربما هربوا من عيون مراقبي البلدية في الشوارع العامة، وصعدوا ذلك الجبل لعلمهم بأن عيون مراقبي البلدية لن تلاحقهم هناك، وهم منتشرون بكثرة، فمنهم من يبيع الكاميرات كاميرات التصوير الفوري وغيرها ومنهم من يبيع الدرابيل ومنهم من يلتقط صوراً لصاعدي الجبل كذكريات لهم، لاسيما أن كثيراً من الحجاج يحرصون على أخذ الصور التذكارية بالزي السعودي، ولأن أولئك المصورين حرصوا على أن يكون معهم الشماغ والعقال. سوق جبل النار لم تخل حتى ممن يبيع بعض الإكسسوارات للنساء، والسبح والخواتم وغيرها، والغريب في الأمر أن كباراً في السن يحرصون على صعود ذلك الجبل، ونساء وعجائز طاعنات في السن أيضاً يصعدن ذلك الجبل في إصرار غريب، ما جعلهن معرضات للسقوط في أي وقت، نظراً إلى وعورة الطريق، لا سيما في بدايته، وأما في النصف الأخير منه فهو معبد بصبات من الدرج المرصوص في وضع جميل يدل على دقة تصميمها، وكنت أعتقد أن للبلدية دوراً في ذلك، ولكن أخبرني عدد من الباكستانيين أنهم هم من قاموا ببنائها، لكي يسهل على الحجاج صعود الجبل. سألت الإخوة المتعهدين من الجنسية الباكستانية عن مصدر الموارد التي مكنتهم من تذليل الطريق للسالكين، فأكدوا أنها"من بعض التبرعات التي نتلقاها من الحجاج بهدف تجهيز الطريق لهم"! الحياة في الغار وإذا ما تجاوزنا قصة الصعود والسوق هنالك، إلى"الغار"الذي يعد"الهدف"لكل الصاعدين إلى ذلك الجبل الرفيع، فإنك تجد الغار تم تجهيزه على هيئة محراب بصبات من الاسمنت، وتقود إليه ممرات صغيرة وضيقة، تسع بالكاد شخصاً واحداً، ويتوافد عليها الحجاج للدخول منها بشكل مكثف، كلما دخل فوجٌ تبعه فوجٌ آخر، ويقوم كل واحد منهم بأداء الصلاة في ذلك المكان والدعاء فيه لبعض الوقت، ظناً منهم أن الدعاء مستجاب وأن جبريل لم يبرحه! وعلى جنبات الغار الذي ينظر إليه الإخوة الزوار بكثير من الهالة والتقديس، الرسومات والآيات القرآنية، كآية اقرأ باسم ربك الذي خلق كأول آية نزلت على الحبيب صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وهو في الغار، وتباع الصور المنقوشة على خلفية الغار، خصوصاً لوحة تحمل الآية التي سبق أن أشرنا إلى أن باكستانياً يهتف بها لشحذ همته في صعود الجبل، وهي آية 40 من سورة التوبة. وفي واقع الأمر أنه ليس الباحثون عن"البركة"فقط من يصعد الجبل الشاهق، فكما ذهبت بمحض فضول صحافي، يعيش هنالك آخرون بدافع مادي بحت لترويج بضائعهم، وهنالك فئة أخرى حاضرة بشدة، وهي فئة"الفقراء وذوي العاهات"الباحثين عمن يتصدق عليهم. وربما نالت هذه الشريحة بعضاً من مآربها، إذ تشهد عاطفة الصاعدين الدينية ازدياداً مع ترديد الآيات والشعارات الدينية، والأهازيج المثيرة للعواطف. وإلى ذلك، فإن بعض كتب السير تصف غار حراء بأنه غار لطيف، طوله أربعة أذرع وعرضه ذراع وثلاثة أرباع الذراع من ذراع الحديد، وأشار البعض منهم إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيمُ فيه شهر رمضان المبارك، ويطعم من يتردد عليه من المساكين، ويقضي وقته فيه في العبادة والتفكير في ما حوله من مشاهد الكون، وكان اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لهذه العزلة قبل البعثة طرفاً من تدبير الله له، ليعده لما ينتظره من الأمر العظيم، وهو تبليغ رسالة رب العالمين للناس أجمعين بدين الإسلام. ... و"الهيئة" تعتبر التبرك بغار حراء منافياً للتوحيد أكد مدير إدارة القضايا والتحقيقات في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكةالمكرمة، الشيخ أحمد قاسم الغامدي، أنه لا يجوز قصد العديد من الأماكن التي يتردد عليها كثير من الحجاج، مثل غار حراء في جبل النور، وعرفات والجعرانة، للتبرك بها. ويرى أن اعتقاد البركة في تلك المواضع"يتنافى مع حقيقة التوحيد، وكذلك التبرك بها وتعظيمها"، مشيراً إلى أن الذي يجب على الحجيج في مناسكهم هو الطواف والسعي والوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة والبقاء في منى أيام التشريق. وروى كيف أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يُقبّل الحجر الأسود تأسياً بالرسول صلى الله عليه وسلم، و يقول:"والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك". وأضاف: "هذه المواضع لم يكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يأتونها، بل قد جاء النهي عن تعظيم آثار الأنبياء حتى لا يغلو الناس فيها وتهلكهم كما أهلكت من قبلهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما أهلك الذين قبلكم تتبعهم لآثار أنبيائهم"، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وتلك المواقع ليست من مناسك الحج أبداً، ولا يشرع الذهاب إليها للتعرف عليها، فضلاً عن التبرك بها في مثل هذه المواسم". وخلص الغامدي إلى مطالبة الجهات المختصة ب "تنظيم السير لمنع أصحاب السيارات والباصات من نقل الحجاج إلى هذه المواقع، والعمل على وضع الحواجز اللازمة للحد من هذه الظاهرة الخطيرة، التي تمس جناب التوحيد"، على حد تعبيره.