خارطة طريق سعودية – أمريكية للتعاون بالطاقة النووية    مدرب الأهلي يخضع فيغا لاختبارات فنية تأهباً ل"أبها"    أمطار على أجزاء من 6 مناطق    150 مبتكراً ومبتكرة يتنافسون في الرياض    أوشحة الخيل.. تنافس على إرث ثقافي سعودي    ارتفاع معدل البطالة في استراليا إلى 4.1% في شهر أبريل الماضي    النفط يرتفع بدعم من قوة الطلب وبيانات التضخم الأمريكية    إطلاق جامعة طيبة لمعرض "مكين" الهندسي    سمو محافظ الطائف يرعى حفل افتتاح المجمع القرآني التعليمي النسائي    برعاية ولي العهد.. انطلاق الملتقى العربي لمكافحة الفساد والتحريات المالية    «عكاظ» تنشر الترتيبات التنظيمية للهيئة السعودية للمياه    قمة عادية.. في ظرف استثنائي    أمير تبوك يطلع على نسب إنجاز مبنى مجلس المنطقة    الأهلي يتحدى الهلال والاتحاد يبحث عن «النصر»    الاتحاد في مأزق الخليج.. نقاط الأمان تشعل مواجهة الوحدة والرائد    صفُّ الواهمين    «الصحة» تدعو حجاج الداخل لاستكمال جرعات التطعيمات    أمير تبوك: ليالي الحصاد والتخرج من أسعد الليالي التي أحضرها لتخريج أبنائي وبناتي    71 فناناً وفنانة في معرض «كروما» بجدة    حل وسط مع الوزراء !    محاولة يائسة لاغتيال الشخصية السعودية !    نريدها قمة القرارات لا التوصيات    مخاطر الألعاب الإلكترونية على الأمن المجتمعي    «هاتريك» غريزمان تقود أتلتيكو مدريد للفوز على خيتافي في الدوري الإسباني    طريق الأمير محمد بن سلمان.. أهم مسار لتنقل الحجاج    في قمة مواجهات الجولة 32 من «روشن».. ديربي الرياض بروفة نارية لنهائي كأس الملك    توثيق من نوع آخر    خطوة جادة نحو رؤية وزارة الرياضة    القيادة تهنئ رئيس الباراغواي ورئيس وزراء سنغافورة    خادم الحرمين الشريفين يصدر عدداً من الأوامر الملكية.. إعفاءات وتعيينات جديدة في عدد من القطاعات    خادم الحرمين الشريفين يصدر عددا من الأوامر الملكية    تعزيز التعاون العدلي مع فرنسا وأستراليا    باكوبن والدقيل يزفون المهندس محمد    عبدالملك الزهراني ينال البكالوريوس    السفير الإيراني يزور «الرياض»    السلطات الفرنسية تطارد «الذبابة»    بوتين يصل إلى الصين في زيارة «دولة» تستمر يومين    استمرار الجسر الجوي الإغاثي إلى غزة    «الحر» يقتل 150 ألف شخص سنوياً    دعوة عربية لمجلس الأمن باتخاد إجراءات سريعة توقف العدوان الإسرائيلي    إنتاج الصقور في الحدود الشمالية    "الدرعية" تُعزز شراكاتها الاقتصادية والسياحية    شتلات شارع الفن    معرض"سيريدو العقاري"أحدث المشاريع السكنية للمواطنين    رحالة فرنسي يقطع ثمانية آلاف كلم مشياً على الأقدام لأداء مناسك الحج    رعاية ضيوف الرحمن    سقيا الحاج    وزير الاستثمار: الاقتصاد السعودي الأسرع نموا وجاذبية    « سعود الطبية»: زراعة PEEK لمريض عانى من كسور الجبهة    لقاح جديد ضد حمى الضنك    مختصون يدعون للحدّ من مخاطر المنصّات وتقوية الثقة في النفس.. المقارنة بمشاهيرالتواصل الاجتماعي معركة خاسرة    5 منافذ في الشرقية تستعد لاستقبال الحجاج    المزروع يشكر القيادة بمناسبة ترقيته للمرتبة 14    «نافس».. منافع لا تحصى لقياس الأداء التعليمي    نائب أمير الشرقية يستقبل منتسبي "طويق"    رئيس جمهورية المالديف يُغادر جدة    وزير العدل يلتقي رئيس المجلس الدستوري في فرنسا    وزير الحرس الوطني يرعى تخريج 2374 طالباً وطالبة من «كاساو»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعضهم يختار نهايته وآخرون يرفضونها . المرض النفسي ب"وجه واحد"... من يدخل "شهار" وكيف يصلون إليه من مدن بعيدة؟ 2 من 3
نشر في الحياة يوم 18 - 04 - 2005

تستطيع وزارة الصحة في السعودية أن تمنع الصيدليات من بيع الأدوية "النفسية"، إذا كان الزبون لا يحمل وصفة طبيب وهي تفعل ذلك. لكن الوزارة لا تستطيع أن تمنع الطبيب من إعطاء هذه الوصفة.
إذا كنا نريد هذا الدواء, أو نريد دخول مستشفى الصحة النفسية، سواء في الطائف أو جدة أو الرياض أو أي مدينة أخرى، هل يمنعنا الأطباء من ذلك؟ بأمرٍ حكومي صار للأطباء النفسيين الحق في منعنا من الدخول، والحق في كتابة أمر خروجنا من مستشفى صحي نفسي. بحسب ذلك الأمر، هم الذين لهم الحق في إقرار من يستحق أن يبقى أو يدخل ومن يجب أن يخرج. لكن، لا تزال هناك بعض التجاوزات: من يحاول إرجاع مريضٍ أمرَ الطبيب بإخراجه من المستشفى، أو من يطلب دخول قريب رغماً عن الأطباء.
الأطباء في العيادات الخارجية في مستشفى الصحة النفسية في الطائف وسواها، يحاولون إقناع من يطلب دخول هذا العالم, أن يتعلم كيف يحيا حياة طبيعية بالخروج إلى الأسواق, بالعمل والتنزه والسفر والقراءة... بالزواج، والاختلاط بالمجتمع. يخيفونه من العزلة، ويصفون له الدواء حلاً أخيراً. المهم عندهم ألا يدخل إلى هنا، طالما أنه لا يؤذي غيره ولا يؤذي نفسه. في رأي أولئك الأطباء، الكل يتعب، لكن يجب أن يقاوم.
في السابق قبل قرون، لم يكن هناك طب نفسي. لم يكن هناك مريض نفسي، أو هذا مصاب بفصام أو ذهان أو اكتئاب. لم يُشخص أحد المرضى بعمق مثل الآن. كان هناك"مجنون"وعاقل."المجنون"يهيم في الصحراء، والعاقل يعيش مع الناس.
اليوم يستطيع العاقل أن يزور المستشفى. ثمانية عشر ألف مراجع زاروا مستشفى الصحة النفسية في الطائف العام الماضي فقط! لمَ؟
هل يمكن للطب النفسي أن يتطور، بعد نصف قرنٍ، أو أقل أو أكثر؟ أن يحدد المرض تحديداً دقيقاً، مثلما يفعل أطباء القلب والعظام والأطفال والأنف والأذن والحنجرة... حينها لن يخشى أحد أن يزور أكثر من طبيب نفسي، فالتشخيص لن يختلف والوصفة ستكون واحدة.
من عاش في مستشفى صحة نفسية يعرف حجم المشكلة. المستشفى ربما تكون نهاية الحياة. الأطباء يحاولون أن لا تكون؟ لذلك يهتمون كثيراً بمرضى الدخول. يحاولون قدر الإمكان أن يرجعوهم إلى المستقبل، إلى حياة طبيعية كي لا تصبح حالتهم مثل أخرى تسكن في المستشفى منذ عقود. مرات لا ننتبه كم المرضُ قريب منا.
فجأة نجد أنفسنا في مستشفى الصحة النفسية.
إذا حدث انفجار اهتز العالم كله. القنوات الفضائية تتناقل الخبر. ربما يحصد قتيلاً أو اثنين. لكن إذا أصاب أحدهم مرض الفصام، او حاول ان ينتحر، من يعرف عنه؟ من يكتب عنه؟ من ينقله على شاشات التلفزيون؟ من ظن انه سيحيى إلى ما بعد منتصف القرن الحادي والعشرين, يقضي نحبه بفصام. هو لا يموت، لكنه يبدو كذلك. ما يحدث في المستشفى كأنه يحدث على كوكب آخر، فأن ترى من يدعي النبوة ويقول أنه يرى شياطين... أمر"عجيب". هل يعرف السعوديون أن معدل دخول مستشفى الصحة النفسية في الطائف، اثنان إلى أربعة مرضى يومياً؟ هل يعرفون كيف يصل إليها البعض من مدن أخرى بعيدة أو قريبة؟...
نمشي ومساعد مدير مستشفى الصحة النفسية، يوسف الغامدي، من بناية أجنحة عنابر المرضى الذين يقطنون"شهار"، إلى بناية العيادات الخارجية. الأخيرة تقع إلى جانب مجمع الأجنحة، يفصل بينهما شارع صغير.
نحن الآن في مكتب طبيب في العيادات، محمد أبو الليل ? مصري. يخرج يوسف من المكتب، ربما كي يتحدث أبو الليل من دون أن يشعر برقابة قريبة. الطبيب يقول شيئاً عن ندرة مستشفيات الصحة النفسية الكبيرة، مثل"شهار"و"السرايا الصفرة". ويقول أيضاً عن تشابه كبير بينهما. كلامه في البداية بدا غير منطقي:"هناك دراسة أميركية، لأطباء زاروا السعودية، تشير إلى أن نسبة تحسن مرضى الفصام هنا وفي مصر أعلى من نظيراتها من الدول الغربية وأميركا". لماذا؟ رأي أبو الليل يقترب كثيراً من الفضيلة، فمن وجهة نظره:"الأسرة السعودية والعربية عموماً، متلاحمة. لا يمكن لمرض أو غيره أن يؤثر في علاقاتها الاجتماعية. المرضى يشعرون باهتمام عائلاتهم".
أبو الليل تجاهل أولئك المرضى الذين يمضون طوال حياتهم في المستشفى، وآخرين يموتون من دون أن يجدوا من يمشي في جنازتهم، وآخرين رفض أهلهم استلامهم، وآخرين... يرد أبو الليل:"عليك أن تشاهد المرضى الذين تتحسن حالاتهم، عليك أن تعرف أن هناك من يحب أبناءه كثيراً. بحسب الدراسات التي تكلمت عنها، فعلى رغم ان التقنية في الغرب متطورة فالتواصل الاجتماعي هنا يساعد في تحسن الحالات"!
ماذا لو فكرت في الدخول؟
تجاوزنا تلك الدراسات، إلى من يدخل المستشفى. بحسب الطبيب:"من يُخشى عليه من إيذاء نفسه أو غيره، كمثل محاولات الانتحار. ومن يعانون من اضطراب عقلي واضح، أو إدمان...". ماذا لو أراد أحدهم دخول المستشفى بإرادته؟ لو جاء إليها وهو مقرر أن يمضي حياته فيها؟ ربما هو يعاني من اكتئاب ما؟ لكن أبو الليل يرى"أن معظم من يقرر ذلك، ليس مريضاً نفسياً في حال خطرة. فيندر أن يختار المريض النفسي الدخول بنفسه، ربما المدمنون يختارون ذلك، لكن مرضى الفصام تحديداً لا يوافقون على أنهم مرضى".
لا يمكن لطبيب يرى حالات عديدة يومياً، أن يعتبر أياً منها غريباً. فهو يرى"أن كل حالات الطب النفسي غريبة". وإذا قرر طبيب العيادات الخارجية تنويم مريض في المستشفى، سيضطر إلى مناقشة وجهة نظره وتشخصيه في اليوم التالي في اجتماع مع الأطباء ومدير المستشفى ومساعده. فليس سهلاً أن تزج بأحدهم في"شهار".
يصل الدكتور يوسف، لنصعد إلى جانب الغيوم. إلى جناحي الدخول وتهيئة الخروج. الطريق إلى فوق متعب، فالبناية على جبلين، لكنها متصلة بالعيادات الخارجية. يكرر يوسف، جملته الأهم:"لا نريد أن يصل من سنراهم الآن، إلى حال أولئك المسنين، الذين انتهت حياتهم وأمنياتهم. لن نسمح بأن يقضي الفصام أو الاكتئاب عليهم. نحاول جهدنا، بمساعدة الأدوية الحديثة المكلفة، وكل جديد في عالم الطب النفسي".
جناح"التهيئة للخروج"
كعادته، يختار الغامدي أن نبدأ من النهاية. لكن، النهاية هذه المرة سعيدة. جناح"التهيئة للخروج"أو"العناية الإعدادية"بترجمتها الحرفية، هو آخر جناح يدخله المريض النفسي، إذا لم تحصل له نكسة، فيبدأ من جديد. المريض في هذا الجناح يجيء من"الدخول"أو من أحد أجنحة المستشفى الرئيسة. لكن وصوله إلى هنا يعني اقتراب موعد خروجه.
يبدو الأمر هنا أقل خطراً، على الأقل بالنسبة إليك. فهؤلاء المرضى سيخرجون بعد وقت قريب، يمتد إلى ثلاثة أسابيع بحد أقصى. لن تخاف كثيراً بدخولك هذا الجناح، خصوصاً أنك مررت على الأخطر ? هل كانت فعلاً الأجنحة الأخرى خطيرة؟
الدكتور يوسف، يقول إن بإمكاني التحدث إلى أي مريض. هو الآن يختبرني:"إن كنت تستطيع التفريق بين الحالات المزمنة والحادة والجاهزة للخروج". وعلى رغم أن معظمهم يتشابهون، خصوصاً في حركة أجسادهم، فإن أحدهم بدا لي مؤهلاً للعودة إلى المجتمع. تذكرت كلام يوسف عن أن العلاج النفسي يجعل حركتهم غريبة.
طلب الدكتور بلطف من المريض الذي وقعت عيني عليه، أن يأتي معنا إلى مكتب مدير الجناح. الرجل بدا طبيعياً جداً. معظمهم كذلك. سأله يوسف:"هل هذه أول مرة تزورنا فيها؟"، الرجل يجيب:"إنها المرة الثانية"، لكنه يجيء إلى هنا باختياره. يستغل المريض الفرصة، ويسأل عن موعد خروجه. يوسف يرد عليه بسؤال، وبطريقة مهذبة جداً:"هل ترى أنك شفيت تماماً؟ هل هناك فرق بينك وبين المرضى الآخرين؟". طبعاً، رد الرجل سيكون نعم، لأنه يخطط للخروج. الرجل يبرر:"أنا أفهم وأعرف وأتحدث، ليس مثل الآخرين". ويضيف:"جئت إلى هنا باختياري. ألا يحق لي أن أخرج باختياري؟". الدكتور يوسف تحدث لي قبل ذلك:"أن أساس العلاج الحرية، نحن لا نجبر أحداً على شيء. نعمل من أجلهم، وفي حال أرادوا الخروج، يمكنهم ذلك من دون فرار، طالما لا يؤذون أنفسهم أو غيرهم". هي الإجابة ذاتها التي قالها للمريض.
قاطعتهما، بسؤال المريض:"ما سبب وجودك هنا؟". يقول:"الكبتاغون والمنشطات، جئت أتعالج منها". يوجه سؤاله مرة أخرى إلى يوسف:"متى سأخرج؟". يجيب عليه:"عن قريب، نحتاج إلى ترتيب الأمر مع أهلك وتهيئتهم كي يستقبلوك باحتفاء يليق بخروجك". هذا المريض اختار دخوله، وربما يخرج بنهاية سعيدة. لكن آخرين يختارون نهايتهم، حين يرفضون الدخول، خصوصاً من يتمادون في تعاطي الحبوب المهلوسة، أو الهرب بعيداً من الأطباء والمستشفى.
أول محطة
نحن الآن في الممر، نتجه إلى جناح الدخول. يوسف يقول شيئاً عن نية المستشفى في"إنشاء جناح جديد، يهيئ المرضى للخروج، فيكون مكانهم بعد"التهيئة"". لن يغلق الباب في هذا الجناح المزمع إنشاؤه، وسيعمل موظفوه على التنسيق مع أهل المريض، وإقناعهم بزيارته أكثر من مرة.
الحديث ينقطع ما أن نصل الى باب جناح ربما كان الأهم. خلف هذا الباب، يبدأ المرضى حياتهم في الصحة النفسية في الطائف. يفتح الباب، لتجد المفاجأة. رائحة طيبة، تفوح من المكان، ليست كروائح المستشفى المعهودة. بخورٌ منتقى يفوح في الجناح الذي تختلف ألوانه عن بقية الأجنحة. ألوان زاهية تفتح نفس المريض."لا بد من أن يشعر المريض ان المكان هنا، ليس مرعباً، ربما استطعنا نقله إلى جناح التهيئة، من دون أن يكون نزيلاً هنا".
بحسب عبدالحميد العلي، الطبيب المناوب الآن، فان آخر مريض دخل الجناح لمحاولات انتحار متكررة. العلي يقول إنه يتفاءل دائماً بحالات الاكتئاب، إذ يرى أنها أسهل بكثير من الفصام.
الشبان هنا، كثيرون، بالنسبة إلى أي جناح آخر. ربما ينجح الأطباء والمستشفى في ولادتهم من جديد. شاب يبدو طبيعياً، لكنه يحاول لفتنا بأغنية:"هلا بالطيب الغالي". هو أراد أن يستهتر بنا لا أكثر. ننظر إليه ليتظاهر بأنه لم يكن يتحدث إلينا. هو اعتاد على اختلاق المشكلات في المستشفى وخارجه. يجيد اللغة الإنكليزية، لكنه لا يتكلم بها سوى مع من لا يتقنها، كي يشعرهم بأنه يختلف عنهم.
شابان، بدت حالتهما مزمنة، ربما حادة. العلي يتكلم مع أحدهما، يسأله"ما هي مشكلتك؟ هل تسمع أصواتاً؟". الشاب المقصود يقول إنه:"نبي مرسل. أحدث الأنبياء والرسل والملائكة والله، بل هم يكلمونني". يستشهد بآيات، تثبت إدعاءه، بحسب ما يظن. يضيف:"كل الأنبياء، تحدثوا عني"، حددوه بالاسم. حركته بدت أكثر من غيره غرابة. يحب أن يضع يده اليمنى على بطنه والأخرى على رأسه، خصوصاً حين تكلمه. هذا الشاب، تخصص في الدراسات الإسلامية، يعرف كيف يستشهد بالآيات والأحاديث.
أما الآخر، فبدا أكثر هدوءاً. لا يحدثه أحد ? أنبياء أو رسل. لكنه يسمع أصواتاً ويرى شياطين، ربما تتمثل بأجساد أقاربه أحياناً. هو لم يتخصص في الدراسات الدينية، بل في الأحياء الدقيقة. ما الفرق؟ الآن هو خارج أسوار الجامعة، في مكان لا يعرف متى يخرج منه، على رغم أن العلي متفائل بحالتيهما.
بعد خروجنا، من الجناح، يتحدث الدكتور يوسف، عن أيام العيد. يتمنى أن نزوره فيها، يقول شيئاً عن الهرج والمرج الذي يستمر طويلاً. لا ترى وجوهاً ناعسة, الكل سعيد بأيام العيد هنا، لكن بطريقتهم يزينون المكان ويملأونه فرحاً ليوم على الأقل. الموظفون والعاملون والاختصاصيون يساعدون في صنع هذه الأجواء.
لكن، هل لهؤلاء الموظفين سلبيات؟ كيف يتعاملون مع المرضى؟ هل يضربونهم فعلاً؟ ما مدى صحة أنهم السبب في تدهور الحالات وبقائها طويلاً داخل هذا العالم الغريب؟... ربما بقي قليل يكتب عنه...
هي تقرر أن تموت... وهو مثلها
أسئلة جوهرية يرددها الملايين من الناس يومياً، خصوصاً الشبان:"ماذا أفعل في حياتي؟ لماذا أستمر في العيش؟"
فتاة شابة 24 عاماً، تملك كل ما يمكن أن تتمناه: الصبا والجمال، والوسامة، الوظيفة المريحة، العائلة المحبة. غير أن ثمة فراغاً عميقاً في داخلها، يتعذر ملؤه. قررت أن تموت انتحاراً في 11 من تشرين الثاني نوفمبر 1997، فتناولت حبوباً منومة، متوقعة ألا تستفيق أبداً بعدها.
تصعق عندما تفتح عينيها في مستشفى للأمراض العقلية، حيث يبلغونها أنها نجت من الجرعة القاتلة، لكن قلبها أصيب بضرر مميت، ولن تعيش سوى أيام معدودة. خلال هذه الفترة، تكتشف الفتاة ذاتها، وتعيش مشاعر لم تكن تسمح لنفسها يوماً أن تتملكها: الضغينة، الخوف، الفضول، الحب، الرغبة. وتكتشف، أيضاً، أن كل لحظة من وجودها خيار بين الحياة والموت، إلى أن تغدو في آخر لحظاتها، أكثر إقبالاً على الحياة من أي وقت مضى.
الفتاة هي فيرونيكا. كتب عنها البرازيلي باولو كويلو، مؤلف الرائعة العالمية"الخيميائي"، في رواية تحت عنوان"فيرونيكا تقرر أن تموت". توغل الرواية عميقاً في وصف الحياة التي عاشتها الفتاة داخل المصحة، وهي تعتقد أنها ستكون آخر أيام لها في الحياة. يقودنا باولو كويلو في رحلة للبحث عما تعنيه ثقافة تحجبُ نورها ظلال القلق والروتين الموهن.
وفيما هو يشكك في معنى الجنون، نراه يمجد الفرد الذي يضيق به ما يعتبره المجتمع أنماطاً سوية. إنها صورة مؤثرة لامرأة شابة تقف عند مفترق اليأس والتحرر، يغمرها، بشاعرية مفعمة بالحيوية، الإحساس بأن كل يوم آخر، هو فرصة متجددة للحياة.
تعريفات كثيرة عن معنى الجنون، أحدها على لسان مريضة:"إن الجنون هو العجز عن التعبير عن أفكارك. فالأمر أشبه بالتواجد في بلد غريب، حيث يمكنك رؤية كل ما يحوطك، وفهمه، لكنك تعجزين عن التعبير عما تريدين معرفته، أو عن تلقي مساعدة أحدهم، لأنك لا تفهمين اللغة التي ينطقون بها".
-"جميعنا شعرنا بذلك".
-"وجميعنا مجانين بطريقة أو بأخرى".
شاب سعودي دخل قبل يوم من وصولنا، إلى جناح الدخول في مستشفى الصحة النفسية في الطائف. حاول الانتحار كثيراً، بحسب والده. رمى بنفسه في بئر، شنق جسده... الشاب يقول: إنه"لا يحب الحياة". بنظره هي مزعجة. لم يمر هذا الشاب بأي قصة حب أو غيرها. هو تماماً مثل فيرونيكا، يعمل ويحظى بحياة عادية مثل معظم الناس. كل ما في الأمر أنه اكتأب وقرر أن يموت. لكن، ربما كان للمخدرات دور في ذلك.
الطبيب محمد أبو الليل، المسؤول عن جناح الدخول في الصحة النفسية، يقول شيئاً عن مرضى كثيرين دخلوا بسبب"الكبتاغون والمنشطات والحشيش والكحول". يذكر أن فترة مضت"كانت نسبة النزلاء مدمني الهيروين هي الأعلى". لكنه لا ينفي أن المرض النفسي، لا يقتضي بالضرورة قصة أو مخدرات.
"فيرونيكا تقرر أن تموت"، ليست الرواية الوحيدة التي يصل بطلها إلى المصحة النفسية. فهناك:"قبل الصفيح"، للألماني غونتر غراس الفائز بنوبل للآداب. و"طيران فوق عش الوقواق"للأميركي كينت كيسي، التي تحولت إلى فيلم يحمل العنوان نفسه، مثّل فيه جاك نيكلسون. هناك أيضاً"حكاية مجنون"للمصري يحيى إبراهيم، و"أيام وردية"للمصري علاء الديب. معظم أبطال هذه الروايات ينتهون إلى المصحة العقلية، يعيشون فترة طويلة، ربما كل الرواية. فإلى أي درجة من الواقع وصل بها مؤلفوها؟
في انتظار نهاية أخرى غير "شهار"!
أجنحة"الدخول"في مستشفيات الصحة النفسية في مدن السعودية الأخرى لا تختلف كثيراً، مع الأخذ في الاعتبار الأسماء والوجوه. لكن الحالات المزمنة أو الحادة التي تحتاج إلى وقت أطول في المستشفى تنتقل من هناك. تصل إلى"شهار"من مستشفيات بعيدة أحياناً، لأن عدد المرضى هناك في اطراد. لماذا تتزايد أعداد المرضى النفسيين؟
سبب آخر يدفع المرضى إلى القدوم، سمعة المستشفى الجيدة! ربما كانت هذه السمعة بين الناس مريبة، لكن المستشفى يحظى بسمعة جيدة بين عائلات شُفي أبناؤهم أو أقاربهم حين انتقلوا إلى"شهار". أطباء في المستشفيات الأخرى ينصحون بالانتقال، فالعناية هنا تختلف كثيراً، والموظفون اعتادوا ذلك، كل شيء مجهز لاستقبال أفراد سيقيمون طويلاً، خصوصاً مرضى الفصام أو الذهان تحديداً.
ما مصير بعض هؤلاء حين يُشفون ولا يجدون من يستقبلهم أو يقبلهم؟ طبعاً الشفاء هنا لا يعني شفاءً تاماً،"على الأقل بنسبة تفوق 60 في المئة". هم يستطيعون بعد ذلك الاختلاط بالمجتمع من دون أن يلاحظ أحد عليهم شيئاً.
في فترة مضت، كان هؤلاء من يشفى ولا يجد عائلة يمضون بقية حياتهم في المستشفى، يستطيعون الخروج والتجول ثم العودة. في نظر الأطباء هم ليسوا خطيرين.
ولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز أقر أخيراً اقتراح بناء دور نقاهة تخصهم في مدن المملكة. سيسكنون فيها، ويتمتعون بحياتهم مثل غيرهم، لن يهتموا سواء كانت لهم عائلة أو لا، فهم الآن على أي حال نجوا من المرض"الخبيث"، سيبدأون حياة جديدة.... سيزورهم الأطباء مرة كل أسبوع، للتأكد من أن حالتهم لن تنتكس، وأنهم يواظبون على أدوية محددة. المهم أنهم سيخرجون، بعدما نجوا من المرض"الخبيث".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.