أن تدخل الموسيقى السجون، هذا أمر لم يعد مستغرباً في البلاد والمجتمعات المتقدمة. أما أن ينشئ المعهد الموسيقي الوطني الكونسرفاتوار في لبنان فرعاً له في سجن رومية، فإنها حقاً مفارقة تستحق الدرس والتأمل والتنويه. إنها بلا ريب قفزة نوعية حضارية في الوعي المجتمعي اللبناني. فالفكرة التي رعتها المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي بالتعاون مع المرشدية العامة للسجون، تلقفها الدكتور وليد غلمية وأطلق فكرته الرائدة في هذا المجال وأعلن عن رعاية مشروع تعليم المساجين الموسيقى في زنزاناتهم. الملفت في هذه الخطوة، أن يرسل غلمية أساتذة لتعليم هؤلاء شأن سائر طلاب المعهد. يتم التعرف الى ميولهم الموسيقية، ويفرّغ لهم الأساتذة المتخصصون، وينالون شهادات. قائد موسيقى قوى الأمن الداخلي وأستاذ الإنشاد السرياني والصولفيج وتاريخ الموسيقى في الكونسرفاتوار الوطني، العميد الدكتور إيليا فرنسيس هو صاحب الفضل والخدمات الجليلة لهذا الفرع. وقدّم فرنسيس صاحب مشروع"الموسيقى وسيلة إصلاح، وعلاج وثقافة"، أبحاثاً عدة في هذا المجال وكرس له الكثير من جهده ووقته. وظل في إثر مشروعه"الرسالة"حتى تجلى مواهب لدى السجناء أثبتت قدرتها وكفاءتها عزفاً وغناء وخطابة. مع فرنسيس تقف مندهشاً، إذ أن أجمل ما يحيلك عليه مشروعه تلك الأسئلة التي يستولد بعضها البعض الآخر. لعل الصور التي اغتبطنا لنجاحها ونحن نشاهد نزلاء السجون وقد تحولوا من مجرمين إلى طلاب موسيقى، أحالتنا على السؤال الكبير الذي لم يكن لنا بدّ من طرحه: ما هو حجم اغتباط الفنان الذي صارت انفعالاته غبطة إبداع وغبطة تذوق معاً؟ الغناء دواء المجانين وفق أبي العتاهية الشاعر الجاهلي، كذلك فإن"إخوان الصفا"استخدموا الموسيقى علاجاً في بيمارستاناتهم. تماماً وفق قول احد الحكماء، فإن الموسيقى لها تأثيرات في نفوس المستمعين كتأثير الأجسام الحية والأدوية والترقوات. ومعروف أيضاً أن ابن سينا والرازي عالجا الغالبية من مرضاهما النفسانيين بالموسيقى، وهي الوسيلة الأكثر اتباعاً اليوم في العلاج النفسي. أما أرسطو فيقول:" الموسيقى هي الجرعة الحنون التي تريح النفس والبدن معاً". وفضلاً عن أن الموسيقى وسيلة لعلاج المرهقين نفسياً وجسدياً، وعنصراً أساسياً في الحد من المشاكل لدى المراهقين، كمشاكل النطق لدى بعض الأطفال، فإنها تؤثر في جهاز المناعة لدى الإنسان، وثمة أعضاء في الجسم لا تتغذى إلا بالموسيقى. يقف السجان في حضرة سجانه وكأنه كائن مجرد من عاطفته، مسحوب من قلب القسوة. كأنه كائن انفصل عن النظام الأخلاقي الإنساني وفتح مقتلة لا يوفر فيها الطفل ولا الشاب ولا العجوز ولا العصفور ولا النبات. كأنه كائن لا يمت إلى الكون بصلة، ولا دخل للمجتمع بما ورث واكتسب من سلوكيات. يقول هنري برجسون 1859 - 1941 :"حينما نشعر بمحبة أو كراهية، أو حينما نحس أننا فرحون أو مكتئبون، لا نكون ندرك ما تنطوي عليه نفوسنا من إيقاعات عميقة باطنة، بل نكون مدركين فقط من عاطفتنا مظهرها الخارجي". أما فرنسيس فيقول:" الموسيقى حين تصدح تخرس اللغات كلها، فيخرج الباطني الموروث منفرطاً كمسلات وحلية ناشفة حين تهطل سحابات الموسيقي مرطبة الأرواح، محيية الأجساد، مصحية الضمائر. ويقف السجين وقفة من شُفي من أدرانه أمام ضميره، ليعيد بناء ما تهدم ويتحضر للظهور مجدداً وأخذ دوره الإيجابي في مجتمعه. هذا الوجه الإصلاحي العلاجي الذي يتوجه للإنسان بغض النظر عن سنه أو ثقافته. تجارب وأحاسيس كهذه نعيشها كل يوم مع السجناء في غالبية سجون لبنان. السجين خ.خ يقول:"الموسيقى تطهير للنفس والعاطفة، وتمنحني الشعور بالتسامح، وتلقي على حياتي مسحة سحرية تساعدني على تحمل عذاب السجن". أما زميله ي.ن وهو في فرع كونسرفاتوار رومية فيقول:"الموسيقى تساعدني على قضاء فترة سجني، لأنها تغذي روحي وعقلي وتهدئ أعصابي". يرى فرنسيس أن المبادرة الموسيقية التي رعاها غلمية في السجن المركزي في رومية هي سابقة في العالم العربي وبعض الدول الغربية". وكان غلمية رعى حفلة توزيع شهادات على هؤلاء السجناء قائلاً لهم:"الكلمات التي سمعناها تجعل الصخر ينطق، هذه هي ميزة لبنان العطاء وإدراكه للإنسانية... أصلحوا الخطأ، اعزفوا وغنوا. من يدرك ذلك يصحح خطأه". وحضر حفلة التخرج الفنان وديع الصافي و أندريه سويد والأب إيلي نصر. وقد وقف السجناء مع هؤلاء الكبار ينشدون جمعياً كلنا للوطن للعلى للعلم. نشر في العدد: 16752 ت.م: 14-02-2009 ص: 39 ط: الرياض