قبل خمسين عاماً، ذاع صيت جاسوس خيالي. ولازم شهرة الجاسوس هذه ميل النقاد الى وسم عالمه بالرداءة والبذاءة. و"د. نو"هي سادس رواية من سلسلة روايات جاسوسية بدأ يان فلامينغ، قارئ الصحف النهم والساخر، نشرها، في 1953. وكتب فلامينغ في روايته الاولى"كازينو رويال":"رائحة الدخان والعرق العابقة في كازينو في الثالثة فجراً تبعث على التقزز". وفي هذا الجو المقزز، أبصر جايمس بوند النور. ونفدت نحو خمسة آلاف نسخة من هذه الرواية. وسرعان ما تسللت روايات جايمس بوند الى حياة البريطانيين، وراجت في بريطانيا، وسافرت من ضفة الأطلسي الأوروبية الى ضفته الأميركية. وفي 1958، بدأ الصحافيون والنقاد الأكاديميون يتناولون هذه الروايات بالنقد والتمحيص. فرأى برنارد برغونزي أن روايات فلامينغ سوقية وفظة، وتحتفي بالعنف الذكوري وباستتباع النساء، وبالجنس المقزز والمقرف. ونددت"مانشستر غارديان"بتقهقر الذائقة الأدبية، إثر تسويق روايات جايمس بوند خارج بريطانيا. وقارنت روايات جايمس بوند برصانة الروايات الجاسوسية التي تزامن صدورها مع صدور"كازينو رويال"في 1953. ومن هذه الرواية رواية"كلوب لاند هيروز"لصاحبها ريتشارد أوسبورن، وروايات جون بوشان ودورنفورد ياتتس. ففي هذه الروايات، لا يحاكي كلام شخصيات الرواية إعلانات مجلة"نيويوركر أد"الاعلانية. ورأى بول جونسون في صحيفة"نيو ستايتمانت"أن رواية"د. نو"هي أسوأ كتاب قرأه في حياته، وهو كتاب يجمع هوامات جنسية تنتاب تلميذ مدرسة، الى ميل أبناء الضواحي الى تقليد الأغنياء والنخب، وفخامة عالمه. ولم يفلح وابل الهجوم على فلامينغ، وعلى بطله بوند، في ثني الكاتب عن مواصلة نشر روايات جايمس بوند الى حين وفاته، في 1964. وساند الرئيس الاميركي، جون كينيدي، الكاتب. وأعلن أن روايات"007"، وهو رقم جايمس بوند في سلك الاستخبارات، تبعث فيه الحماسة. والتقى كينيدي فلامينغ، وناقشا مسألة استبدال اسم"د. نو"بپ"د. كاسترو". وقيل ان كينيدي، وقاتله لي هارفي أوسفالد كانا يقرآن رواية من روايات جايمس بوند في الليلة السابقة للاغتيال في دالاس. ولا يعرف أحد صحة هذا القول. وانتقلت روايات بوند الى عالم السينما، في 1962. وإثر وفاة فلامينغ في 1964، صدرت رواية"ديفيل ماي كار"الشيطان قد يأبه أو الشيطان قد يهمه الأمر لصاحبها سيباستيان فولكس. وحاكى فولكس أسلوب فلامينغ، وكتب الرواية"على أنه يان فلامينغ". وحذا الأديب البريطاني، كينغسلي آميس، حذو فولكس، وحاكى فلامينغ، وكتب رواية"كورونيل سان"من سلسلة جايمس بوند. وتوالى صدور روايات جايمس بوند بأقلام كتاب مختلفين. وهذا أمر يبعث على الدهشة. ولطالما حاكى أدباء صغار وبائسون أسلوب الكتاب الكبار. وخرج أدباء كبار فازوا بجائزة"بوكر برايز"الأدبية، من أمثال آميس على هذا المثال، وأرسوا سابقة من نوعها، وقلدوا أسلوب يان فلامينغ المثال الرديء، وحاكوه. ولو قُيد لفلامينغ العلم بأن أدباء كباراً يحاكون أعماله، لارتبك واحتار في أمرهم. فهو تنصل من رواياته، وأطلق عليها ساخراً اسم"كيس كيس بانغ بانغ"قبلة فقبلة، فإطلاق نار وإطلاق نار. ولا شك في أن أعمال فلامينغ تنقل صورة مشوهة أو غير أمينة عن عالم الجاسوسية. ولكنها مرآة أمينة لأرق البريطانيين، أمةً وشعباً، وضيقهم بأفول قوتهم العظمى. ولا تشبه حياة فلامينغ، وظروف نشأته، حياة بطله جايمس بوند الثري. فهو ولد في أسرة متواضعة في منطقة فيكتورين داندي. وقتل والده على جبهة من جبهات الحرب الاولى الغربية، في 1917. وخلف موت والده أثراً كبيراً في حياته. وعلى خلاف شقيقه، لم يلتحق فلامينغ بجامعة أوكسفورد، وانتسب الى أكاديمية ساندهورست الحربية. وإثر خروجه منها، أخفق في دخول عالم الصحافة وعالم الصيرفة. وكان فلامينغ في الثلاثين من العمر يوم أنقذه اندلاع الحرب من إخفاقاته المهنية المتتالية. فالتحق بقسم الاستخبارات في وزارة البحرية، واستوحى شخصية رئيس جايمس بوند،"أم"، من رئيسه في الوزارة، نائب الاميرال جون غودفري. وعلى خلاف حياة بطله جايمس بوند المليئة بال"اكشن"والحركة والتشويق، اتسمت حياة فلامينغ بالرتابة. ودارت عملية فعلية على مرأى من نظره مرة واحدة في حياته، في 1942. ويومها شاهد، على متن مدمرة، غارة ديبّي، على بحر المانش. وقضى في هذه الغارة ألف رجل في عملية لا طائل منها، ولا هدف يرجى. وربما كانت مشاهدة فلامينغ هذه العملية وراء بداية تشكيكه في عظمة بريطانية وقوتها. وبعد الحرب الثانية، وجد فلامينغ عملاً في صحيفة، وتزوج بآن روثمير. فهو لم يكن زير نساء مثل بطله، وافتقر الى مهارة بوند في مغازلة النساء، واستمالتهن. فبطله، جايمس بوند، هو"خليط من مجموعة صور يتمنى الرجال أن يكونوا عليها"، على حد قول آميس. عن جيوفري ويتكروفت،"نيويورك ريفيو أوف بوكس"الأميركية، 14/8/2008