بعد مرور أكثر من أسبوعين على اجتماعات اللجنة المكلفة صوغ البيان الوزاري، فوجئ وزراء الأكثرية بتصريح العماد ميشل عون الذي طالب بعدم التنازل عن سلاح"حزب الله"قبل أن تحل جميع القضايا المتعلقة باسرائيل، ومنها حق العودة للفلسطينيين ورفض التوطين! حدث هذا عندما أوشكت اللجنة الوزارية على إعلان صيغة مرنة تنص على حق لبنان في مقاومة الاحتلال الى أن يتم تحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. في ضوء هذين الموقفين المتعارضين، سارع المجتهدون من الفريقين، الى البحث عن صيغة قابلة للتفسير والتأويل بحيث يتسنى لرئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان تلبية دعوة الرئيس بشّار الأسد، خصوصاً أن مستقبل العلاقات السورية - اللبنانية ينتظر هذه الزيارة قبل الاتفاق على رسم صورة المرحلة الجديدة بين البلدين. ممثلو الموالاة في اللجنة عرضوا ما جاء في خطاب القسم على لسان رئيس الجمهورية، واعتبروه المؤشر السياسي لضرورة وضع استراتيجية دفاعية تقوم على مشاركة المقاومة والجيش. ويقول الرئيس في خطابه:"إن نشوء المقاومة كان حاجة في ظل تفكك الدولة. واستمرار المقاومة كان في التفاف الشعب حولها، وفي احتضان الدولة - كياناً وجيشاً - لها. إلا أن بقاء مزارع شبعا تحت الاحتلال، ومواصلة العدو الاسرائيلي لتهديداته وخروقاته للسيادة، يحتمان علينا وضع استراتيجية دفاعية تحمي الوطن، متلازمة مع حوار هادئ للاستفادة من طاقات المقاومة خدمة لهذه الاستراتيجية، فلا تستهلك انجازاتها في صراعات داخلية". ممثلو المعارضة اهتدوا بالبوصلة السياسية التي حدد اتجاهاتها أمين عام"حزب الله"السيد حسن نصرالله. ففي خطاب ألقاه يوم 26 أيار مايو، شدد على البند الوارد في اتفاق الدوحة والقاضي بعدم استخدام السلاح لتحقيق مكاسب سياسية. وكان بهذا الكلام يؤكد عدم تكرار أحداث 7 أيار، لأنها أخرجت عناصر الفتنة المذهبية من صندوق"بندورا". ولكنه في الوقت ذاته رفض دمج قوات المقاومة الاسلامية بملاك الجيش اللبناني النظامي، اسوة بما فعله رفيق الحريري. وهكذا دعا السيد نصرالله، الجميع الى الاقتداء بالحريري الذي جمع بين مشروع إعمار الدولة ودعم المقاومة. ثم تساءل في خطابه: حين جاء البعض ليضع المقاومة والحكومة أمام خيارين، إما هونغ كونغ أو هانوي؟ قلنا إننا لا نقلد أحداً... لا هونغ كونغ ولا هانوي. نحن اللبنانيين نضع النموذج. نستطيع أن نقدم للعالم بلداً يكون فيه الإعمار والاقتصاد والدولة والشركات الى جانب مقاومة لا تمارس سلطة الدولة ولا تنافس السلطة في سلطانها". ويرى فريق 14 آذار ان إقرار هذه التسوية يمكن أن يفتح باب النقاش حول جدوى الجيش اللبناني المؤلف من حوالي 60 ألف عنصر والاكتفاء بالشرطة والدرك. ذلك أن المهمة الأساسية التي يضطلع بها أي جيش نظامي، تنحصر في واجب الحفاظ على سيادة الدولة وأمن حدودها. وفي حال تثبيت هذه الازدواجية في البيان الوزاري فإن ذلك معناه الغاء مهمة الجيش الذي تزيد تكاليفه السنوية على ثلث الموازنة. ومن المؤكد أن القبول بهذا الحل سيضعف موقف العماد ميشال سليمان، الذي اختير بإجماع توافقي مع الأمل بأن يجعل من الجيش قوة قادرة على تأمين السيادة وتوفير الحماية للجميع والغاء المظاهر المسلحة. ويبدو أن الانتصارات العسكرية التي حققها"حزب الله"، إن كان في حرب تحرير الجنوب من احتلال دام عشرين سنة... أم في حرب المواجهة ضد اسرائيل سنة 2006... أم في إرغام اسرائيل على إعادة كل الأسرى وجثامين الشهداء: كل هذه الانجازات أعطت"حزب الله"هامشاً اضافياً لاستحقاق وكالته عن الجيش. ويرى المحللون أن"حزب الله"لم يعد حاجة لبنانية فقط، وإنما أصبح حاجة سورية يمكن استخدامها كواسطة لمضايقة إسرائيل أثناء المفاوضات، أو اثناء تنفيذ اتفاق السلام. كذلك هو حاجة إيرانية تستطيع طهران بواسطته الوصول إلى شاطئ المتوسط وإلى شمال إسرائيل. وهذا ما يفسر وجود وفد إيراني رفيع المستوى في استقبال الاسرى المحررين. يقول أحد نواب"حزب الله"إن عملية تفكيك البنية التحتية للحزب تحتاج إلى ثلاث سنوات، على أقل تقدير. ذلك أن للحزب مواقع مختلفة في لبنان، بما في ذلك مناطق الجنوب وبعلبك والضاحية الجنوبية. وتحتوي هذه المناطق على معسكرات تدريب وأجهزة تشويش وتنصت وإعلام، إضافة إلى مصانع لانتاج أسلحة خفيفة. كما أنها تضم مكاتب للقيادة داخل الملاجئ وغرف اتصال ومخازن اسلحة وصواريخ ومواقع ثابتة على طول خط المواجهة. ويوجد للحزب أيضاً جهاز لتنفيذ نشاطات استخبارية عالمية نجح في اختراق كل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية. وقد ساعد هذا الجهاز في تضليل الجيش الإسرائيلي خلال حرب تموز يوليو 2006، الأمر الذي أدى إلى اجراء مناقلات واسعة في صفوف"الموساد". بقي السؤال المتعلق بالموقف المبدئي الذي يقفه"حزب الله"من النشاطات الإسرائيلية المريبة، كونه لا يشاطر دمشق اطمئنانها إلى نيات العدو. ومثل هذا الموقف المتشدد يستدعي المراجعة المتأنية للقرارات التي اتخذها ايهود أولمرت، ان كان بالنسبة إلى فتح صفحة التفاوض مع سورية، أم بالنسبة إلى اغلاق ملف الاسرى مع لبنان. يعترف وزير خارجية ايطاليا فرانكو فراتيني بأن اولمرت أخبره اثناء زيارته إسرائيل، عن استعداده لإجراء مفاوضات جادة حول مرتفعات الجولان. وقد نقل هذه الرغبة إلى الرئيس جورج بوش وإلى رئيس وزراء تركيا رجب طيب اردوغان. كذلك اطلع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي على هذه النية، الأمر الذي شجعه على توجيه الدعوة إلى الرئيس الأسد للاشتراك في احتفالات 14 تموز. وكان هدفه من وراء هذه التحركات فصل سورية عن إيران مقابل اتفاق سلام يشمل انسحاباً إسرائيلياً من الجولان. علماً بأن دمشق كانت تنتظر التغيير في رئاسة الجمهورية الأميركية كي تفتح ملف المفاوضات المجمدة منذ وصول بوش إلى البيت الأبيض. ولكن تشجيع تركيا وفرنسا وايطاليا أقنعها بضرورة اختبار نيات إسرائيل. ولما اكتشفت مدى جدية الموضوع أبلغت حليفتها إيران بأنها ستستغل عملية الانفتاح لتبريد الأجواء الغربية ضدها. ذكرت صحيفة"هآرتس"أن أولمرت قرر التصدي لمشروع التمدد الإيراني عن طريق الانسحاب من الجولان واقفال ملف الاسرى مع"حزب الله". وكان بهذا القرار يعارض المؤسسة العسكرية التي ترى أن الهدوء السائد على جبهة الجولان منذ 1974، لا يستدعي تعريض البلاد لمشكلة أمنية وديموغرافية يصعب تجاهلها. ولكن أولمرت كان يقاوم بهذه الخطوة، خيار الحرب ضد إيران لاقتناعه بأنها ستكون مدمرة. وأشارت الصحف إلى خلافه مع قادة الأركان الذين فضلوا المواجهة على القبول بإيران نووية. والمرجح أن أولمرت كان يخاف من انتكاسة عسكرية ثانية، لذلك اشترط أن تخضع عملية الانسحاب إلى استفتاء عام أو إلى موافقة غالبية برلمانية قوامها 80 نائباً. وكان في كل لقاءاته مع العسكريين يحذر من تداعيات الحرب على المواطنين، ومن تأثير القوة التي تزودت بها"حماس"و"حزب الله". وبحسب تقارير الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، فإن"حماس"تزودت بصواريخ مضادة للطائرات والدبابات. كما بنى لها خبراء إيرانيون نظاماً صاروخياً متقدماً باستطاعته الوصول إلى كل المنشآت الاستراتيجية والقواعد الجوية. أما بالنسبة ل"حزب الله"فإن التقارير تشير الى تحصنه وراء أربعين ألف صاروخ زرعت الى الشمال والجنوب من نهر الليطاني، كذلك ضاعف عدد مقاتليه، الأمر الذي سيفرض على الجيش الاسرائيلي تكرار احتلاله للجنوب من أجل إبعاد عناصر الحزب. وعليه يرى اولمرت أن إتمام عملية تبادل الأسرى يطوي صفحة حرب تموز 2006 ويخفف نقاط الاحتكاك، خصوصاً أثناء فترة التفاوض مع سورية. يبدو أن هذا المنطق لم يعجب العسكريين الذين كشف المرشح الديموقراطي باراك اوباما، عن استعداداتهم لشن هجوم على ايران في حال فشلت العقوبات الجديدة. ومع أن أوباما لم يستند في تصريحه الى أي مصدر اسرائيلي، إلا أن الانطباع الذي حصل عليه عبر محادثاته في القدس، شجعه على هذا الاستنتاج. وترى شبكة"ايه بي سي نيوز"التي نقلت الخبر، أن أوباما اطلع برلمانيين ديموقراطيين على بعض الانطباعات التي نقلها عن زعماء اسرائيليين. وتلتقي الصحف الفرنسية في تحاليلها مع هذا الخيار الذي عرفه الرئيس ساركوزي أثناء زيارته لاسرائيل. وهذا ما يفسر تحمسه للانفتاح على سورية لعل مفاوضاتها مع اسرائيل تلجم العسكريين وتمنعهم من الإقدام على مغامرة يصعب التنبؤ بعواقبها. يوم الأربعاء الماضي فاجأ ايهود أولمرت أعضاء حزب"كديما"الحاكم وزعماء الأحزاب الأخرى، بإعلان قرار العزوف عن الدخول في المنافسة على زعامة الحزب في انتخابات 17 أيلول سبتمبر المقبل. ومع أنه برر انسحابه بحملات التجريح التي يتعرض لها، إلا أن المطلعين على حقيقة الأمر، يعزون هذا القرار الى خلافه مع القادة العسكريين. والدليل أن جبهة الجنوب لم تكد تهدأ بفعل اتمام صفقة تبادل الأسرى، حتى واصل الطيران الحربي الاستطلاعي خرقه للأجواء اللبنانية وللقرار 1701. وقد حلق على ارتفاع منخفض فوق مناطق العرقوب وحاصبيا ومرجعيون والبقاعين الغربي والأوسط. وعلى الصعيد الميداني، كثفت القوات الاسرائيلية عملها في منطقة قرية الغجر المحتلة. وشوهدت الجرافات وهي توسع الطرقات المحيطة بهذه القرية. والملاحظ أن هذه التحركات المريبة جرت وسط اجراءات عسكرية مشددة في محيط"الغجر"وعند التلال المطلة على نبع الوزاني. وكان من الطبيعي أن تثير هذه الأعمال، حفيظة ضباط الارتباط الدوليين، ومقاتلي"حزب الله". وادعت قيادة اسرائيل الشمالية، بأنها تقوم بمناورات وهمية عند الساحل الجنوبي بمشاركة الطائرات الحربية. يفسر بعض المحللين في واشنطن الانطباع الذي حمله أوباما، بأنه نتيجة رفضه لدعم هذه المغامرة العسكرية في حال خلف جورج بوش. وبما أن الرئيس بوش مستعد دائماً لمساندة هذا الهجوم قبل انتهاء مدة ولايته في 20 كانون الثاني يناير 2009، فإن المؤسسة العسكرية الاسرائيلية مضطرة لتنفيذ تهديداتها قبل هذا التاريخ. ومن المتوقع أن يكون موعد الضربة بين آخر أيلول وآخر الشهر الأخير من هذه السنة. أي بعد تنحي ايهود أولمرت ووصول وزيرة الخارجية تسيبي ليفني أو وزير النقل شاؤول موفاز الى قيادة حزب"كديما". في دمشق أعلن فجأة عن قرب زيارة الرئيس بشار الأسد الى طهران. وقيل في تفسير ذلك انها معنية بالتنسيق السياسي بين الدولتين قبل وصول الرئيس الفرنسي ساركوزي الى سورية في أول أيلول. وترى باريس أن زيارة الاسد لطهران تمثل آخر محاولة من محاولات التدخل والوساطة قبل أن ينفجر الوضع في المنطقة، ويقفز سعر برميل النفط الى فوق المائتي دولار. * كاتب وصحافي لبناني