طرقات متعرجة تشقّ أودية سحيقة تبعث على الصمت والخشوع تفضي الى حاقل في قضاء جبيل محافظة جبل لبنان فتخترق السيّارة طريقاً ضيّقاً تزنّره معارض للأسماك المتحجرة تنهض شاهداً على تاريخ بلدة ذاع صيتها في اكتشاف المتحجرات المائية على مدى العصور. يضم"متحف رزق الله نهرا للأسماك المتحجرة"متحجرات يعود بعضها الى عصر"طوفان نوح"مما جعله أهم المتاحف التي تضم أحافير مائية. ومنه تسلّم البابا الراحل يوحنا بولس الثاني هدية عبارة عن قطعتين صخريتين تحملان سمكتين منقرضتين نادرتين خلال زيارته التاريخية الى لبنان. براكين وزلازل ضربت لبنان أهمها الزلزال الأكبر منذ 100 مليون سنة، أدت الى صعود طبقات من باطن البحر الى أعالي الجبال حاملة معها ملايين الاسماك والحيونات البحرية الى ارتفاع 700 متر عن سطح البحر اليوم، فانطبعت صورها بين ثنايا الصخور في شكل واضح ... طبق الأصل عن الأسماك الحقيقية، وحفظت عبر العصور لتكوّن أجمل لوحات طبيعية تميز بها لبنان عن غيره. وبالعودة الى دراسات متخصصّة قديمة فإن البحر الأبيض المتوسط كان يغطي مناطق شاسعة في قارتي أوروبا وأفريقيا وصولاً الى الهند وقمم جبال الهيمالايا. وكان المتوسط يعرف منذ 200 مليون عام ب"محيط تيثيس"بحيث أحدثت الإنسياقات القارية وتحركات الطبقات الجيولوجية اختلافات في سلاسل جبلية عظيمة منها الألب وزارغوس والقوقاز وسلسلتي جبال لبنانالشرقية والغربية حيث ترسّبت عليهما منذ حوالى مئة مليون سنة حيوانات العصور الجوراسية والطباشيرية من أسماك وبحريات. وبفعل تآكل الصخور وتفتّتها، غلّفت هذه المخلوقات بطبقات متعددة، وبينما تتكوّن الأرض اللبنانية من 14 طبقة، تعتبر الطبقة الكلسية العليا أغناها بالمستحثات ومن هنا تعود أحافير بلدة"حاقل"الى المستويات الكلسية العليا ويعود تاريخها الى العصر الطباشيري الحديث أي ما قبل 100 مليون سنة، حيث تكثر فيها الأسماك والفرش والقريدس والأفاعي وقنافذ البحر والسلاطعين والشوكيات وصولاً الى الرخويات والأعشاب البحرية. ووجدت أيضاً رسوم للأخطبوط ولكن في بلدة حجولا القريبة من حاقل. واللافت أن رسماً لسمكة"كلكنتا Cyclobatis التي تعيش على سواحل مدغشقر، وجد في أحافير حاقل وهي تجسّد تطور الحياة البحرية إذ تتنفس تحت الماء بواسطة رئتين وتملك قوائم تماماً كما الحيوانات البرية! هذه المتحجرات"Fossile"اكتشفت للمرة الأولى على يدّ أسقف فلسطين أوزيب دو سيزاري في القرن الرابع الميلادي، اذ أعتبر وجودها في جبال لبنان دليلاً على طوفان نوح وتوسّع اكتشافها في القرن الثالث عشر ابّان الحملة الصليبية السادسة 1248-1254، فصدر أول شرح علمي لها في القرن التاسع عشر بفضل العالم دو كروني دو بلانفيل. وما يلفت الانتباه ان هذه المتحجرات من أسماك موجودة تقريباً على ارتفاع متواز في جبال لبنان ما بين 700 و1000 متر ومن أشهر مناطق تواجدها: حاقل وحجولا في منطقة جبيل، نهر الجوز البترون والكفور في كسروان، وعنايا في البقاع، ونيحا والباروك في الشوف، الى ساحل علماً، الذي ينخفض جغرافياً قليلاً عما اوردناه من مناطق. وهناك توزّع مبعثر ومترامي للقواقع والاصداف ما بين فاريا والناقورة جنوباً لكنها ليست بأهمية موجودات المناطق الآنفة الذكر. ولولا جهود اهل حاقل لبقيت هذه الثروة ضائعة وغير مستثمرة سياحياً في لبنان. ففي عام 1991 انشأ رزق الله نهرا وبجهد وتمويل ذاتيين أول متحف للمتحجرات البحرية الموجودة في مقالع حاقل، حيث جمع ما نبشه من الارض خلال 15 سنة. والمساحة التي يتم فيها التنقيب اي المقالع لا تزيد على 3 آلاف متر مربع وهي تحوي ثروة هائلة من المتحجرات خصوصاً في مقلع"بلاطة السمك"ومساحته 1000 متر. ويشرف نهرا شخصياً على استخراجها نظراً للدقة المطلوبة في أعمال كهذه كي لا يذهب"كنز الأحافير"الذي يعود الى ملايين السنين بضربة ازميل او مطرقة. ويستعمل لاستخراج هذه المتحجرات ادوات تقليدية اذ لا يجوز أبداً استخدام الجرافات او الآلات لذلك يقتصر الامر على المطرقة والازميل والمخل للطرق بين ثنايا الصخور. وتمتاز المتحجرات اللبنانية بجودتها وصلابتها فلا تتكسر أو تتهشم بسرعة كما في ألمانياوفرنسا، بسبب تكوين الصخور ونوعية التربة والمناخ في لبنان. ويتذّكر نهرا أنه ألف منذ صغره الذهاب الى منطقة البلاطة للبحث عن الأسماك المتحجرة التي كان الجنود الفرنسيون يخرجونها خلال حقبة الإنتداب الفرنسي على لبنان ويلفّونها بالقطن والورق ويرسلونها الى فرنسا. في حين كان أهل البلدة يجهلون قيمتها الحقيقية بل يضحكون على الجنود. ويقدّم نهرا تفسيراً علمياً توصلّت اليه الدكتورة ماري أبي صعب المتخصصة في علم الكائنات البحرية بعد زيارتها للمتحف قائلاً:"إن معظم الأسماك المتحجرة هي من النوع المنقرض نظراً للتطور الجيولوجي الكبير الذي عرفته منطقتنا.