مؤتمر صحفي يكشف ملامح نسخة تحدي البقاء لأيتام المملكة    الهيئة العامة للعناية بشؤون الحرمين تنهي استبدال كسوة الكعبة    الإبداع السعودي يتجلى في «سيلفريدجز» بلندن    «الظبي الجفول».. رمز الصحراء وملهم الشعراء    من القارات ل«المونديال».. تاريخ مواجهات السعودية والمكسيك    في الشباك    «الناتو» يتجه لإقرار أكبر زيادة في الإنفاق الدفاعي    بكين تحذّر من تصاعد توترات التجارة العالمية    مهندس الرؤية وطموحات تعانق السماء    المملكة حضور دولي ودبلوماسية مؤثرة    القطاع غير الربحي في رؤية 2030    رخصة القيادة وأهميتها    الجوعى يقتلون في غزة.. 94 شهيداً    صوت الحكمة    صيف المملكة 2025.. نهضة ثقافية في كل زاوية    الخرطوم: كينيا تسلح «الدعم السريع»    مرور العام    جبر الخواطر.. عطاءٌ خفيّ وأثرٌ لا يُنسى    دورتموند يكسب أولسان ويتصدر مجموعته بمونديال الأندية    «الشورى» يطالب بخفض تذاكر طيران كبار السن والمرابطين    فيصل بن نواف يشهد توقيع مذكرة شراكة لدعم المراكز التأهيلية بسجون الجوف    أمير تبوك يستقبل مدير فرع وزارة الصحة بالمنطقة والمدير التنفيذي لهيئة الصحة العامة بالقطاع الشمالي    نائب أمير منطقة مكة يستقبل القنصل البريطاني    وزير البلديات والإسكان يتفقد مشاريع استثمارية نوعية في الشرقية    النصر ينهي العلاقة التعاقدية مع المدرب "ستيفانو بيولي"    " طويق " توقع اتفاقية مع جمعية " قدوات" لاستثمار خبرات كبار السن بالموارد البشرية    من أعلام جازان.. الشيخ الدكتور علي بن محمد عطيف    إجراء أول عملية جراحية بالروبوت في مستشفى الأمير سعود بن جلوي بالأحساء    الأمير سعود بن نهار يبحث مع أمين الطائف المبادرات والفعاليات المقدمة في الصيف.    رئيس جامعة أم القرى يترأس الجلسة العاشرة لمجلس الجامعة للعام الجامعي 1446ه    بنفيكا يكسب البايرن ويتأهلان لثمن نهائي مونديال الأندية    تسجيل محمية عروق بني معارض في القائمة الدولية لحماية الطبيعة    أمير الجوف يبحث تحديات المشروعات والخدمات    النفط يتراجع بعد يوم من التصعيد وإنهاء الحرب    تداول يعوض خسائر أسبوع    إعلان نتائج القبول في البورد السعودي    أقوى كاميرا تكتشف الكون    انحسار السحب يهدد المناخ    العثور على سفينة من القرن ال16    الذكاء الاصطناعي والتعليم.. أداة مساعدة أم عائق للتفكير النقدي    الجوز.. حبة واحدة تحمي قلبك    الميتوكوندريا مفتاح علاج الورم الميلانيني    استشارية: 40% من حالات تأخر الإنجاب سببها الزوج    شدد على تطوير "نافس" وحضانات الأطفال.. "الشورى" يطالب بربط البحث العلمي باحتياجات التنمية    بعد حلوله وصيفاً ل" الرابعة".. الأخضر يواجه نظيره المكسيكي في ربع نهائي الكأس الذهبية    أشاد بالتسهيلات خلال المغادرة.. القنصل العام الإيراني: ما قدمته المملكة يعكس نهجها في احترام الشعوب وخدمة الحجاج    سمو ولي العهد يتلقى اتصالًا هاتفيًا من رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية    قطر توجه رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة ومجلس الأمن بشأن الهجوم على قاعدة العديد الجوية    برامج التواصل الاجتماعي.. مفرقة للجماعات    47 أسيرة في السجون الإسرائيلية.. الاحتلال يواصل انتهاكاته في غزة والضفة والقدس    الإطاحة ب 4 أشخاص لترويجهم أقراصاً خاضعة للتداول الطبي    أسرة الفقيد موسى محرّق تشكر أمير المنطقة على مشاعره النبيلة وتعزيته    صور إنسانية من الماضي عن مدينة أبها    تسجيل محمية عروق بني معارض في القائمة الخضراء للاتحاد الدولي لحماية الطبيعة    أمير تبوك يطلع على تقرير أعمال فرع وزارة التجارة بالمنطقة    الرواشين.. ملامح من الإرث المدني وفن العمارة السعودية الأصيلة    جامعة أم القرى توقّع مذكرة تفاهم مع هيئة جامعة كامبردج لتعزيز التعاون الأكاديمي والبحثي في تعليم اللغة الإنجليزية    الهيئة الملكية تطلق حملة "مكة إرث حي" لإبراز القيمة الحضارية والتاريخية للعاصمة المقدسة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأمين العام ل "مجمع الفقه الدولي" يؤكد أن كتابة دستور إسلامي "موحد" لا تستهدف "إعادة الخلافة" . عبدالسلام العبادي ل "الحياة": لست ضد عضوية السيدات في أعلى مؤسسة فقهية إسلامية
نشر في الحياة يوم 14 - 06 - 2008

استبعد الأمين العالم ل "مجمع الفقه الدولي" التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي الدكتور عبدالسلام العبادي، في حوار مع"الحياة"انعكاس الخلاف السياسي بين دول إسلامية على الفقهاء في المجمع، الذي يعد أعلى سلطة فقهية في العالم الإسلامي.
وقال:"هذا ما يردده بعض الناس، والحقيقة أنه لا يلاحظ في الترشيحات التي تقدمها الدول الاسلامية مثل هذا الأمر، مع ذلك يوجد في النظام الأساسي نوع من الضمانة العلمية، ومنها أن لمجلس المجمع نفسه حق اختيار ما لا يتجاوز ثلث أعضائه من كبار العلماء في العالم الإسلامي، وبالتالي سيكون هؤلاء بفهمهم وتأثيرهم ضمانة رئيسية في المجمع". إلى جانب أن"القرارات تتخذ بالتصويت وبتأييد الغالبية، بما يراعي الدقة المنهجية والالتزام بالدليل الشرعي وتحقيق مصالح الأمة العليا".
وحول توصية المجمع قبل سنين بپ"كتابة دستور إسلامي"تستهدي به دول المنظمة، نفى العبادي أن يكون هدف المجمع أسلمة الأنظمة الإسلامية، أو التبشير بالخلافة الإسلامية التي ترى المنظمات الراديكالية في عودتها حلاً وحيداً للمعضلة الإسلامية الحاضرة.
وأضاف:"المسألة عندنا ليست إعادة الخلافة، علينا تأمين المادة العلمية المطلوبة لتحقيق أو خدمة أي توجه نحو الالتزام بشريعة الله". ولدى سؤاله عن دور الفقيهة في المجمع الذي كُلّف إدارته، قال إن النساء يسهمن مع الخبراء في الدراسات المتخصصة. إلا أنه نفى وجود نساء بين أعضاء المجمع، وحمل المسؤولية للدول الأعضاء"فنحن لا نصادر حريتها. المهم أن يكون المرشح متخصصاً".
في ما يأتي نص الحوار:
المجمع في الماضي كان صرحاً، لكنه بإجماع العاملين فيه لا يعكس حجم الأمة العظيمة التي يمثل... فهل سيختلف الأمر في عهدك أم أنك جئت متبعاً بإحسان لسلفك لا أكثر؟
- يجب ألا نبخس الناس أعمالهم، فالمجمع قدم الكثير للعالم الإسلامي في الماضي، وكما تعلم حرص أصحاب الجلالة والفخامة الملوك والرؤساء في مؤتمر القمة منذ إنشاء المجمع عام 1983 على أن يكون مرجعية فقهية عالمية، وقدم المجمع إنجازات عدة، خصوصاً في القضايا المستجدة، ومن الأمثلة قراراته في قضايا طبية كبيرة كأطفال الأنابيب وموضوع أجهزة الإنعاش واستخداماتها وموت الدماغ، والقضايا المالية والاقتصادية والتنموية وقضايا البنوك الإسلامية، ودوّن ذلك في مجلة"المجمع"، حيث سجلت البحوث وما تم من قرارات بخصوص ذلك. وكثير من الصياغات التي قدمها المجمع أصبحت تشريعات نافذة في كثير من دول العالم الإسلامي، لكن هذا العمل الكبير ومع تغير الظروف وتعقد المشكلات لم يعد كافياً، فاحتاج الأمر إلى أن تعلو الأصوات بضرورة تفعيل دور المجمع وإعادة هيكلته لمواكبة ما يستجد من قضايا على مستوى الأمة وما تتعرض له من تحديات، وكان من أعلى الأصوات وأقواها وأكثرها فاعلية صوت خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز ? حفظه الله ?، وكانت البداية عندما ألقى كلمته في مؤتمر القمة الإسلامي، الذي عقد في ماليزيا سنة 2003، وكانت مطالبته واضحة بإعادة هيكلة المجمع وتفعيل دوره كمرجعية فقهية للأمة.
لذا أقول: إنه مع التقدير لأعمال المجمع خلال العقود الماضية فإن هذه الحقبة تعتبر انطلاقة ثانية للمجمع.
ما الفرق الجوهري بين نظام المجمع القديم والنظام الجديد؟
- هناك أمور كثيرة تم تجديدها واستحداثها في المجمع، منها على سبيل المثال شروط العضوية وترشيحات الدول وأهداف المجمع التي تواكب المستجدات والأحداث العالمية المعاصرة والعمل على التنسيق بين جهات الفتوى في العالم الإسلامي، ومحاولة إرساء قواعد الإفتاء على الأُسس العلمية السليمة وتوحيدها قدر الإمكان بين الدول المعنية، ومن المواضيع التي أضيفت لأعمال المجمع إعداد تشريعات للتعامل مع قضايا الأمة لتكون بين يدي حكومات الدول الاسلامية للاستفادة منها، وكذلك موضوع التقريب بين المذاهب ومواجهة ظاهرة كراهية الإسلام إسلاموفوبيا.
على صعيد العضوية، قيل إن الترشيح في السابق لم يكن يتم وفق أصول علمية محددة... فماذا فعلتم بخصوص ذلك؟ وهل ستكون لكم الحرية في من تختارونه لعضوية المجمع؟
- النظام الأساسي للمجمع يقرر أن على كل دولة أن ترشح من تراه مناسباً لعضوية المجمع وفق شروط أساسية ثابتة، لكن النظام الجديد أعطى لمجلس المجمع الحق في التدقيق في العضوية، فإذا كان هناك نوع من الخلل في شروط العضوية، منها مثلاً أن يكون المرشح عالماً فقهياً ملماً باللغة العربية، فمن حقه عندئذ بحسب النظام عدم اعتماد عضوية المرشح.
ترددت أحاديث عن تجاذبات ذات خلفية سياسية حتى في مجمع الفقه... فهل هناك - حقاً - صراع فقهي يشابه الآخر السياسي؟
- هذا ما يردد بعض الناس، لكن الحقيقة أنه لا يلاحظ في الترشيحات المقدمة مثل هذا الأمر، مع ذلك يوجد في النظام الأساسي نوع من الضمانة العلمية منها أن لمجلس المجمع نفسه أحقية في أن يختار ما لا يتجاوز ثلث الأعضاء فيه من كبار العلماء في العالم الإسلامي، وبالتالي سيكون هؤلاء بفهمهم وتأثيرهم ضمانة رئيسية في المجمع، خصوصاً مع توفر شروط أساسية في اختيار الأعضاء وضرورة أن يكونوا من كبار العلماء، لأن صورة المجمع هي صورة متقدمة للاجتهاد الجماعي وهذا الاجتهاد الجماعي خير ضمانة لترشيد ما يصدر عن المجمع من قرارات. فالمجمع يضم أكثر من 60 عالماً و200 خبير مختص في حقول علمية وفقهية، لذلك فالمجمع قبل أن يصدر أياً من قراراته يمر القرار بمراحل صعبة ودقيقة يصعب التساهل فيها.
من أهداف المجمع في النظام الأساسي السابق توحيد الأمة الإسلامية في النظم التشريعية... فهل استمر العمل بذلك في النظام الجديد للمجمع؟
- ما زال قائماً بشكل أو بآخر، لأن الوحدة الفقهية هي أساس الوحدة والتكامل والتعاون بين الدول الإسلامية، والعقائد هي اللبنة الأولى في تحقيق أي نوع من الوحدة، ونحن لا نتحدث هنا عن الوحدة السياسية، إنما عن توحيد الأمة في مواقفها وعن تكاملها وتعاونها.
في إحدى دورات المجمع، توصية بضرورة إصدار وكتابة دستور إسلامي تشريعي للاسترشاد به؟
- ليس ذلك في النظام، وإنما قريب منه في قرارات المجلس في دوراته المتعددة التي تؤكد على ضرورة تطبيق الشريعة في شؤون الحياة، وهذا الأمر لا يكون إلا بتقديم تشريعات تحقق هذا الهدف.
هل من أهداف المجمع تحقيق"أسلمة"دوله تشريعياً؟
- لا أحب تعبير الأسلمة هنا، لأنه يعني أنك تريد أن تدخل شخصاً غير مسلم في الإسلام، وهذا ما لا ينطبق على معظم دولنا، التعبير قاس وإن أطلق على أسلمة العلوم، لأن من رأيي أن العلوم مسلمة قبل أن نؤسلمها، لأن العلوم تتعامل مع خلق الله تعالى بل تدعو إلى الإيمان به، حتى أن بعض العلماء الغربيين يقولون إن كل قانون يكتشفه العلماء يصرخ قائلاً: ما الإنسان إلا مستكشف لي ولكن الله هو خالقي. والعلم الذي يعارض حقائق الإيمان يخرج من إطار كونه علماً، إلا إذا أريد درس حقائق العلوم من خلال نظرة الإسلام إلى الكون والحياة والإنسان، بمعنى درسها في إطار التصور الإسلامي وحقائقه. لذلك أرى أن تعبير الأسلمة يثير الانتقاد. فأسلمة المرء تعني نقله من الكفر إلى الإسلام، وهذا لا ينطبق على معظم دولنا، المجمع يقوم بدعم تطبيق الشريعة وتحقيق مزيد من الالتزام الإسلامي في مجتمعاتنا، خصوصاً في وجه الغزو الفكري والثقافي الذي تتعرض له، أياً كان مصدره وشكله.
ولكن ليست دولكم كلها تعتبر الشريعة الإسلامية حاكمة على قوانينها وهذا جوهر السؤال؟
- علينا تأمين المادة العلمية المطلوبة لتحقيق أو لخدمة أي توجه نحو الالتزام بشريعة الله، لأن الارتجال في هذه القضايا يؤدي إلى التشتت أو الى تقديم حلول مبتسرة وقتية لا تخدم مصالح الأمة العليا، فالشأن السياسي في العلاقات بين الدول وسلوكها لا يتعامل معه المجمع مباشرة، هذا شأن منظمة المؤتمر الإسلامي، وإنما يهتم المجمع بالأُسس الفكرية والفقهية التي تحقق تلك الوحدة بين الدول، فهو يحرص على الأصول والمبادئ وأن الإسلام نظام حياة، كما أراده الله سبحانه، كما يحرص على إحكام العلاقة بين أتباع المدارس الفقهية المختلفة، ويحرص على مناقشة القضايا العلمية المختلف فيها، ليبين ضرورة اجتماع الأمة على الراجح من أقوال العلماء وبما يحقق المصلحة، وهذا الأمر الأهم لتحقيق الوحدة، أو بعبارة أدق في هذه المرحلة، التكامل والتعاون.
ونحن نتحدث عن الوحدة هناك أطراف إسلامية، خصوصاً الأطراف التكفيرية، تتغنى بعودة الخلافة الإسلامية، فما الفرق بين الرؤيتين؟
- القضية ليست إقامة خلافة إسلامية بشكل معين على مستوى العالم، وإنما قضية تحقيق التزام إسلامي وتطبيق للشريعة يحمي مجتمعاتنا ودولنا ويحقق تقدمها، في إطار أن الإسلام نظام حياة شامل. قال تعالى: "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ". النحل : 89.
إذاً، أنتم الفقهاء ترون أن الخلافة ليست ضرورية لتكون الأمة الإسلامية موحدة؟
- أقر علماؤنا عبر التاريخ تعدد الدول الإسلامية واختلافها، ونحن نقول إن الدول الوطنية التي تلتزم أحكام الإسلام وتحترم ما جاء به من مبادئ وقواعد أهلاً بها، وعملنا عمل علمي هادئ يقوم على الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، كما يطلب القرآن الكريم. وأكثر من ذلك، نحن ندعم كل من يلتزم بالإسلام ويعمل على تطبيق الشريعة ونشيد به، ولا يشترط في ذلك صيغة محددة إلا إذا طلبها دليل شرعي معتبر.
وعلى مستوى الدول ندعو إلى التكامل الإسلامي في مجال العلاقات الدولية، وهذا ما تسعى إليه منظمة المؤتمر الإسلامي، بحيث يوجد نوع من التعاون والتكتل بين الدول الإسلامية في المجتمع الدولي الذي بات يقوم على التكتلات والتجمعات، مع ضرورة إنشاء علاقات وثيقة مع دول العالم على أساس من العدل وحماية حقوق الشعوب. فالمجمع مؤسسة عالمية للاجتهاد الجماعي أنشأه مؤتمر القمة الإسلامي ليكون مرجعية فقهية للأمة، ونحن نعي واقع العالم الإسلامي وما يواجه من تحديات، ونحسن التعامل مع هذا الواقع بإذن الله تعالى. وعلى كل، فهذا موضوع كبير متعدد الجوانب وكثير التفصيلات، لا يمكن أن يستوعب كاملاً في هذه المقابلة، حتى لا تُفهم الآراء خطأ، وأنا جاهز لمناقشته في أي لقاء خاص.
كيف تدعمون التوجه نحو الانفتاح على العالم، وبعض الفتاوى الشرعية تحفز على قوقعة العالم الإسلامي على نفسه وانغلاقه؟
- مهمات المجمع على المستوى العالمي التنسيق بين الجهات الفقهية، لتلافي أية مادة علمية تشوش على الناس أو تتسبب بالخطأ في تصرفاتهم. فالمجمع يحرص على أن تبتعد الفتوى عن الارتجال والسطحية، والفتوى هي الحكم الشرعي في الحال والواقعة المستجدة، لذلك يجب على المفتي أن يكون ملماً بكل ملابسات الواقعة المطلوب إصدار الفتوى بشأنها، وهذا ما يحرص المجمع على تطبيقه في مختلف جوانبه، وبالتالي فإن أخطر ما يواجه العالم الإسلامي في عملية الفتوى حالياً هو عدم الإلمام الكافي بأصول الفتوى الشرعية.
وفي إطار ما تشير إليه، لا بد من بيان أن الإسلام يدعو إلى التمسك بالثوابت والانفتاح على العصر. يقول تعالى: وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ هود: 85. والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها، فلا انغلاق ولا تقوقع، إنما انفتاح على العصر مع المحافظة على الهوية والشخصية الإسلامية السوية.
رخص للفتوى؟
ألا ترون ضرورة إصدار رخص للفتوى، كتلك التي تصدر لسائقي السيارات؟
- المسألة ليست مسألة رخص بقدر ما هي تعريف إعلامي واسع بأصول وشروط مَن يتصدى لعملية الفتوى، إضافة إلى تقديم الفتاوى العلمية السليمة. وهناك دعوة تلقيتها قبل أيام من رابطة العالم الإسلامي الى مؤتمر خاص بموضوع الفتوى، ستدعو إليه عدداً كبيراً من كبار العلماء في العالم الإسلامي لمناقشة هذا الأمر لأنه حيوي وأساسي للأمة الإسلامية، فالأمة متوجهة لدينها، لذا يجب أن يكون مرشدوها وموجهوها على علم واطلاع ومعرفة كافية، فنحن إذا طرحنا البديل الصحيح أمام الشعوب الإسلامية، سنضيع الفرصة على الجهلاء والأدعياء في محاولتهم المرور من الثغرات.
ناقش بعض الكتاب إمكان إصدار تشريع يفرض عقوبات على المدعين والجهلاء من المفتين. كيف تنظرون إلى هذا المقترح في المجمع؟
- لا أفضل لفظ مفت مرخص له أو غير مرخص، وإنما أقول إن المفتي هو من تتوافر فيه الشروط والضوابط المقررة شرعاً، وأرى أن تقوم الدول بوضع آليات لحماية جماهيرها من مُصدري الفتاوى الذين لا تتوافر فيهم الضوابط الشرعية، أما دورنا نحن في المجمع، فيقتصر على التعريف بالشروط وتبيان الحقائق على أُسس علمية وفقهية متينة.
هذا لا يعني أننا نرفض تعدد الآراء، بل نحن ندعو إلى الرأي الجاد القائم على المعرفة والضابط الشرعي. المشكلة في تصدي الجهال والمغرضين لهذا الأمر، وليست في تعدد الآراء لأن من اجتهد وأخطأ فله أجر، ومن اجتهد وأصاب فله أجران، كما يقول الرسول، فالمهم أن يكون هناك مجتهدون تتوافر فيهم شروط الاجتهاد لا جهال ومغرضون، وأن يقوم المجمع بإصدار الفتاوى في القضايا الحادثة والمسائل المستجدة، مع بذل كل جهد ممكن للتنسيق بين جهات الفتوى.
تحدثتم في إحدى الدورات عن إنشاء موسوعة فقهية وعن عولمة الفقه. أليست المدونات الموجودة كافية؟
- أنت تعلم أن إنشاء الموسوعات يحتاج إلى مجموعة كبيرة من المختصين والخبراء والعلماء، والحمد لله ذلك متوافر في عالمنا الإسلامي، لكن هناك مواضيع وأعمالاً أخرى ما زالت تحتاج إلى بناء واستكمال، والمجمع يقوم الآن بمشروع ضخم بالتعاون مع مؤسسة الشيخ زايد للأعمال الخيرية والإنسانية في الإمارات بخصوص إنجاز معلمة للقواعد الفقهية، أي موسوعة تجمع القواعد الفقهية، وسيكون ذلك خدمة حقيقية لقطاع الفقه الإسلامي في العالم. عندنا أيضاً موضوع إحياء التراث الذي نتعاون في شأنه مع مؤسسات العالم الاسلامي، ما سيحفز المجمع على إصدار موسوعات جديدة للتعريف بالإسلام، لمواجهة الهجمات المعادية، فهناك جهل عالمي كبير بالإسلام، كذلك هناك تشويه متعمد تم عبر قرون ضد الإسلام، لذلك نسعى إلى تقديم معرفة علمية حقيقية بالإسلام، موثقة، وتحسن خطاب الآخر الغربي وغيره، وهناك مشاريع تدرس داخل المجمع، كإصدار موسوعة تيسير الفقه الإسلامي، والموسوعة الفقهية الاقتصادية وغيرها.
دورة الأردن قبل عامين لامست بعض الخطوط الحمراء حين اعتبرت السُنة والشيعة مذهبين في منزلة واحدة... هل هذا التنظير أقنع أحداً من الجهتين؟
- نعم أقنع العلماء من الجهتين، واعتمدت هذه القرارات في مؤتمر القمة الإسلامي الاستثنائي الثالث، القرارات اتخذت في عمان وتقول إن هذه الفرق مسلمة وفق معايير فقهية أساسية، فإذا وجدنا شخصاً يتبنى رأياً يخالف التوجه الإسلامي المتعارف عليه نقوم بتقديم النصيحة له، وتوجيهه وإرشاده من دون تكفيره. وهناك عدد كبير من العلماء وفتاوى في غاية الدقة والتفصيل تناقش هذه المسألة، فالأمر كله قائم على الدليل والحجة، وهناك الرأي القوي والرأي الضعيف والرأي المرجوح، ففي تراثنا الإسلامي آراء مرجوحة وضعيفة، وهذه القضية يحاول بعضهم أن يسيء إلى التراث من خلالها، وننسى مع ذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن الاجتهاد فمن أخطأ فله أجر ومن أصاب فله أجران. فلنا الحق في المناصحة والمناقشة العلمية من دون الإخراج من الملة.
كلا الطرفين لديه كتب تراث تدرَّس في جامعاته وزواياه تتصادم تماماً مع ما رجحته دورة عمان... فهل يتطلب قراركم تصفيتها؟
- كما قلت، هناك وجهات نظر ضعيفة بل مردودة ووجهات نظر مرجوحة ووجهات نظر قوية، فإذا وجدنا فرقة تتبنى رأياً فإن الحجة السليمة والمنطق والدليل هو الفيصل في مثل هذه المسائل، وفي دورة المجمع في عمان كانت هنالك آراء وفتاوى في غاية الدقة والتفصيل بخصوص هذه المسألة، وجاء القرار بناء على قوة الدليل على ما ذهبنا إليه. وتراثنا يحوي عدداً من الآراء، وهي جميعها قابلة للمناقشة والمداولة، والحجة في ذلك كما قلت هي للدليل.
ولخدمة تعميق العلاقة بين أتباع المذاهب لا بد من تنقية الكتب الدراسية في دولنا من كل ما يمس هذه العلاقة، وكذلك الحال بالنسبة إلى وسائل إعلامنا، بل يجب أن يخدم الجميع هذا التوجه الذي تقوم عليه أدلة قاطعة في الشرع.
بالنسبة الى وباء الإرهاب، يقال إن المجمع لم يفعل شيئاً؟
- المجمع تحدث عن هذا الموضوع، وبيّن المقصود بالإرهاب، وهو ترويع الآمنين وإيذاء الآمنين والقيام بأعمال مسيئة لحقوق الناس وفيها الاعتداء عليهم. لا بد من أن يقوم المجمع بالرد على الشبه التي وقع فيها بعض الأشخاص المغرر بهم، ثم أن المجمع ينتهج المناقشة العلمية والرد السليم والدليل القويم للرد على هذه الشبهات من خلال تقصي الحقائق.
أشار المجمع إلى جملة كبيرة من المسائل موضوع هذه القضية وعمل على الرد على كثير من الشبهات المثارة بالحجة والبرهان. وهناك خطوات كبيرة يقوم بها المجمع وسيقوم بها في هذا الاتجاه، فلو كانت هناك شبهات شرعية، نقوم بتقويمها بالفكر الراشد والمعتدل، الأمر الآخر هو أن الإرهاب لا يعالج بالإرهاب بل بالفكر الراشد من خلال التعريف بالإسلام الحق ومبادئه القويمة. وقرارات المجمع في دورته ال 17 التي عقدت في عمان سنة 2006 أوضحت هذه الأمور.
ولكن ما حدود صلاحية الفقيه في مسألة التكفير؟
- في هذا الأمر التطبيق العلمي ليس للعالم، فالعالم يضع القواعد والأُسس والمعايير، ولكن الحكم التفصيلي العملي هو للقاضي، والتكفير من حيث ضوابطه وقواعده من حق العلماء، ولكن تقرير أن فلاناً كفر وخرج من الملة بعد أن كان مسلماً هو من شأن القاضي إذا كان هنالك ما يوجب عرض الأمر عليه.
الغزو الفكري من القضايا التي اهتم بها المجمع في دوراته السابقة... هل نعتبر"الليبرالية"الغربية من عوامل الغزو الفكري؟
- هذه المصطلحات يجب الاتفاق على المقصود بها، قد تقولها أنت وتقصد بها معنى معيناً، وقد أقولها أنا وأقصد بها معنى معيناً، وبالتالي فإطلاق العبارات قد يشوه المواقف، قلت في كتابي عن الملكية في الشريعة الإسلامية: سئل أحد العلماء ما رأيك في الاشتراكية؟ قال الاشتراكية حلال، فعقب أحد العلماء على هذا قائلاً: هذا كمن يقول ما رأيك في الشراب؟ فيقول الشراب حلال، أي شراب، لذلك لا بد من تحديد المصطلح وتفصيل المسائل، لأن التفصيل ضروري لإصدار الحكم. فهل المقصود بهذه الليبرالية أن تكون بديلاً عن الإسلام أو المقصود التعرف على آراء الناس واحترامها ما يقرب من مبدأ الشورى المعتمد في الإسلام، لا بد من التوضيح.
قيل إن الفقه عدو التنمية... كيف تجعلونه صديقاً؟
- الفقه كما عرفه العلماء، هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المستمد من أدلتها التفصيلية. ولاحظ أن العلماء يقولون"المستمد"وليس"المستمدة"لأن"المستمدة"خطأ لأن العلم هو الذهاب إلى النصوص مباشرة وهذا دور الفقيه. والفقيه هو الذي يستمد الأحكام مباشرة من النصوص، يستمدها من أجل بيان الحكم الشرعي في القضايا الحادثة، لذلك فالفقه هو الحياة، والتنمية أساسها، فلا يمكن أن يكون الفقه عدواً لها.
وبالتالي إذا حدثت قضية وحادثة، ننظر: هل علماؤنا أعطوا فيها حكماً سابقاً، شرط أن يكون في القضية نفسها فنأخذ به، وإذا كان فيها تغيير ولو جزئية بسيطة ننظر هل تستحق حكماً آخر، وهنا يأتي دور الاجتهاد لاستنباط الحكم من القرآن الكريم والسنة، والواقع أن الاجتهاد هو آلية مواكبة الحياة والموجه لها. وبالتالي فالفقه ليس فقط صديقاً للتنمية، بل هو الراعي لها والحافز والموجه بل المنظم.
أوصى المجمع في إحدى دوراته بفتح كلية شرعية لتخريج فقهاء بمعايير خاصة... هل أفهم من ذلك أن الجامعات الإسلامية فشلت في تخريج فقهاء معتبرين؟
- الكليات موجودة في العالم الإسلامي ومنتشرة، ولكن المناهج فيها يجب أن تُعدّ فقهاء بالعقلية العلمية النيرة، وليس مجرد حفظة نصوص، وتلك مسؤولية الجامعات لا المجمع، وهناك جامعات كثيرة في السعودية والعالم العربي تولي هذا الأمر عناية كبيرة فما نريده هو كليات تخرج طاقات إسلامية ومؤهلة للاجتهاد، ولنظرة إسلامية دقيقة، نستطيع بواسطتها مواجهة القضايا والنوازل وإن لو تطلب ذلك استقصاء وبذل جهد استثنائي، لا فقهاء ينجون بأنفسهم ويُؤثِرون السلامة ويتأخرون عن مواجهة المعضلات ويتركون الأمة في جدل وصخب، وبالتالي لا يؤدون الدور المنوط بهم والرسالة التي يحملونها.
على رغم قولك إن الحاجة ماسة إلى هذه الشريحة من الفقهاء، إلا أن هناك فئة تعتقد أن الاهتمام بالتخصصات الأدبية والشرعية والتاريخية يجب أن يتراجع، فهي تخصصات لا تحتاج إليها سوق العمل، بحسب قولهم؟
- لا نتحدث هنا عن الكم، وإنما عن النوع، فنحن في أمسّ الحاجة إلى فئة ولو قليلة من الفقهاء المميزين، وهذا أفضل من إجهاد الكليات نفسها في تخريج أعداد بالآلاف، المميز نادر بينهم، وأنا أؤكد أن الفقهاء المميزين ليسوا بضاعة كاسدة. قال تعالى:"فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ". التوبة: 221.
عبْر تتبُّعي قرارات المجمع السابقة، وجدته مهتماً كثيراً بقضايا المرأة المسلمة والدفاع عنها، وإبراز مكانتها في الإسلام، لكن المجمع نفسه فشل في ترجمة ذلك بالاعتراف بالفقيهات المسلمات... فما تفسير ذلك؟
- لهذا الموضوع أهميته، وننتظر الفرصة المناسبة لتحقيق قدر من المشاركة أكبر للمرأة المتخصصة في مجال عمل المجمع. فالموضوع ليس تمثيلاً للمرأة، بل هو علم متقدم واختصاص مميز، وفي الدورات السابقة حدث أن شاركت فقيهات في لجان الخبراء وهذا لا حرج فيه من الناحية الشرعية، طالما أنه في إطار الضوابط الشرعية المقررة. ونحن في موضوع المرأة يجب أن ننطلق من أُسسنا في التعامل معها، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنما النساء شقائق الرجال"، ولا يجوز أن نتحدث عن المرأة والرجل كما لو أن بينهما صراعاً، وأن كل طرف يسعى الى احتلال موقع الآخر. القضية تكامل وتعاون على الخير في ما يخدم المجتمع في إطار الأحكام الشرعية المقررة.
وماذا إن رشحت إحدى الدول الأعضاء فقيهة ممثلة لها لديكم؟
- لا حرج على الدول أن تفعل، فذلك شأنها، ولسنا معنيين بمصادرة إرادة أحد، والمعيار عندنا هو العلم والتخصص والكفاءة في أي مكان، والالتزام بالقواعد والضوابط الشرعية المقررة.
في الآونة الأخيرة عادت الصراعات المذهبية إلى الساحة الإسلامية مجدداً بعد ما حدث في لبنان وما في العراق من قبل... ما دور الفقهاء وهم المنظّرون للسلام والفتنة في تجنيب أمتهم خطر الفجور المذهبي؟
- الواقع أن هنالك محاولة لإثارة الصراعات المذهبية في الساحة الإسلامية وهو خطر داهم يجب أن نعمل كل الجهود لإبعاده عن الساحة في إطار التأكيد على وحدة الأمة الإسلامية والحوار بين المذاهب. فالله سبحانه يقول:"وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ". آل عمران: 103، ويقول سبحانه:"إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍْ".الأنعام: 159، فحكم الله في كتابه واضح وقاطع في هذا الأمر وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْْ الأنفال: 46، وهذا واجب العلماء فهم ورثة الأنبياء وقادة المذاهب وموجهو الأمة، وأي تقصير في هذا المجال سيحاسبهم الله - سبحانه وتعالى - عليه أشد الحساب، والله سبحانه قد يحاسب في الدنيا قبل الآخرة، وهذا يقتضي المصارحة ووضع النقاط على الحروف، وإذا كانت هنالك معلومات موثوقة يجب أن توضع أمام الطرف الآخر ويتحمل كل مسؤوليته أمام الله - سبحانه وتعالى - وأمام الأمة.
حوار بنكهة "التشرد"
لهذا الحوار قصة لا تخلو من"طرافة". ففي الوقت الذي تمكنت فيه بمساعدة الصديق الخبير في مجمع الفقه الدولي الدكتور حسن سفر، من تحديد موعد للقاء الأمين العام للمجمع، كانت إجازة الربيع على الأبواب، ومن ثم اغتنمت الفرصة للجمع بين الحسنيين: إجراء الحوار مع العبادي، والسلام على والديّ في مكة المكرمة. ولشدة شوقي إلى والدتي الغالية وهي الآن في عقدها السابع، أسرعت نحو مكة أولاً"وطيبت خاطرها"، وعدت في اليوم التالي فجراً إلى جدة، خوفاً من أن يحبسني سلطان"النوم"عن الموعد المقرر عند الواحدة ظهراً.
وما إن وصلت جدة، حتى اتصلت بفندق"البلاد"المتواضع الذي اعتدت السكنى فيه، فأخبرني أن لا مكان شاغراً، وكذلك جميع الفنادق المحيطة به. ولما مررت بأكثر من سبعة محال بين فنادق وشقق ولم أعثر فيها على سكن، أدركت كم أجرمت في حق نفسي واستعجلت اللقاء الذي بدأت أقلل من أهميته في نفسي، وأنني لا أظنه سيساوي كل هذا"التشرد"، وتارة أخرى أردد معاتباً:"وما أعجلك عن قومك يا مصطفى. كان رقدت جنب أمك أحسن لك".
لكنني على رغم عمري القصير، لدي من التجارب مع"الحياة"الصحيفة والحياة العامة ما يجعلني أرفض الاستسلام لهكذا ظرف، فأوقفت سيارتي واتجهت إلى البحر أتقاسم معه التفكير، والإعياء قد بلغ مني حداً، فأنا جئت أمس مسافراً عن طريق البر، وبقيت سهراناً مع والدتي وإخوتي حتى الفجر.
فكرت في افتراش الأرض والتحاف السماء في أي مكان عام، فخشيت من غربان جدة"السيئة السمعة"، ومن اتساخ ثوبي وأنا بعد ساعات سأقابل شخصية مهمة. اتصلت أستعين بصديقي محمد عابد صاحب الشقة المأنوسة في شارع صاري، لكنه مثلي حين ينام يسلم الروح إلى باريها، فلم يرد. خطر لي أن أذهب إلى مكتب الصحيفة في الحمراء، إلا أنني تذكرت أن الوقت مبكر جداً، ولن أجد حتى الحارس. وردتني أكثر من فكرة"إبليسية"مثل اختلاق أي عذر لتأجيل الموعد، أو رشوة أي من نادلي الفنادق لإسكاني في غرفهم الخاصة. غير أنني لم أستلطف أياً من تلك الحلول، وجعلت أردد بيت امرئ القيس الشهير، وأتلمس جيبي المليء بالنقود، وأخاطب الإعياء والتشرد معاً:"أيقتلني والمشرفي مضاجعي/ ومسنونة زرق كأنياب أغوالِ". ركبت سيارتي واتجهت بعد ذلك إلى وسط المدينة، لعلي أجد سكناً، ولكن المولعين بعروس البحر التي"لعنتها يومها سبعين مرة"، أتوا على الأرض من كل أطرافها ولم يتركوا"جحر ضب"إلا سكنوه. وأنا لا أبالغ. بعد أن يئست قررت اللجوء إلى حديقة صغيرة مفتوحة بالقرب من منزل صديقي عابد السالف الذكر، فلما أوقفت سيارتي إذا بمجموعة من السيدات الشاميات جالسات يتضاحكن وكلي قهر من سعادتهن وأنا ساعتئذ في قمة التعاسة، حتى أنني تذكرت كل فقير وبائس و"طفل شارع"في الكرة الأرضية. ومع ذلك كرهت أن أفسد عليهن ما كن بصدده. فلو نزلت من السيارة وفرشت، سيهربن بكل تأكيد، إذا لم يبلّغن عني الشرطة أو الهيئة. مضيت في رحلة البحث، سألت فندق"الدار البيضاء"وسط جدة السكنى فلم يغن عني شيئاً، فسألته أن يسمح لي بالنوم على"كرسي في البهو"أثار حنقي تمدده على هيئة سرير وأنا في حالي هذه. رفض. قلت أطلب الإفطار هنا، فأجابني الموظف الفيليبيني:"المطعم هناك"، فوجدت كراسي المطعم من خشب لا تناسبني، وخرجت.
ما يشغلني الآن كيف أستطيع أن أقابل أي شخص غريب فضلاً عن شيخ أجله وأحترمه وأنا في هذه الحال من البشاعة والإجهاد، فإنني أوشكت على قضاء خمس ساعات في"التشرد"المطلق، ولم يبق إلا ثلاث ويحين الموعد.
كافحت مجدداً وأمسكت بشارع جديد مررت عليه في رحلة البحث إلا أن فيه فندقاً معروضاً"للبيع"لم أدخله، ظناً مني أنه مهجور. فقلت أغفو بداخله ساعة، وإذا قبضت علي الشرطة جادلتها بما يفتح الله به علي، فنحن معشر الصحافيين يشاع أننا"بياعو كلام". دخلته فإذا هو معمور مسكون! لكنني بالغت في استعطاف الهندي الذي يتولى أمره، فقلت له إذا لم تسمح لي بالنوم في أي مكان سأنام في الصالة، وأنا كنت جاداً. وبعد أن ألقيت بجسدي المنهك على أطول كراسيه، وأسلمت روحي إلى الله، أيقظني وقال:"يبغى غرفه ما في باب بمئتي ريال"؟ قلت نعم أبغاها. صعد معي إلى الدور الثالث فإذا هي أبشع مكان أنام فيه اتساخاً وسوء حال، ولكن قاتل الله الحاجة. نزعت ملابسي الخارجية ليغسلها بعد أن صارت كريهة المنظر، وطلبت منه أن يبقى يحرسني من الفئران والقطط، ويوقظني من النوم ساعة الموعد مع أمين المجمع. وقد استجاب الهندي النبيل. كان يوماً لا ينسى.
المفاجأة أن الأمين فهم أنني جئت فقط لأتعرف عليه وأترك عنده الأسئلة، ليبعث بها مكتوبة. فقلت في نفسي، هذه قمة الاستخفاف، كل الفيلم الهندي الذي كنت فيه منذ اليوم وأعود بلا لقاء. كدت أنفجر من الغضب. لكنني جربت أولاً اختبار حسه الإنساني، فقلت له:"أتدري أنني منذ اليوم نائم على الرصيف أنتظر معاليك، وجدة كلها بلا سكن". لا أدري هل صدقني أم لا، لكنه غيّر موقفه، وقال:"فلنتحاور". فكان هذا اللقاء، الذي أثبتت فيه الصحافة أنها تبقى على رغم كل ما في الكون من تسهيلات"مهنة المتاعب".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.