القبض على (3) إثيوبيين في جازان لتهريبهم (44.9) كجم "حشيش"    «الإعلام» و«التعليم» توقعان مذكرة تعاون لإطلاق مبادرة «ابتعاث الإعلام»    تطبيق نظام "حضوري" لضبط دوام منسوبي المدارس في 13 منطقة تعليمية    سيسكو جاهز للعب وأموريم يتطلع لعودة يونايتد للمشاركة الأوروبية    وزير الصحة يبدأ زيارة رسمية إلى أستراليا    تكليف الدكتور محمد الغزواني مساعدًا لمدير تعليم الحدود الشمالية للشؤون التعليمية    الذهب يرتفع بفعل ضعف الدولار رغم التراجع الأسبوعي    مستشفى جازان العام وجمعية التغذية العلاجية يحتفيان بأسبوع الرضاعة الطبيعية    بايرن ميونيخ يؤكد اقتراب النصر من ضم كومان    الشيخ عبدالله البعيجان: استقبلوا العام الدراسي بالجد والعمل    الفريق الفتحاوي يستأنف تدريباته على فترتين لرفع الجاهزية الفنية والبدنية    الشيخ بندر بليلة: احذروا التذمر من الحر فهو اعتراض على قضاء الله    خادم الحرمين الشرفين وولي العهد يهنئان رئيس الكونغو بذكرى الاستقلال    أمين جازان يتفقد مشاريع التدخل الحضري ويشدّد على تسريع الإنجاز    جامعة جازان تعلن نتائج القبول في برامج الدراسات العليا للفترة الثانية    رئيس كوريا الجنوبية يدعو إلى تخفيف التوترات مع كوريا الشمالية    امطار على الجنوب و حرارة على مناطق المدينة والشرقية    قمة مرتقبة بين ترامب وبوتين اليوم    مقصورة السويلم تستضيف المهتم بعلوم النباتات عبدالله البراك"    رابطةُ العالم الإسلامي تُدين موافقة حكومة الاحتلال الإسرائيلي على خطة بناء مستوطنات جديدة    اقتصاد اليابان ينمو بأكبر من المتوقع    بيع 3 صقور ب 214 ألف ريال    رسمياً .. العبسي اتحادياً حتى 2029    المملكة توزّع (600) سلة غذائية في البقاع بلبنان    الاستثمار الأهم    الهلال يختتم المرحلة الأولى من برنامجه الإعدادي في ألمانيا    النوم عند المراهقين    السعال الديكي يجتاح اليابان وأوروبا    الهلال يكسب ودية" فالدهوف مانهايم"الألماني بثلاثية    المملكة تتوّج بالذهب في الأولمبياد الدولي للمواصفات 2025 بكوريا    أمير منطقة الباحة يستقبل الرئيس التنفيذي لبنك التنمية الاجتماعية    محمد بن عبدالرحمن يعزي في وفاة الفريق سلطان المطيري    الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنظم حلقة نقاش بعنوان: (تمكين الابتكار الرقمي في العمل التوعوي للرئاسة العامة)    نائب أمير جازان يستقبل مدير مكتب تحقيق الرؤية بالإمارة    اليوم الدولي للشباب تحت شعار"شبابُنا أملٌ واعد" بمسرح مركز التنمية الاجتماعية بجازان    أحداث تاريخية في جيزان.. معركة أبوعريش    نائب أمير جازان يلتقي شباب وشابات المنطقة ويستعرض البرامج التنموية    زراعة أول نظام ذكي عالمي للقوقعة الصناعية بمدينة الملك سعود الطبية    استقرار معدل التضخم في السعودية عند 2.1% خلال شهر يوليو 2025    في إنجاز علمي بحثي.. خرائط جينية جديدة تُعزز دقة التشخيص والعلاج للأمراض الوراثية    الصين تطلق إلى الفضاء مجموعة جديدة من الأقمار الصناعية للإنترنت    حظر لعبة «روبلوكس» في قطر    الشيباني: نواجه تدخلات خارجية هدفها الفتنة.. أنقرة تتهم تل أبيل بإشعال الفوضى في سوريا    انطلاق ملتقى النقد السينمائي في 21 أغسطس    «البصرية» تطلق «جسور الفن» في 4 دول    موجز    تمكين المدرسة من خلال تقليص المستويات الإدارية.. البنيان: 50 مليار ريال حجم الفرص الاستثمارية بقطاع التعليم    الإطاحة ب 13 مخالفاً وإحباط تهريب 293 كجم من القات    ولي العهد ورئيس كوريا يبحثان فرص التعاون    اطلع على أعمال قيادة القوات الخاصة للأمن البيئي.. وزير الداخلية يتابع سير العمل في وكالة الأحوال المدنية    19 % نمواً.. وإنجازات متعاظمة للاستدامة.. 3424 مليار ريال أصول تحت إدارة صندوق الاستثمارات    رئيس الوزراء النيوزيلندي: نتنياهو فقد صوابه وضم غزة أمر مروع.. «الاحتلال» يصادق على الهجوم .. وتحرك دبلوماسي للتهدئة    موسكو تقلل من أهمية التحركات الأوروبية.. زيلينسكي في برلين لبحث القمة الأمريكية – الروسية    فهد بن سلطان يكرم الفائزين بمسابقة إمارة تبوك للابتكار 2025    ناصر بن محمد: شباب الوطن المستقبل الواعد والحاضر المجيد    استخراج هاتف من معدة مريض    أمير جازان يعزي في وفاة معافا    مباهاة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من نقض الحقيقة القومية إلى نقد الواقع العربي !
نشر في الحياة يوم 30 - 05 - 2008

صحيح أن المشاعر العربية شهدت تبدلا تاريخيا بين حماسة إلى الوحدة في لحظات كثيرة وبخاصة في الخمسينات والستينات إبان تصاعد الموجة القومية، وبين فتور نحوها في لحظات أخرى، ولكن من الصحيح أيضا أن حرارة المشاعر لدى الجماهير كانت وتظل أعلى من الأنظمة الحاكمة، وتفوق دائما درجة الالتزامات المتبادلة في ما بينها، وأن جزءاً مهما من الفكر السياسي العربي، ومن التعبير الأدبي، وحتى الإبداع الفني لنخبة الأمة وعلى مستوى أغلب مجتمعاتها، ظل يستلهم مشروعيته ويجد موضوعاته، ويحدد أهدافه في ضوء هذه الفجوة بين حماسة الشعوب، وتردد الأنظمة، بين الدفق الوجداني للأولى، وبرودة عقل الثانية، رافضا في كل الأحوال كل ما يعوق بناء الإرادة المشتركة بين وحدات الأمة.
وبدلا من الاعتراف بحدود الالتزامات الحقيقية المتبادلة في ما بينها، استمرت الأنظمة العربية في نفاق الدعوة القومية الكامنة في لباب وعي مواطنيها، حفاظا على الشرعية فى بعض الأحيان، وركوبا للموجة في بعضها الآخر، فإذا كان لا مفر نظريا من وحدة قومية تعبر عن التجانس الثقافي، ولا طريق لتحقيق ذلك عمليا، فليكن الحل في أن تمارس الثقافة تجلياتها بمعزل عن السياسة. أي تبقى الثقافة معبرة عن دعوة قومية لها عمقها التاريخي نعم ولكنها كامنة في اللاوعي، قد توحي بمثاليات، وقد تمدنا برمز ملهم، ولكنها تفعل ذلك كتراث عام مشترك يحق لأي مجتمع أن يستخدمه حينما يشاء وكيفما شاء. وفى الوقت ذاته تبقى السياسة ممارسه واقعية تجرى أحداثها حسبما تتغير الوقائع وتكون المصالح، ولا مانع، رغم ذلك، من المزايدة بالمثاليات القومية في أوقات بعينها لأهداف متباينة لدى هذا الطرف أو ذاك، وهو ما جعل حالة من"الشيزوفرينيا"تتحكم في السياسة العربية، حيث صار الجميع يقولون ما لا يفعلون، ويجعلون من المثاليات القومية غطاءً لسلوكهم السياسي المتطرف في القطرية.
ولعل المشكلة الكبرى أن ذاكرة هذه النظم نفسها، بمرور الوقت، قد شابها تناقض مرير وخلط عجيب عندما نسيت أو تناست، أنها تراوغ، فصدقت نفسها أو بالأحرى كذبها، وتوقعت من الآخرين أن ينسجم ردود أفعالهم مع دعاواها القومية، ووصلت المأساة ذروتها عندما أعلنت دولة سيادتها على الأخرى تحت غطاء الدعوة القومية وتوقعت من الشعب المغبون أن يرحب بها، ومن باقي العرب أن يهللوا لها ! فكانت الطامة الكبرى.
ومن ثم، يتمثل الهدف الجوهري لعملية إعادة التأسيس، في تجاوز هذه الشيزوفرينيا السياسية، ولكن من دون وقوع في أسر الأمر الواقع. ولعل نقط الانطلاق المثلى نحوه هى إعادة تأمل ظاهرة الثقافة نفسها، واكتشاف تعددية أبعادها، ومدى تركيبها الذي يوفر"لخصوصية الدولة الوطنية"مرتكزا ثقافيا يعفيها الشعور بإثم الخطيئة السياسية، ولكن من دون نفى"لتجانس الثقافة القومية"بما لا يحرمها من غاياتها التكاملية، وهو ما نلتمسه فى وجود مفهومين معيارين لظاهرة الثقافة:
الأول: موضوعي"سوسيولوجي"يشتبك بعلم الأنثروبولوجيا ويستند إلى علم الاجتماع الثقافي كما هو لدى المدرسة الفرنسية بزعامة دوركهايم. والثقافة لديه نمط عيش وأسلوب حياة تسقط فيه الرموز على الوقائع مباشرة وتندمج فيه حركة الصور والشخوص وتنتفي فيه إلى حد كبير المسافة الفاصلة بين الرؤى والسلوك. وهنا يصبح فعل"المعاش"هو المؤسس لفعل"التأمل"فى حياة البشر إذا أن حركتهم هنا لا تصدر عن رؤية سابقة بالضرورة، وإن أمكن استخلاص هذه الرؤية من حركة الجماعة الإنسانية بعد أن تكون تقررت في واقعها التاريخي بشتى جوانبه.
والثاني: مثالي"سيكولوجي"يجدد تبريره في النظم الفكرية التى يتوفر لها الشمول كالدين، أو التى تدعيه كالفلسفات المثالية ذات الطابع الميتافيزيقي، والإيديولوجيات السياسية الكبرى. والثقافة كما يراها هي بناء عقلي شامل ونظام صارم للأفكار يفسر نفسه بنفسه، تستطيع أن تجد داخله كل الحقيقة إذا ما حاولت وكنت أكثر"إيمانا/ الدين، أو اعتقادا / الفلسفة، أو ثورية / الإيديولوجيا". ذلك أن الحقيقة لديه ليست خبرة حية تُكتشف فى التجربة، بل رؤية تصدر عن تأمل ذاتي سابق على التجربة. والتأمل نفسه قد يكون فعلا إنسانيا خالصا، محكوما في سقفه الأعلى بوعي البشر أنفسهم وإلهاماتهم التي تجدها في فكره فلسفية أو تعبير أدبي أو في أي من منتجات الوعي. وقد يكون فعلا تأويلياً يستند إلى نص مقدس ابتداء ويخضع فقط لتفسيرات البشر عندما يحاولون أن يصوغوا به ومن خلاله رؤاهم المجتمعية والسياسية بأقدار متباينة من التفرد والخصوصية.
وحسب هذا الفهم لوجهي الظاهرة الثقافية، يمكن اعتبار الدولة الوطنية العربية ابنه ليس فقط للأمر الواقع السياسى، وإنما للوجه الأول/ السسيولوجي من ظاهرة الثقافة، بينما تبقى الدعوة القومية انعكاسا لوجهها الثاني/ السيكولوجي، وتصير العلاقة بين الوطني والقومي بمثابة انعكاس للعلاقة بين جوانب الظاهرة الثقافية نفسها، فثمة جوانب عامة تعمل كمستودع للرموز تلهم وتوجه التجانس القومي العام، وأخرى خاصة تعكس خبرات المجتمعات المحلية العربية التي صاغتها أوضاع جغرافية معينة وأنظمة سياسية متباينة وأبنية طبقية متمايزة ودرجات من الثراء والفقر جد مختلفة.
وهكذا لا تبقى الدولة الوطنية محض هزيمة للثقافة ك"هوية"أمام السياسة ك"ممارسة". ولا تبقى تعددية هذه الدول شرا مطلقا بالضرورة، بل ربما كانت"خيرا محتملا"إذا ما أمكن البناء عليها، فهي تمثل رصيدا من الخبرة المجتمعية الخاصة الدافعة لهذا القطر أو ذاك إلى النهوض بتطوير خصائصه الذاتية على نحو أفضل، مما يعد تطويرا جزئيا للتجانس القومي يغنى الشخصية العربية ويثريها. وبالتالي فهي ليست شرا مطلقا إلا من وجهة النظر التي تعتبر غاية الوجود العربي الوحدة السياسية، ولكنها ليست كذلك لدى وجهة النظر التي تعتبر غاية الوجود العربي هي التقدم الحضاري.
هذا الفهم النظري يستبطن ثلاث قواعد عملية يمكنها أن تثرى حركة الواقع، وأن تساعد على تفكيك حال الالتباس بين العربي والعربي الآخر:
الأولى: جعل العلاقة بين العربي، والعربي الآخر موضع افتراض يتحدد نهائيا بنقطة توازن العلاقة بين الخصوصية والتجانس. والافتراض هنا يعنى عدم الانطلاق في سلوك الدولة العربية"أ"مثلا تجاه الدولة العربية"ب"من يقين أن"ب"سوف تقبل تماما رؤية"أ"تقديرا للتجانس العربي العام دونما نظر إلى بعض مقومات الخصوصية المحلية، التي قد تغذى تباينا فى المصالح الواقعية بينهما، بل من حقيقة أنها شقيق بحكم هذا التجانس الذي يلغى احتمال العداء، ولكنه يبقى على احتمالات مختلفة من تجاوب"ب"مع رؤية"أ"حسب قدرة الطرفين على التوفيق بين المصالح الواقعية. وبمعنى أوضح يجب إدراك أن التجانس الثقافي العربي يمنح أرضية واسعة للتوافق بين المصالح واقعيا، ولكنه لا يكفى وحده لبناء التوافق السياسي الكامل إلا عبر حوار بين الرؤى والمصالح، إذ من دون هذا الحوار، مع وجود ثورة توقعات متفائلة لدى كل طرف إزاء الآخر يغذيها الانتماء الثقافي، يصبح خطأ الحسابات محتملا بدرجة تفوق علاقة الطرف العربي بالآخرين ممن لا توجد إزاءهم هذه التوقعات المتفائلة، وربما يفسر ذلك نمط الأزمة الدورية الغالب على العلاقات العربية العربية.
والثانية: هي التفكير بعقل العربي الآخر، أي تبادل المواقع معه للتفكير من الزوايا التي يرى من خلالها لفهم كيف يدرك هو مشكلاته، وتصوره لحل هذه المشكلات ومطالبه تجاهي، وعندما يقوم هو بالمثل فيفكر بعقلي ويدرك مشكلاتي ومطالبي إزاءه تكون الأمور أكثر وضوحا والطريق إلى الحلول الوسط أصبح مفتوحا ومفروشا بمفردات الممكن والمحتمل بديلا للحلول المطلقة التي ينغلق الباب دونها على الكلى والمطلق والمثالي ومعها العنف والقطعية والعداء.
أما الثالثة: فهي ضرورة التحلي بروح التسامح حتى إزاء القضايا المستعصية على الحلول البسيطة والبحث عن حلول صعبة تتطلب اتخاذ قرارات جريئة وعادلة إزاء الطرف العربي الآخر، مع الوضع في الاعتبار أنها ربما كانت أصعب لو كان هذا الآخر غير عربي، وأن كل تنازل سياسي مهما كان لا ينال من الكرامة القومية التي تظلنا جميعا، ولا يثير حساسية أمام التاريخ الذي يضمنا جميعا، ولا يفجر عقدة الهزيمة الحضارية لأن الحضارة واحدة والمصير مشترك نحمل عبئه جميعا.
* كاتب مصري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.