في نهاية عام 1994، التقيته في أحد مقاهي القاهرة مع بعض الأصدقاء. أعطاني كتابين له، وكان معي ملف يتضمن خمس قصص من كتاب لم أطبعه بعد، أعطيته الملف، وتبادلنا أرقام هواتف السكن. بعد ظهر اليوم التالي اتصل بي وقال:"قصص هائلة"، قلت له: ما زلت أقرأ في روايتك المختلفة والمميزة"كتاب التوهمات"، كما قرأت بعض قصص"الديب رماح"، وقلت له: تعال فأنا وحيد في هذه الشقة. جاء في المساء فكانت أمسية هادئة وموحية مع كاتب مثقف وإنسان حقيقي، ولا أنسى وقفتنا في الشرفة نطل على النيل وبجوارنا فندق أم كلثوم أول شارع أبو الفدا. كان يتحدث عن المنطقة المقابلة خلف النهر، مدخل امبابه والكيت كات والى اليسار مسرح الهناجر جوار فندق شهرزاد، وكيف أنقلب حال تلك المنطقة. كان يقف في المكان الذي وقف فيه العام الماضي عفيفي مطر وسعيد الكفراوي وإبراهيم داود، ثم دار بيننا حديث طويل عن مصر والسعودية وأحوال الناس في المنطقة بعد حرب الخليج الثانية وتحرير الكويت، سألني"أين ستطبع كتابك؟"،پقلت له أن الصديق الكاتب محمود تراوريپسلمه لنادي جده الأدبي ولم يردوا حتى الآن، وقد أقدمه لپ"شرقيات"، قال أحضر لي كامل قصص الكتاب في الهيئة سأكون هناك في الثامنة صباحاً، سنطبعه في"مختارات فصول"بعد تقديمه إلى لجنة القراءة، وأكد أنهم سيوافقون فوراً لأن قصصه متقدمة. شكرته على اهتمامه، خرج من عندي حوالى منتصف الليل، ورفضت شقاوتي إلا أن تبوح بذاتها فخرجت وحيداً وسهرت في أماكن كثيرة لا أعرفها، وعدت في السادسة صباحاً. وقبل الثامنة اتصلت به في الهيئة لأعتذر عن عدم الحضور، وكنت متوتراً من الإحراج، سألني عن السبب، أوضحت له أنني لم أنم منذ لقائنا البارحة وأنني مرهق، وقلت أيضاً أن الكتاب ربما سيتأخر في"مختارات فصول"كما حصل مع الأول"إذعان صغير"، قال بحسم:"خذ تكسي وتعال يا فهد، الهيئة في رملة بولاق". لم أستطع مواصلة الاعتذار أمام هذا الحسم الذي كشف لي شخصية عذبة جداً يملكها هذا الكاتب، ثم قال بصوت هادئ: إذا واصلت هذا الكسل فلن تطبع شيئاً في حياتك. وبالفعل استقليت تاكسي وذهبت إلى رملة بولاق، وكان جسدي الدائخ مثل ضوء يهتز، جلست معه حوالى ساعتين مملوءة بالقهوة والشاي حتى أفقنا جيداً. قال: ما رأيك أن يكون أسم الكتاب"أظافر صغيرة جداً"، بدلاً من"أظافر صغيرة وناعمة"، قلت"جيد"وشكرته على اهتمامه الرائع. وضع القصص في ملف وهو يسألني: أين نشرت هذه القصص؟ قلت له في"الحياة"وپ"اليوم"وپ"الرياض"بالسعودية، قال: شيء غريب أنه لم يكتب عنها أحد. قلت له بسخرية أن نقادنا مشغولين بالحداثة والبنيوية وقصائد الحداثة، وقلت أيضاً أن جمعية الثقافة بالدمام أقامت أمسية جميلة خاصة لكتاب"إذعان صغير"وكتب عنها عدد من الأدباء المبدعين فعلاً. بعد ذلك أخذني إلى مكتبة الهيئة، تجولنا فيها قليلاً ثم افترقنا على بابها، ودعته وذهبت ركضاً إلى الشقة، رميت جسدي على السرير قبل الظهر بقليل، ولم أفق إلا وقد تجللت القاهرة بظلام فيه حنين وجمال. في عام 1997 صدر الكتاب"أظافر صغيرة"عن نادي جدة الأدبي من دون علمي، وفي عام 2000 صدر الكتاب عن"مختارات فصول"بالقاهرة أيضاً من دون علمي، إذ قرأت عن صدور الكتابين في الصحف، وكانت تلك لحظات مفاجئة جميلة جداً، بعد ذلك العام قابلته مرات قليلة وسط القاهرة، وكان دائماً مضيئاً بحضوره المثقف وابتسامته وروحه الجميلة، ثم تابعت كتبه التي صدرت مثل رواية"العاشق والمعشوق"ورواية أخرى صدرت العام الماضي، كانت كتبه تلتفت الى قريبة حكايات التراث السردي العربي، كانت تعبر عن أدب شعبي عميق بطرائق سرد حديثة، لكن لغته كانت سلسة وطازجة وتملك رؤية مختلفة عن ما ألفنا من فنون السرد الحديثة. ترك المبدع أكثر من عشرة أعمال في القصة والرواية، إضافة إلى تحقيقه سيرة الظاهر بيبرس وسيرة شعبية نادرة للفيلسوف ابن سينا، فبعد مجموعته القصصية الأولى"حكايات الديب رماح"في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، أصدر مجموعات قصصية وروايات منها"كتاب التوهمات"وپ"حرب أطاليا"وپ"العاشق والمعشوق"وپ"كيد النساء"وپ"يوميات هروب". رحم الله الصديق المبدع الراحل خيري عبدالجواد، الذي صدمنا خبر وفاته الأسبوع الماضي، بعد غيبوبة لأيام بسبب مضاعفات مرض السكر. هذا الأديب كان بعيداً من الإعلام وقريباً من الإنسان وقضاياه الحقيقية. فما زالت ترن في أذني عبارته: هات كتابك وتعال لهيئة الكتاب. تلك الهيئة التي ما زلنا نحلم بشيء يشبهها في بلادنا. * روائي سعودي