تعوّدنا في أدبياتنا العربية أن نكرّر عبارة ممجوجة هي أن"إسرائيل شوكة في خاصرة العرب"والواقع أنها ليست مجرد شوكة بل هي سرطان يستشري في الجسد العربي ويهدد وجوده وحياته، كأنه لم تكفنا آلام أو عذابات هذا الورم لنضيف إليه سكاكين تفتك بهذا الجسد العليل وتصوّب الى قلبه وصدره وعقله. آخر سكين مسموم ينغرس اليوم في قلب العرب، بل في ضميرهم، أو ضمائرهم إذا أخذنا في الاعتبار واقعهم الحالي وانقسامهم وتشرذمهم وفرقتهم وخلافاتهم، هو سكين قطاع غزة المنكوب بقياداته وفصائله قبل أن ينكب بالعلة الصهيونية وما تنفثه من سموم وظلم وحصار وجرائم حرب وإبادة عنصرية غاشمة. فما يتعرض له أهلنا في غزة يفوق الوصف ويتحدى قوة الاحتمال والصبر والصمود، ليس لأن أهل هذا القطاع الأبطال المجاهدين ملّوا مقارعة الاحتلال الاسرائيلي، فهم أصحاب خبرة وتجارب تاريخية تسجل لهم بأحرف من نور على مدى الأجيال في تصديهم للطامعين والمحتلين والغزاة، بل لأن ظلم ذوي القربى أشد مضاضة وأكثر إيلاماً من أي ظلم آخر من الأعداء مهما بلغت ضراوته. فما جرى في غزة هاشم خلال الأشهر الماضية لا يمكن النظر إليه إلا من منطلق الشجب والتنديد والاستنكار، بغض النظر عن الدوافع والأسباب والمبررات، وكان يمكن تجنب ما آلت إليه الأمور لو تغلبت الحكمة على التهور، والعقل على الغرائز، والمصلحة الوطنية الفلسطينية على أي مصلحة حزبية أو حركية أو فئوية أو شخصية. كان الباب مفتوحاً على مصراعيه للحل والمصارحة والمصالحة بين حركتي"فتح"و"حماس"عبر الوساطة السعودية التي قام بها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز لوقف النزف بين اخوة الدم والسلاح وتجنيب الشعب الفلسطيني مثل هذا المصير الأسود وأسفرت عن"صلح مكة"الذي استبشرنا به خيراً، خصوصاً ان الاتفاق قد وقّع تحت مظلة الكعبة المشرفة وفي أشرف بقاع الأرض. لكن هذا الاتفاق نُقض ونُسف قبل أن يجف حبر التواقيع عليه من دون أن يلتفت أصحابه الى خطورة مثل هذا القرار المتسرع والجائر، أو الى قدسية الموقع الذي شهد قسم القادة وتعهداتهم بالسّير به والعمل بمبادئه وحجب دماء العباد وإنقاذ ما تبقى من بلاد لم تنعم بالوحدة ولا بالاستقلال ولا بالاعتراف بالحقوق المشروعة. ضاع العقل وسادت العصبيات، وانتصر التعصب وغابت الحكمة وجرى ما جرى من مآس تعرض لها أهلنا الأبرار، وجرائم ارتكبت في حقهم فيما العدو الصهيوني يتفرج بفرح وشماتة ويتشفى بالفلسطينيين ويشدد حصاره الظالم ويتلذذ بعذاباتهم ويمارس ساديته البغيضة ويمنّي النفس بفرقة لا وحدة بعدها، وبخلاف مستحكم لا حل له، وبتقسيم لا مجال بعده لرأب الصدع، وبمذابح يرتكبها أبناء القضية الواحدة والشعب الواحد ضد بعضهم بعضاً حتى يبرر اعتداءاته ووحشيته ويستكمل مؤامرته لتهويد الأراضي العربية المحتلة وضم القدس نهائياً وإجهاض حلم الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. وهذا ما يفسر لنا أسباب انسحاب إسرائيل السريع من غزة، ويكشف أسرار اتخاذ هذا القرار وتنفيذه من دون قيد أو شرط، علماً أن رئيس وزراء اسرائيل الراحل اسحق رابين كان يردد دائماً أنه يتمنى أن يستيقظ يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر. فالانسحاب اتخذ بقرار استراتيجي يستهدف ضرب عصافير عدة بحجر واحد: التخلص من أعباء غزة العسكرية والمالية والتحلل من مسؤوليات الاحتلال، إذ كشف وزير الدفاع الاسرائيلي إيهود باراك أخيراً أن العودة الى غزة ستكلف إسرائيل أكثر من 5 ملايين دولار يومياً، وهذا يفوق قدراتها في ظل ظروف الأزمة المالية العالمية التي أصابتها بشظاياها ونتائجها. أما السبب الجوهري، فهو بكل أسف، تأكد القيادة الاسرائيلية في عهد السفاح آرييل شارون، الذي ما زال يرقد في المستشفى وهو في حال غيبوبة، من أن الانسحاب سيؤدي حتماً الى شق الصف الفلسطيني ونشوب صراعات ونزاعات بين الفصيلين الرئيسيين"فتح"و"حماس"، وهذا ما جرى فعلاً إذ لم يخيّب"النجباء الشجعان"أمل إسرائيل ونفذوا بأيديهم وبإرادتهم مآربها وترجموا نياتها الشريرة في صراعاتهم العبثية وحال الانقسام بين غزة والضفة وكل ما جرى من ارتكابات وتنكيل وذبح واعتقال وتشريد وقطع أرزاق، فيما أبناء الشعب الفلسطيني المنكوب يكتوون بنار الحصار الظالم ويُعصرون تحت مطرقة"حماس"وسندان"فتح"، والبقية معروفة في وقت يتحدث كل طرف عن الشرعية والقانونية وهو يعلم أن ليس هناك دولة ولا شرعية ولا سلطة في ظل احتلال غاشم يقضم ويهوِّد ويقيم المستوطنات ويفرض كل يوم أمراً واقعاً جديداً يجهض حلم الدولة الفلسطينية ويخطط لكيانات وجزر مبعثرة لا رابط بينها تكون لإسرائيل اليد العليا في التحكم بمصائرها والإمساك بشرايين حياتها. قبل أيام قليلة، التقيت في القاهرة مجموعة من الاخوة الفلسطينيين القادمين من غزة وبعض الاخوة القادمين من الضفة الغربية، وليست هناك كلمات أستطيع أن أعبر فيها عن مشاعر الإحباط التي أصابتني عندما استمعت الى توصيف مؤلم لحال الشعب الفلسطيني وعذاباته اليومية وهو أمام رأيين متناقضين ووجهتي نظر متباينتين وتبريرين لا يسرّان إلا العدو الصهيوني ويشفيان غليله. في غزة بؤس وشقاء وأمراض بلا دواء، أطفال في الشوارع لا معيل لهم ولا قدرة على إرسالهم الى المدارس، مما سيؤدي الى تفشي الأمية، بطالة وإفلاسات وشركات مغلقة وندرة السيولة وغياب القدرة الشرائية ولو لما يسدّ الرمق ويؤمن لقمة العيش... لا كهرباء ولا ماء ولا أمن ولا أمل وخوف من انفجار الوضع وتجدد القصف الاسرائيلي وتشديد الحصار... حتى حجاج بيت الله الحرام جرت محاولات لعرقلة خروجهم من غزة وحرمانهم من تأدية فريضتهم الدينية، وفي الضفة الغربية حال مماثلة مع استبدال كلمة الحصار بالاحتلال، إذ أن القوات الاسرائيلية تسرح وتمرح وتعتقل من تشاء وتقتحم ما تريد من مخيمات ومدن فيما الناس يعيشون حالاً من القلق والخوف والحاجة والفقر، فالموارد شحيحة والأسعار نار والمستقبل غامض وغير آمن والسلطة غير قادرة على الوفاء بوعودها، فيما اسرائيل تكمل خطتها الجهنمية بعدم تقديم أي تنازل للرئيس محمود عباس وحكومته وبالإمعان في إظهار عجزها ونقض كل ما تم الاتفاق عليه من مبادئ لإحلال سلام ولو كان منقوصاً. بل ان ما قدمته حكومة الفاسد إيهود أولمرت يشبه الى حد بعيد شروط الغزاة لسلام العار القائم على التنازل عن القدس وعن حق العودة للاجئين الفلسطينيين وعن معظم أراضي الضفة الغربية التي أقيمت عليها المستعمرات الاستيطانية مقابل دولة لا حدود لها ولا سيادة ولا عاصمة ولا وحدة ولا قرار. وسط هذه الدراما الانسانية يتبادل الطرفان الاتهامات حول الشرعية والحق والبادئ بالظلم والرافض للحوار. ف"فتح"تتهم"حماس"بأنها غدرت بالدولة وبالشعب وقامت بانقلاب لإقامة دولتها في غزة بدعم من إيران التي أرادت استخدامها كورقة في التفاوض على ملفها النووي مع الولاياتالمتحدة والغرب، وفي وجه مصر لإثبات وصولها الى حدودها أو الى حديقتها الخلفية. كما تتهمها بالتنكيل بالفلسطينيين في غزة والفتحاويين بالذات وبالتسبب في المحنة الحالية والحصار وبالاتفاق مع اسرائيل على التهدئة على حساب القضية. فيما تتهم"حماس""فتح"بسرقة السلطة القائمة على انتخابات شرعية فازت بها، وبالفساد خلال فترة حكمها، ثم بالمضي قدماً في المفاوضات مع إسرائيل على رغم علمها بأنها مجرد طبخة بحص لن ينجم عنها أي اتفاق سلام. هذه المعضلة تبدو بلا حل، فالمشهد قاتم والجو ملبّد بالغيوم السود والحوار معلق، فيما يحمل المشهد ملامح صورة أحداث منتظرة خلال الأشهر القليلة المقبلة، منها على سبيل المثال لا الحصر: * احتمال قيام اسرائيل بعملية عسكرية واسعة تنهي سيطرة"حماس"على غزة قبل الانتخابات العامة في محاولة من تسيبي ليفني وحزبي"كديما"والعمل لتعديل النتائج. * احتمال تحرك"حماس"للقيام بحركة مشابهة لما جرى في غزة، في الضفة الغربية وبعض المخيمات الفلسطينية لقلب الموازين والمعادلات لمصلحتها. * في المقابل يتوقع المتفائلون بروز تحركات عملية لإنهاء هذا الوضع الشاذ بإحياء الحوار الوطني وصولاً الى حل وسط في شأن المأزق السياسي الذي ينتظر أن يتفاقم مع حلول موعد انتهاء فترة رئاسة أبو مازن على رغم ما قيل عن انتخابه رئيساً لدولة فلسطين من جانب المجلس المركزي. ويبني هؤلاء تفاؤلهم على المتغيرات المرتقبة في السياسة الأميركية عند تسلم الرئيس المنتخب باراك أوباما مقاليد الحكم وتوقع بدء حوار أميركي مع سورية وإيران، فيما يرد المتشائمون بأن فوز"ليكود"برئاسة بنيامين نتانياهو سيقلب الموازين ويصعّب أي محاولة للحل، خصوصاً أن هناك الكثير من الأحاديث عن قرب انتهاء فترة التهدئة وتعذر تجديد الاتفاق بين"حماس"و"فتح"، على رغم إعلان رئيس المكتب السياسي خالد مشعل ان"حماس"وكل الفلسطينيين مستعدون للتعامل مع الادارة الجديدة على قاعدة أن تحترم الحقوق الفلسطينية والعربية وأن تغير اسرائيل سياستها الخارجية القائمة على الانحياز والعدوان"، في ما فسر بأنه دعوة مسبقة للحوار مع"ليكود"في حال فوزه في الانتخابات العامة المقررة في شباط فبراير 2009. هذه البانوراما الفلسطينية تدفع المخلصين للدعوة الى تغليب العقل والحكمة والمسارعة الى إنهاء هذا الوضع الشاذ وإنقاذ ما يمكن إنقاذه رحمة بالشعب الفلسطيني وأبناء غزة الأشاوس. ولا بدّ أولاً من انتزاع السكين السام من الجسد العربي ومن الضمائر ثم البدء بالحوار لإعادة بناء المؤسسات الفلسطينية وتأمين الغذاء والدواء والتعليم ولقمة عيش الشعب المنكوب ثم العمل على إجراء انتخابات رئاسية وشعبية نزيهة تحت إشراف عربي ودولي ولو اضطر الأمر لإرسال قوات فصل محايدة تنقل المناطق الفلسطينية من حال الفوضى والصراع والدمار الى حال الوحدة والاستقرار. وعلى رغم كل سوداوية المشهد الفلسطيني، لا بد من فسحة أمل تتيحها الفرصة الراهنة المتمثلة بالمتغيرات الدولية والإقليمية. والتاريخ لن يرحم من يعرقل مثل هذا الحل، لأن البديل خراب ومذابح ونهاية للقضية الفلسطينية وللشعب الفلسطيني وآماله وطموحاته وحقوقه، وعندها سيتحول السكين المغروس في الضمائر الى خنجر مسموم يذبح الأمة من الوريد الى الوريد. * كاتب عربي نشر في العدد: 16684 ت.م: 08-12-2008 ص: 15 ط: الرياض