لم يعد من شك أن كل الجهود التي بذلها الرئيس الفلسطيني محمود عباس من أجل تشكيل حكومة وحدة وطنية تنقذ الشعب من الحصار والعزل والمجاعة قد وصلت إلى طريق مسدود، أما الاستمرار في المحاولة من جديد فهو مجرد مضيعة للوقت ليس إلا، ذلك أنه صار واضحا لأشد المتفائلين أن حكومة إسماعيل هنية ومن ورائها حركة"حماس"ليست معنية من قريب أو بعيد بكل تلك الحوارات باعتبارها حوارات، من وجهة نظر الحركة، تهدف الى إبعاد"حماس"عن التفرد بقيادة الحكومة ثم الأهم من ذلك تشكيل الحكومة العتيدة ببرنامج سياسي آخر غير ذلك الذي تصرّ عليه"حماس"والذي لم ينجح خلال الشهور السبعة الفائتة إلا في فرض الحصار على الشعب الفلسطيني وإضافة الجوع الى همومه وعذاباته الكثيرة. قادة حركة"حماس"لا يرون في حكومة الوحدة الوطنية إلا عنوان فشل لدورهم الحكومي، أما استمرار المجاعة واشتداد الحصار الدولي فلا يبدو أنهما يثقلان على تفكيرهم أو يثيران اهتمامهم. ولعل قرار وزير داخلية"حماس"بإنزال"القوة التنفيذية"الى شوارع قطاع غزة وصدامها بالرصاص مع المضربين المطالبين برواتبهم هو المثال الساطع على كيفية نظر هذه الحكومة وحركتها الى هموم الناس وعذاباتهم، وإلا كيف يمكن لعاقل أن يفهم ذلك الخيار البائس الذي عرضه قادة"حماس"على المضربين حين قالوا لهم: إما أن تأكلوا بذل أو تجوعوا بشرف! من الواضح لمن يتابع أحداث الساحة الفلسطينية أن الحوارات مع قادة حركة"حماس"في الداخل كانت دائما تصل الى اتفاق وتوقيع، فيتفاءل الجميع بقرب انفراج الأزمة وزوال حالة الاحتقان، ولكن ما أن يمر يوم أو يومان حتى يفاجأ المتفائلون بعودة"حماس"عن الاتفاق الموقع الى المربع الأول حيث التحفظات العديدة وخصوصا على النقاط الأهم، أي اعتراف الحكومة القادمة بالاتفاقات الموقعة. مسألة تكرّرت أكثر من مرة وبعد أكثر من حوار انتهى الى اتفاق، ما دعا المراقبين الى محاولة فهم ما يحدث: هل السبب يعود الى وجود تيارات وأجنحة متباينة المواقف داخل الحركة؟ كثيرون يذهبون الى ذلك التفسير فيما يعلل آخرون الأمر كله بوجود مفاهيم متباينة بين قيادتي الداخل والخارج، ويذهب آخرون أبعد من ذلك الى أن قرار حركة"حماس"يتأثر الى حد بعيد بموقف القوى الإسلامية العربية، وبالتحديد الى قرار جماعة"الإخوان المسلمين"التي ترى أن انسحاب"حماس"من مسؤولياتها في الحكومة إنما هو فشل للتيارات الإسلامية السياسية ومؤشر الى فشل قادم يمكن أن تعيشه أحزابها في بلدان عربية وحتى إسلامية أخرى. من الواضح أن تطورات كهذه لم تعد تتعلق لا ب"حماس"و"فتح"ولا بالحكومة الفلسطينية وبرنامجها إلا باعتبار ذلك كله من مفردات الصراع بين اتجاهين يؤمن أولهما بمنطق السياسة العصرية بما فيها من واقعية، ويتشبث الثاني بقوة بما يسميه الثوابت التي يقول إنه لا يتنازل عنها حتى"لو قتلنا جميعا"كما اقسم الناطق باسم"حماس"خلال مهرجان حاشد في مدينة غزة في الأسبوع الماضي، من دون أن ينسى أن يدعو الى محو إسرائيل ودول الغرب ومعها الدول العربية المعترفة بإسرائيل، ثم ليترجل عن المنبر من دون أن ينطق حرفا واحدا يمكن أن يفهم منه أحد أنه يهتم بمصير الموظفين أو عذاباتهم وعذابات عائلاتهم، ومن وراء الجميع عذابات الشعب الفلسطيني الذي انتخب حركة"حماس"وهاهم قادتها يديرون ظهرهم له. المشكلة الأشد خطورة أن قادة حركة"حماس"لا يستطيعون الإجابة على الأسئلة الواقعية للناس إلا بالهروب الى الأمام، والأمام هنا هو توتير الأجواء المحلية وخصوصا في قطاع غزة ومواصلة إطلاق التصريحات عن مؤامرة لإزاحة"حماس"عن الحكومة، مؤامرة تقول"حماس"ان الجميع يشارك فيها، بدءا من الرئيس أبو مازن ومعه حركة"فتح"ومعهما إسرائيل الى الولاياتالمتحدة ودول اللجنة الرباعية والعديد من الدول العربية. مع تلك التصريحات الصاخبة لا يبدو أن أحدا في"حماس"توقف ليسأل نفسه: لماذا خاضت"حماس"الانتخابات وشكلت منفردة بعد ذلك الحكومة وهي تعرف أنها انتخابات سلطة أوسلو التي تشكلت بقرارات دولية؟ هل كان قادة"حماس"يظنون أن الأموال الأميركية والأوروبية التي تقدم للسلطة هي أموال جمعية خيرية يتم دفعها للشعب الفلسطيني من دون اشتراطات سياسية محددة أهمها"تشجيع سياسة المفاوضات والسلام"؟ لا أحد يصدق أنهم كانوا يجهلون ذلك. يظل هناك تفسير واحد هو أن يتطلعوا الى تغيير قواعد اللعبة. ذلك مشروع في السياسة بالطبع ولكن: هل استطاعت قيادة حركة"حماس"أن تحقق ذلك ولو جزئيا؟ هل تمكنت بعد سبعة شهور طويلة من فتح ولو ثغرة في جدار الحصار الدولي كي تبني عليه مطالباتها الخيالية للشعب الفلسطيني بالصمود؟ الهمس الدائر في الضفة الغربية وقطاع غزة يذهب الى أبعد من ذلك إذ يتحدث الناس، وبينهم أعضاء في حركة"حماس"، عن أن مصير الموظفين لا يعني"حماس"كثيرا، لأنهم حسب رأي هذا البعض مجرد أعضاء في حركة"فتح"أو مؤيدون لها. هذا السياق البائس للتطورات ليس له من مخرج إلا الاقتتال والحرب الأهلية، إلا إذا عاد قادة حركة"حماس"الى لغة العقل والموضوعية. ان المسؤولية التاريخية تفرض أن تأخذ"حماس"موقفا حاسما إما بالتوافق مع الآخرين على برنامج سياسي واقعي أو بالانسحاب من الحكومة وترك المسؤولية لمن يفعل ذلك. من دون قرار كهذا سيستمر الجدل العقيم وتستمر معه حالة الاحتقان التي تنذر بأشد العواقب على الجميع. * كاتب فلسطيني