الحكومة البريطانية تتعرض لضغط داخلي في قضية شراء أو عدم شراء منتجات من المستوطنات، لكن موقفها بحسب القانون، وهو الاستيراد من السلطة الوطنية الفلسطينية ومن إسرائيل وعدم الاستيراد من المستوطنات، لأن هذه الأخيرة لا تدعم عملية السلام بل تعيق تحقيقه بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. هذا الموقف أعلنه وزير الخارجية البريطاني ديفيد ميليباند شارحاً للفلسطينيين ومبرراً للإسرائيليين الموقف الذي بلورته حكومته التي تسعى في شكل حثيث من أجل إقناع دول الاتحاد الأوروبي بتبنيه، ذلك أن اتفاقية التبادل الحر التي وقعت العام 2000 تسمح فقط بإعطاء معاملة تفضيلية للسلع المستوردة من إسرائيل ضمن حدودها كما تراها معظم دول العالم، أي حدود الرابع من حزيران يونيو 1967، المستوطنات غير واقعة ضمن هذه الحدود، وهي لا تكتفي بإعاقة السلام وإنما هي غير شرعية وغير قانونية كما قالت وزارة الخارجية البريطانية نفسها منذ فترة وكما يقول المجتمع الدولي، وحتى الولاياتالمتحدة نفسها كانت تتبنى المصطلح نفسه تجاه المستوطنات قبل أن تتحول هذه بالتدريج الى عائق أو عقبة أمام تهيئة الأجواء لعملية السلام. يمكن فهم الموقف البريطاني المستجد والنوعي ضمن سياقات الرغبة بالإصغاء الى الرأي العام كأي ديموقراطية عريقة. والجذور اليسارية للوزير ميليباند - على رغم وجود أقارب له يعيشون في إحدى المستوطنات بالضفة الغربية - تعزز فهم بريطانيا الأدق والأعمق للأحداث والتطورات في المنطقة، وربما الرغبة في موازنة قراراتها الخاطئة، إن تجاه غزو العراق أو تجاه قوى وأحزاب رئيسة ومؤثرة وجماهيرية مثل"حماس"و"حزب الله"، إضافة الى ذلك تمهيد التربة أمام الإدارة الأميركية الجديدة ضمن تصور عام لسياسات مغايرة لتلك التي اتبعتها إدارة جورج بوش وارتدت سلباً وفي شكل كارثي على المنطقة وشعوبها، وحتى على صورة ومصالح الغرب في شكل عام والولاياتالمتحدة في شكل خاص. أياً كانت الحسابات والخلفيات فإننا أمام موقف بريطاني نوعي ومهم علماً أن هذا الموقف سلّط الضوء مرة أخرى على الغياب أو اللامبالاة العربية حتى تجاه القضايا الرئيسة والمركزية. منذ مدة اتجهت الجامعة العربية الى مجلس الأمن لمناقشة الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، الجلسة التي قاطعتها وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس لم تؤد الى نتيجة فورية ومباشرة - اللهم إلا إظهار مدى الانحياز الأميركي - غير أنها لم تستتبع بحركة ديبلوماسية نشيطة ودؤوبة لحشد موقف دولي ضاغط على إسرائيل لتجميد الاستيطان، كما نصت على ذلك خريطة الطريق التي باتت الآن إحدى الأسس المهمة لعملية السلام أو - عملية أنابوليس - بحسب التسمية الجديدة. حتى الموقف البريطاني المستجد والحراك والسجال داخل الاتحاد الأوروبي لم يثر أي رد فعل عربي، على رغم أن الأمر يشكل فرصة سانحة مع الاتحاد الأوروبي لتكريس صدقيته وتأكيد نظرته، ليس فقط تجاه الاستيطان وإنما تجاه التنفيذ الدقيق والأمين للمعاهدات والاتفاقات التي وقعها الاتحاد، سواء مع إسرائيل أو مع السلطة الفلسطينية والدول العربية الأخرى. الموقف البريطاني لم يفضح فقط العجز العربي وإنما فضح كذلك بؤس وقصور الأداء السياسي والديبلوماسي الفلسطيني، فعلى رغم استمرار الاستيطان وتوقف المفاوضات في شكل عملي مع التغييرات التي عصفت بإسرائيل لم تتخذ السلطة موقفاً جذرياً وقاطعاً ضد الاستيطان عبر تجميد علني للمفاوضات - المتوقفة على كل حال - طالما استمرت عمليات الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة. والأرقام والإحصاءات والوقائع تخدم بلا شك الجانب الفلسطيني، وبحسب حصيلة شبه رسمية فإن الحكومة الإسرائيلية بعد لقاء أنابوليس أي خلال عام تقريباً أعطت الضوء الأخضر لبناء 41559 وحدة استيطانية و12 بؤرة استيطانية، بينما قام جيش الاحتلال بهدم 90 منزلاً واقتلاع 8 آلاف شجرة، وإذا كان كل ذلك غير كاف ففي حوزة السلطة الفلسطينية فتوى رسمية صادرة عن أعلى هيئة قضائية في العالم، ونعني محكمة العدل الدولية، تعتبر الاستيطان غير شرعي يتناقض مع المواثيق والقوانين الدولية، وليس ذلك فحسب بل تضمنت الفتوى حق الفلسطينيين في الحصول على تعويضات نتيجة الأضرار النفسية والمعنوية والمادية التي تعرضوا لها جراء المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية وغزة. السلطة المشغولة بالخلافات والتعيينات والمفاوضات عجزت عن اتخاذ الموقف الجدي والمسؤول تجاه الاستيطان المستمر على قدم وساق، عبر الإصرار على تجميد المفاوضات الى حين تجميد الاستيطان وتطبيق أو تفعيل فتوى محكمة العدل الدولية، أما الفصائل الأخرى فتفهم المقاومة فقط في سياقها المسلح وتتجاهل المقاومة الشعبية والجماهيرية - على رغم أن الضفة الغربية محتلة في شكل مباشر - وتترك ذلك لمنظمات المجتمع المدني والمتضامنين الأجانب بدلاً من الاستفادة من نضال هؤلاء ضمن تصور عام للمقاومة في استراتيجية شاملة لإدارة الصراع مع إسرائيل بأبعاده المختلفة السياسية والأمنية والقانونية والإعلامية. بغض النظر عن القصور العربي والفلسطيني وغياب الرؤية لكيفية مواجهة المشروع الاستيطاني، يبقى الموقف البريطاني مهماً ونوعياً، علماً أن إسرائيل تفهم مغزاه وآثاره البعيدة المدى في حال التعاطي معه عربياً وفلسطينياً في شكل مختلف، وهو نزع الشرعية عن المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة كخطوة باتجاه نزع الشرعية عن المستوطنة أو المستعمرة الكبيرة المسماة إسرائيل. آرييل شارون قال ذات مرة أن حكم نتسريم كحكم تل أبيب، والآن فإن حكم آرييل ومعاليه أدوميم جوهرياً كحكم نتانيا وكفار سابا. والحقيقة أن الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 يكرس الوجه العنصري لإسرائيل عبر تخصيص الطرق للمستوطنين وكذلك الموارد الطبيعية، كما أن أمراً مماثلاً يجري ضمن الأراضي المحتلة عام 1948 هو التمييز العنصري بحق الأقلية العربية الفلسطينية وخطط ومشاريع تهويد النقب والجليل، وتطوير الضواحي والمدن الجديدة المخصصة لليهود أو للمستوطنين القدامى. في الجوهر هناك خط رفيع يفصل بين نزع الشرعية عن المستوطنات في الضفة الغربية ونزع الشرعية عن إسرائيل كدولة عنصرية تمارس التمييز العرقي في شكل منهجي ومنظم. * كاتب فلسطيني