دمشق القديمة، دمشق التاريخية، هي الحدث وقلب الخطر. فالمدينة - العاصمة الكوزموبوليتيّة والمقدسّة تاريخيا التي حمل اليها الفضول وشغف التعرف كثيرا من البحاثة والمؤرخين والآثاريين، صدر في حقها عدد من أحكام النفي الى صفحات الحنين الساذج والسياحة المقنّعة الحاصلين الآن. أحكام كانت عبارة عن قرارات استملاك لعقارات وبيوت تعود ملكية البعض منها الى العهد العثماني، على أن يعوّضوا بغيرها في مناطق طرفية من دمشق الكبرى. وقرارات تذرعت بإزالة التشوهات وما هو غير جمالي، متخذة من اختيار دمشق لتكون عاصمة للثقافة العربية في 2008 ذريعة لا ترد في وجهها هذه القرارات، أدت، حتى الآن، الى نفي"السوق العتيق"الأثري الى عالم الصور والذاكرة، ومنها أيضا أن كان مقررا أن تعمل جرارات وبلدوزرات محافظة دمشق في الشهر الثاني من العام المنصرم في جزء أصيل من العمارة القائمة على سور المدينة القديمة الذي يعتبر في أهمية المدينة ذاتها، كونهما من نفس النسيج المعماري والاجتماعي التاريخي، لولا صحوة مجتمعية لافتة قام بها سوريون من صحافيين ومثقفين وأكاديميين وأهالٍ، فيما بات يعرف ب"قضية شارع الملك فيصل"والتي تحولت الى قضية رأي عام من الدرجة الأولى لم تشهد لها سورية مثيلا منذ تسلم البعث حكم البلاد. فلو نُفّذ القرار وضع دمشق القديمة في رحلة التشرذم والتمزق الى رموز صغيرة مبعثرة بين جنبات طرق عريضة وسريعة ترتفع الى جانبها أبنية ومجمعات تجارية و"مساحات خضراء"من الطراز المعماري الحداثي المطبق في المدن البِكر والناشئة. هكذا نكون قد ودّعنا حيّزا واسعا وأصيلا من ذاكرة المدينة بخسارة شبكة أسواق تمتعت بقيمة تاريخية وثقافية قل نظيرها في بلاد المشرق، ونكون قد صادرنا مورد الرزق الأساسي لمئات العائلات والأسر ونفيناها الى أمكنة لقيطة لا قيمة لها ولا حتى لهم فيما بعد. وأتت قصة ما يحدث في سوق شارع مدحت باشا الأثري لتثبت أن مكونات هذه المدينة انما تتساقط تواليا كقطع الدومينو وان بوتيرة متمهلة وسامّة، فانكشف من مدة قصيرة احد أهوال التخطيط اللامبالي واستخفاف أولي الأمر بأقدم عاصمة مأهولة في العالم عندما انفجرت قساطل وتمديدات مياه الشفة في باطن الأرض تحت الشارع المستقيم الذي هو أحد امتدادات شارع مدحت باشا التاريخي عند باب شرقي داخل أسوار المدينة القديمة. ما أدى لانهيارات وتخلخل أساسات عدد من الأبنية، منها ما تُعتبر واجهاته من التحف المعمارية القائمة في هذا المشرق. وهو واقع ينافي كلاماً لحنان قصاب حسن المكلفة باحتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية 2008 من على شاشة التلفزة الرسمية السورية تردّ فيه على أحد المتصلين بقولها إن العمارة الدمشقية هي عمارة"تهتم بالداخل... وصماء من الخارج". حيث لا يمكن الحديث ببساطة عن وجود نمط معماري واحد وثابت تميزت به مدينة دمشق عبر الفترات الزمنية التي عاشتها. والمتجول في أحياء المدينة القديمة داخل السور سيجد من التجاوزات المعمارية والاجتماعية ما يصل الى حد الجريمة، والجريمة الوطنية أيضا. فما زالت السيارات تجول في الحارات والأزقة الضيقة، ما يجبر السائح وعابر الطريق على الالتصاق بجدران البيوت افساحا في الطريق لها، اضافة الى تراكم أدخنة وشحوم عوادم هذه السيارات على واجهات ومداخل الأبنية الدالة على مكانة هذه المدينة. وما زالت المطاعم والمقاهي والبارات تنتشر فيها كالمرض الخبيث، في غياب أي تصور أو دراسة تحمي المدينة القديمة من هذه الفوضى وتخلق التوازن والانسجام المطلوب بين تخديم وتسويق هذا المكان والحفاظ على طابعه الأصلي. هذه المطاعم التي تشبه الألغام أو القنابل الموقوتة، التي ما ان تُقونَن ويمتد سلطانها الى كامل المدينة حتى نشهد انفجارها وتلاشيها، فتفقد أهلها وسكانها ومجتمعها الأصليين، وكل موجودات التاريخ ومكوّنات الهوية. ومن سلطان هذه المنشآت مثلا أن يقتحم أصحابها النسيج الاجتماعي لحي قديم وعريق، ويمارس بنفوذه وماله سياسة الضغط والابتزاز على بقية السكان من جيرانه المعترضين على مطعمه، ويلعب معهم لعبة العصا والجزرة. فتارة يحرم هذا المستثمر، والذي استوطن الحي فجأة، بسلوكه المسيء، نساء الحي من ارتياد شرفات بيوتهن، وتارة يهدد جيرانه بترحيلهم عن بيوتهم واجبارهم على بيعها له بشراء ما يجاورها وانكشافه على حرمات منازلهم، أو يترصد أعمالهم وأبواب رزقهم ويضّق عليهم فيها. وليس غريبا أن يأتي أحدهم بمكبرات صوت يلزم كل منها سيارة بالكاد يتسع لها طريق الحي، ويقيم حفلات سحور رمضانية في مطعمه تبدأ في الواحدة ليلا وتمتد الى أذان الامساك، مع العلم أن لا فرق الميلوية الصوفية من يحييها ولا منشدي دمشق من نجومها، فنجوم الحفل من أصحاب الأصوات الشعبية التي تصدح في عُلب بيع الأسطوانات في مواقف السيارات والحافلات العمومية المتجهة الى الأرياف وأطراف المدن من مغني العتابا والدبكة. الحاصل هنا ومع التماسنا أقصى الأعذار والنوايا الطيبة أشبه بعملية تهجير ثقافي، ولنا في بيروت مثال عليه اذ زالت مدينتها القديمة بما تحمله من تراث وثقل تاريخي ليحل مكانها مشروع سوليدير. كل هذا يحدث لدمشق في الدرجة الأولى ولغيرها من مدن سورية وحواضرها، نتيجة سياسة محلية قاصرة، أصغر أهوالها أن يوكل الشأن الثقافي السوري وبرضا ومباركة من وزارة الثقافة نفسها الى وزارة السياحة، التي تعلن يوميا عروضها وخدماتها السياحة الخاصة، والتي تستهدف شريحة معينة"ثرية"من السياح، لتُدقّ أجراس الخطر المقبل على الممتلكات التاريخية والثقافية للسوريين والحواضر المؤتمنين عليها نيابة عن أهل الأرض. ومن أهوالها وجود مديرية عامة للآثار والمتاحف تحمل من صفات الرداءة والعبث وهدر المال العام ما يفوق حجمها في سوق الفساد الاداري، اضافة الى مافيويّة جهازها الاداري، وتحطيم شغف وطموح موظفيها الشباب من آثاريين ومعماريين، فيما يفترض فيها أن تكون المعني الأول والمباشر عن صيانة التاريخ والتراث السوري وحمايته، والترويج له. يقودنا ما سبق الى تفسير تلك الحالات والمشكلات، والتعرف بالتالي على الزيّ الجديد المراد الباسه للمدينة العربية. فدمشق تقدم لنا في حالتها الراهنة، وتلك التي هي مقبلة عليها أيضا، صورة الحالة المدينية الجديدة، وهي الحقبة الثالثة ربما في سلسلة التغيرات الحاصلة للمدينة العربية بهويتها الثقافية ومزاجها الاجتماعي. فبعد الانتقال بها اجتماعيا وثقافيا الى حالات"الترييف"و"العسكرة"، تصاب دمشق وغيرها اليوم بما يمكن تسميته ظاهرة"تسليع المدينة"، حيث اجتمعت عوامل عدّة داخلية وخارجية أدت اليها. فثقافة الاستهلاك قد اكتسحت المدينة بشكل مرضي ولافت، وانتشرت سلوكيات ومفاهيم الانفاق والتسوق بشكلها السطحي المعولم، ل"تكون مواكبة لمفهوم التسوق المتطور"كما تقول احدى الكليشيهات الصحافية أثناء اعلانها خبر دخول احدى هذه السلوكيات عبر شركة عالمية الاسم. ورافق ذلك ظهور شكل جديد من أشكال الحياة المدينيّة تمثل بالمجمعات التجارية الضخمة المول، وأشكال هجينة غير رصينة من التعليم الخاص من مدارس وجامعات. كل هذا ترافق مع تغيير انقلابي غير مدروس، أو متعجّل، في النهج الاقتصادي للدولة يتجه نحو خيار الليبرالية الاقتصادية والسوق المفتوح، بعد أن استكانت وتعايشت ذهنية الناس الاقتصادية والمعيشية مع الاقتصاد شبه الاشتراكي الذي كان مطبقا عليهم. فكان من الطبيعي أن يؤدي هذا التسليع الى احداث فرز في المجتمع المديني، يقسمه الى طبقتين متمايزتين، الأولى الفقيرة والأوسع هي مجتمع أبناء الضواحي والسكن العشوائي مما يزنّر المدينة، والثانية الغنيّة، تمثل مجتمع الطبقة العليا من أبناء رؤوس الأموال، من محدثي الثراء، ومتقاعدي السلطة، والمتكسّبين من الفساد الاداري المزمن والقديم. فأبناء الضواحي هؤلاء بدؤوا بالتحول الى وقود وحواشي لهذا التسليع، بينما يكتفي أبناء المال بالكون شركاء فيه. والخوف القادم هو من"تدوير"هذا التسليع حتى يدخل ويتدخل في جميع المناحي الأخرى غير المادية، فينال من شخصية الفرد بشكل عام وكاسح، فنحتاج وقتئذ الى تحليل نفسي جديد لشخصية الانسان الدمشقي خاصة، والعربي أيضا. ونوجز ختام توصفينا هذا لحال دمشق بما عنونه وعد المهنا، الصحافي السوري المتخصص بتراث سورية والمدافع عن قلب دمشق، فنقول معه: يذبحون دمشق احْجِروا على ذابحيها حالاً. * صحافي سوري.