إنه معسكر بدائي مرتجل في بطن أحد جبال إقليم "دارفور"، يحمي من هربوا من بنادق الحرب في بيوت من قش لا تصمد حتى أمام قطرات المطر الخفيف. ينام أهلوه تحت القش، يطبخون على مواقد من حجر ونار، وإذا زمجرت العواصف وأربدت السماء، يهرعون الى كهوف يفترض أن تقيهم البرد والمطر والرياح. لا يحتوي معسكر اللاجئين هذا، الذي وصفته كاميرا إحدى الفضائيات العربية بأنه خفي عن الأعين، على أي مظهر للحضارة الإنسانية كما نعرفها... سوى البندقية الآلية السريعة الطلقات"إي كا-47"المعروفة عالمياً باسم عائلة مخترعها:"كلاشنيكوف". وأمام كاميرا تلك الفضائية، التي قالت انها نجحت في إيصال عدساتها الى حيث لم تصل الأممالمتحدة ولا السلطات السودانية، ظهر فتيه يرتدون ما يشبه الأسمال البدائية، وبعضهم حفاة الأرجل على رغم وعورة الأرض، لكنهم يحتضنون بنادق"إي كا-47"ويتمنطقون بأحزمة تحمل ذخيرتها. بعد دقائق غادرت الكاميرا المخيم، وتركت خلفها النازحين وبنادق الپ"كلاشنيكوف". "تحضّر" البندقية وپ"بدائية" المقاتل يبدو التناقض كبيراً بين تلك البندقية الروسية الصنع، وبين حامليها من فتية لاجئي"دارفور"! إذ تُصنع هذه البندقية، التي تنتشر عالمياً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في دولة تعتبر من الأكثر تقدماً في العلوم والتقنية والحضارة"كما يتطلب انتاجها مصانع ضخمة متطورة ووسائل علمية متقدمة، إضافة الى أوضاع في السياسة تدعم انتشارها ووصولها إلى الأسواق العالمية. ولا ينال حاملوها في"دارفور"من الحضارة الانسانية الراهنة نصيباً يُذكر، ولا يحتاج"انتاج"المقاتل الى أكثر من عمليات التكاثر والصراع من أجل البقاء البيولوجي المحض! ولعل ذلك التناقض من أسرار انتشار تلك البندقية، التي تشير بعض الإحصاءات الى أنها ربما قتلت أكثر مما فعلت القنابل الذرية التي أُلقيت على هيروشيما وناغازاكي مجتمعة، بل ربما حصدت من الأرواح أكثر مما فعلت عملياً أسلحة الدمار الشامل. فمن أهم عوامل انتشارها الهائل، سهولة استعمالها التي لا تتطلب لا تعليماً مسبقاً ولا ذاكرة هائلة ولا تمرساً طويلاً. وتصل سهولة التدريب عليها الى حدّ القدرة على إتقان استعمالها بعد تدريب وجيز. وتتمتع بندقية"كلاشنيكوف"بعملانية كبيرة، إذ تستمر في العمل مباشرة بعد دفنها في الرمل ثم إخراجها، ولا تتوقف حتى لو سقطت من يد حاملها الى الماء! وراجت تلك البندقية، ذات المخزن المعقوف، في أيدي مقاتلي العالم الثالث"وارتبطت بثوراته و... بثوراته المضادة أيضاً. وحرص الأميركيون على نشرها بين صفوف المقاتلين الاسلاميين خلال الحرب الأفغانية، قبيل ختام الحرب الباردة، إذ حصلوا عليها من المصانع الصينية، لأن أبناء العم ماو كانوا على"تناقض"مع الاتحاد السوفياتي. وبعد نهاية الحرب الباردة، عرفت بندقية"إي كا-47"في الولاياتالمتحدة أيضاً، التي يضمن دستورها في مادته الثانية حق المواطن في حمل السلاح واقتنائه. وفي السوق الأميركي الضخم، لا ينافسها منافس من نوعها، بل تخوض صراعاً على النفوذ مع المسدس الرشاش من نوع"عوزي"الذي تصنعه اسرائيل. ولعل ذلك ما دفع بصنّاعه الى تطويره في شكل يزيد من قدرته التنافسية في مجال سوق الأسلحة الفردية. سرعة في رماية الرصاص الكبير في تطور جديد، قررت روسيا أخيراً صنع بندقية"كلاشنيكوف"يمكن تزويدها كاتماً للصوت، ما قد يزيد من الطلب عليها. ويصف ألكسي دراغونوف 52 سنة، وهو من مهندسي تلك البندقية:"انها شبه صامتة كلياً... ويمكنها اختراق حتى السترات الواقية من الرصاص". وفي سياق مماثل، كشف مسؤولون في الشركة التي تنتجها ان القوات الروسية الخاصة طلبت قبل عام، من مصنع"ايجماش"الواقع في"ايجيفسك"وهي إحدى مناطق جبال الأورال، حيث ولدت بندقية كلاشنيكوف أصلاً ابتكار بندقية هجومية تجمع بين ميزات"كلاشنيكوف"والأسلحة الفردية الصامتة في شكل يسمح باستخدامها في مهمات سرية. وفي تصريح الى الصحافة أخيراً لمناسبة مرور ستين عاماً على صناعة أول بندقية"كلاشنيكوف"من نوع"إي كا-47"، أوضح فلاديمير غروديتسكي مدير المصنع،"ان النسخة الجديدة من"كلاشنيكوف"تحمل الرمز"إي كا-9"، وهي مخصصة للقوات الخاصة التي تعمل في مجال مكافحة الارهاب". وزوّدت بندقية"إي كا-9"كاتماً للصوت، وتزن 3.8 كيلوغرام، أي أقل بقليل من النماذج السابقة لپ"كلاشنيكوف". وتطلق رصاصاً من عيار تسعة ميللمترات، مخصصاً لاختراق السترات الواقية من الرصاص. ومن المُلاحظ أنها المرة الأولى التي يستعمل فيها"كلاشنيكوف"رصاصاً من هذا العيار، الذي يُستعمل في مسدس الپ"عوزي". وتقليدياً، يُطلق"كلاشنيكوف"رصاصاً خاصاً من عيار 2.64*49. وعبّر ريتشارد جونز في نشرة"جينز اينفانتيري ويبنز"البريطانية المتخصصة بالشؤون العسكرية، أن"لا أحد ينتج مثل هذا السلاح"، في اشارة إلى"إي كا-9"كبندقية أوتوماتيكية سريعة الطلقات تستعمل رصاصاً من العيار الكبير مع كاتم الصوت. وتابع الخبير نفسه ان الاهتمام بهذا النوع من البنادق يتزايد"لأسباب تكتيكية"، موضحاً أن هذه البندقية الجديدة"يمكن ان يثير اهتمام قوات خاصة ومجموعات كوماندوس أخرى". وما زالت بندقية"إي كا-9"قيد الاختبار. وكذلك تنتظر موافقة وزارة الدفاع الروسية، فلا يعرض مسؤولو المصنع الذي ينتجها للبيع اي نموذج منها. وقد تمكنت مجموعة منتقاة من الصحافيين الأجانب من مشاهدتها، ولكن ليس أثناء الاستعمال. وصرح غروديتسكي أنه يعتقد بأن"فرص تصدير هذا السلاح واعدة وكبيرة... نأمل في الحصول على تصريح لتصديره في اقرب وقت ممكن". ويندرج تطوير هذه البندقية في برنامج واسع لتحديث القوات المسلحة الروسية بدءاً من تغيير الزي العسكري وانتهاء باستخدام صواريخ جديدة من طراز"اسكندر"ذات التقنية العالية. وصرح نيكولاي نوفيشكوف الخبير العسكري لوكالة الأنباء الروسية"ايتار تاس"بأن"الجيش الروسي بات يتلقى معدات جديدة أخيراً، ولكن ليس بكميات كبيرة. انه برنامج جدي للتحديث". ويشتهر مصنع"ايجماش"أساساً بصنع بنادق الپ"كلاشنيكوف"التقليدية، التي تلقى التقدير عالمياً أيضاً بسبب خفة وزنها ومتانتها. وينتج هذا المصنع نحو مئة ألف بندقية"كلاشنيكوف"سنوياً، لكن ثمة 900 ألف بندقية أخرى مقلّدة تُنتج عالمياً، وخصوصاً في بلغاريا والصين وتشيكيا وبولندا. ويبلغ سعر بندقية"كلاشنيكوف"التي تُنتج في روسيا 400 دولار. واستخدم الجيش القيصري الروسي أولى البنادق التي أنتجها هذا المصنع الواقع على بعد 1300 كيلومتر شرق موسكو، قبل مئتي سنة في الحرب ضد نابوليون مطلع القرن التاسع عشر. ولم تكن تلك البنادق من نوع"كلاشنيكوف". وفي المقابل، شرع دراغونوف في العمل في"ايجماش"منذ 29 عاماً. وهو ابن لمهندس الأسلحة الذي صمّم البندقية المعروفة باسم"دراغونوف"، التي اعتبرت، في الزمن القيصري، بندقية مخصصة للنخبة من الرماة. ولا زال الجيش الروسي يستخدمها، بل يُصدّر منها. ويرفض دراغونوف الابن التُهم الموجهة الى بندقية"كلاشنيكوف"، إذ يعتبر أن هدف الأسلحة الفردية هو الردع"وليس قتل الناس"!