لعلها المرة الأولى التي تبدي فيها الإدارة الأميركية حماساً زائداً في تشجيع أي وساطة عربية بين المغرب والجزائر للبحث في الفرص المتاحة أمام قبول الأطراف المعنية صيغة وفاقية لحل تدعمه الأممالمتحدة. وبدا الرهان على مساع يبذلها الرئيس المصري حسني مبارك في مقدم تلك الفرص، كونه عاين تطورات النزاع منذ البداية، ويبدو أقرب الى تفهم الحساسيات في منطقة شمال افريقيا، عدا ان دور بلاده يمكنه أن ينحو غرباً في اتجاه المغرب العربي الغائب عن كثير من المعادلات الشرق أوسطية. وكما أن الوزيرة السابقة في الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت كانت أول من اقترح على الرباط تقديم تصور ملموس وواقعي لحل ترتضيه جميع الأطراف، فإن الوزيرة كوندوليزا رايس لن تواجه صعوبات كبيرة في حض الجزائر والمغرب على الذهاب إلى طاولة المفاوضات على رغم تباين مواقفهما، وكما ستتجه الجزائر مع خياراتها في الدفاع عن جبهة"بوليساريو"التي لا تخفي مساندتها لها، فإن المغرب أيضاً صار في إمكانه أن يدافع عن الصحراويين الموالين له تحت مظلة المجلس الاستشاري الصحراوي. إلا أن المشهد لن يكتمل من دون رعاية طرف عربي ثالث يرتبط بعلاقات مميزة مع كل من المغرب والجزائر، لا سيما أن الوضع بين الجارين لم يعد يمكن أن ينساب ضمنه الحوار بسلاسة، ولا هو في أعلى درجات التوتر الذي يصل الى القطيعة. ولا يثير القلق إلا في نطاق تداعياته السلبية على الموقف من الحرب على الإرهاب وتزايد المخاوف من مخاطر انعدام الرقابة على منطقة الساحل جنوب الصحراء، كون الإدارة الأميركية تعول على تنسيق الجهود والتعاون الكامل لدول المنطقة في مواجهة هذه الاسبقيات. في الرباط، كما الجزائر والقاهرة، سمع المسؤولون خطاباً أميركياً جديداً مفاده أن لا بديل عن الحوار. وإن لم يبدأ مباشراً، فإنه يمكن أن ينفذ عن طريق ثالث ترجح فيه المعطيات والدلائل دوراً وفاقياً للقاهرة، يمكن أن يبدأ من قضية الصحراء وينسحب على محاولات تفعيل الاتحاد المغاربي الذي سبق لمصر أن طلبت الانضمام إليه حين كان جذاباً ليصل في نهاية المطاف إلى العمق الافريقي بموازاة الخطة الأميركية للقوة الافريقية. وبذلك تكون تمنيات واشنطن التي طرقت أبواب ونوافذ أهل القرار المغاربيين والمصريين تراد لما هو أكبر من تطويق نزاع الصحراء واذابته جزئياً وتدريجاً في الانشغالات الاقليمية على نحو يعاود رسم اسبقيات المرحلة. وسواء انحازت دول المنطقة إلى هذا التصور أو اعتبرته مجرد اشعار بالميول الأميركية، فإنه سيمضي قدماً من دون أن يترك هامشاً كبيراً للاختيار أمام من يرتاب في أهدافه أو يقبله على مضض. أبعد من التمنيات الأميركية التي اصبحت أكثر اهتماماً بتجنب الأخطاء التي ترتبت عن اعتمادها تصورات معلبة حول النزاعات الاقليمية وطرائق حلها، أنها نأت بنفسها بعيداً عن فرض أي حل أو تصور ازاء مستقبل السلم والأمن والاستقرار في منطقة شمال افريقيا وتركت للأطراف المعنية حرية المبادرة في تلمس الحلول الواقعية من دون الاضرار بالتوازن القائم، مستندة في ذلك الى أن أهل مكة أدرى بشعابها، وبالتالي فإنها من خلال رهانها على المساعي المصرية أو غيرها من المبادرات الحميدة، تكون قد خطت قدماً نحو تكريس خيارات جديدة يفترض في الشركاء المعنيين أن يتفهموا دلالاتها. وفي أقرب تقدير، فإن الحوار مع الأميركيين لم يعد خاضعاً للمزاج الذي كان سائداً قبل نهاية الحرب الباردة، ولم يعد يتأثر بمنطق الأفضليات، وفيما كان التلويح بالعلاقات التجارية مؤشراً الى القرب أو الابتعاد عن المصالح الأميركية المتشابكة مع مصالح شركائها السياسيين والاقتصاديين، فإن النزوع نحو منطق ابرام اتفاقات الشراكة الجديدة مع أطراف في المنطقة المغاربية يدفع إلى معاودة النظر في السياسات المتبعة، بخاصة أن واشنطن أبدت مرات عدة تفاؤلاً ازاء المستقبل الاقتصادي للفضاء المغاربي في حال انهاء نزاع الصحراء والانصراف نحو استحقاقات الشراكة والمساعدة في التنمية. ويكشف التحول البارز الذي تعرفه منطقة شمال افريقيا في سياق الانفتاح الديموقراطي عن مسار جديد للأحداث أكثر أهمية بالنسبة إلى الأميركيين من البقاء في منعطف الصراعات. ومن الأمور التي تسترعي الانتباه في التعاطي الأميركي وملفات المنطقة انها أدركت الدور الذي يجب أن تضطلع به الأممالمتحدة، ممثلة في الشرعية الدولية. ليس فقط لأنها دفعت غالياً ثمن الغائها ذلك الدور في الحرب على العراق وغياب آليات تنفيذ الالتزام الأميركي بحل الدولتين في الشرق الأوسط، ولكن لأن ما يصمد في حال تغيرت المعطيات هو الحلول المنبثقة عن الشرعية الدولية، ومن بينها الحل السياسي الوفاقي لنزاع الصحراء. قبل أكثر من ثلاثة عقود اثمرت المساعي الحميدة التي بذلها الرئيس المصري حسني مبارك، يوم كان نائباً لرئيس الجمهورية، عن نزع فتيل الانفجار في المنطقة. لذلك اهتم الأميركيون برصد الحدث بموازاة التطورات الراهنة التي تفيد بوجود تصور موضوعي للحل الذي يقيد الأطراف كافة. ومع أن قضية الصحراء لم تسجل على جدول أعمال أي من القمم العربية، فإن مجرد استحضار الوساطة المصرية يفسح في المجال أمام تجديدها في آفاق قد تبدو مغايرة للطبعة الأولى لتلك الوساطة، لكنها تظل مطلوبة عربياً ومغاربياً وثنائياً طالما أن الإطار الذي تتحرك ضمنه يبدو واضحاً ويتسع لاستيعاب الآمال المعقودة على تثبيت ركائز الأمن والسلم والاستقرار في شمال افريقيا.