يعتقد بعض السياسيين والمحللين في لبنان ان المعارضة اللبنانية هي في مأزق. فالمعارضة لا تستطيع التراجع وتقديم التنازلات لأن الاجواء الراهنة جعلت خسارة معركة موازية لخسارة حرب. والمعارضة لا تملك التصعيد الفاعل والمؤثرلأن الفريق الحاكم يتقن، هو الآخر، لعبة عض الاصابع، ولأن هذا التصعيد قد ينقلب على المعارضين اذا ما لامس حدود العنف والحرب الاهلية. والمعارضة لا يمكنها البقاء حيث هي لأنها وعدت انصارها بنصر قريب ولأنها ربطت صدقيتها بتحقيق اهدافها. هذا التقييم ليس منتشرا في اوساط الفريق الحاكم فحسب، وانما ايضا في اوساط المعارضة. من هنا ردد بعض قادة المعارضة انهم بصدد دراسة اللجوء الى العصيان المدني ولكن"بدقة". فالعصيان المدني قد يؤدي الى استفحال المأزق وليس الى الخروج منه. العصيان المدني سوف يؤكد مجددا ان المجتمع اللبناني منقسم انقساما عاموديا، وان هناك شيئاً من التعادل - شاء المعارضون والموالون ام ابوا - بين كفتي الصراع الدائر حاليا في لبنان. هذا التأكيد ينفع من يدافع عن الوضع الراهن، اي الموالين، لكنه لا ينفع من يريد تغييره، اي المعارضين. ذلك ان الفريق المعارض يحتاج الى اقناع اكثرية ملموسة من اللبنانيين بصواب العصيان المدني، ويحتاج، علاوة على ذلك، الى اقناع مثل هذه الاكثرية بالانضمام الطوعي المعلن وغير المشكوك فيه الى العصيان حتى تؤتي هذه الخطوة التصعيدية ثمارها. ما عدا ذلك، فإن اقصى ما يمكن للعصيان المدني تحقيقه هو ابقاء الوضع على حاله. هل يعني هذا الحال ان المعارضة فقدت البدائل والخيارات؟ هل يعني ذلك ان الموالاة سجلت النصر الذي تحدثت عنه في بياناتها الاخيرة؟ كلا. انه يعني ان حالة اللاحرب واللاسلم قد تستمر زمنا طويلا. انه يعني ان حرب الاستنزاف الداخلية قد تبقى شهورا. ولكنه لا يعني ان المعارضة تفتقر الى البدائل والخيارات. هنا تأتي مسؤولية المقاومة، التي هي ركيزة المعارضة، فبإمكانها هي اكثر من اي طرف لبناني، ان تعيد ترتيب الاولويات، وان تضع الأهم قبل المهم. في مقدمة هذه الاولويات الحيلولة دون قيام اسرائيل بشن حرب جديدة وقريبة على لبنان يقال انها تعد لها. هذه الاولويات تقتضي الانكباب السريع على تحفيز وتنشيط التحرك السياسي اللبناني ضد العدوانية الاسرائيلية. هذا التحرك لا يستمد مسوغاته من كونه يساعد على تنفيس الاحتقان الداخلي او لانه يوفر غطاء لتراجع او تنازل أي طرف من اطراف الصراع الداخلي اللبناني. العكس هو صحيح. اي ان التخلي عن مثل هذا التحرك، والتهاون في الاضطلاع بمسؤولياته والنقص في ادراك اهميته وموجباته والخلل في تقدير اهميته ومعرفة مسالكه ودروبه ساهم بصورة رئيسية في ايصال اللبنانيين الى الوضع الراهن. كان من المستطاع تنشيط التحرك السياسي ضد العدوانية الاسرائيلية خلال وبعد حرب الصيف، ولكن الاطراف اللبنانية بدت وكأنها تخلت عن هذا الخيار، لكي تندفع الى ساحة الصراع الداخلي. صحيح ان الاغتيالات السياسية واعمال الارهاب فرضت نفسها على هذه الاطراف. ولكن الصحيح ايضا انه كان باستطاعة لبنان ان يولي تحركه ضد العدوانية الاسرائيلية الاهتمام الذي تستحقه جنبا الى جنب مع سعيه الى وضع حد لاعمال الارهاب والاغتيال التي مورست ضد قيادات سياسية وثقافية لبنانية. كان باستطاعة اللبنانيين، وكان باستطاعة المقاومة اللبنانية التحرك في هذا الاتجاه وسط اجواء دولية واقليمية ملائمة ومتعاطفة، في كثير من الاحيان، مع لبنان. كان ولا يزال بامكان اللبنانيين تحريك الاهتمام الدولي بالملفات الدولية التالية: 1. ارهاب الدولة وتقديم النهج الاسرائيلي في العدوان على لبنان كنموذج لهذ الارهاب. المسألة المحورية هنا هي الموقف تجاه المدنيين خلال المنازعات العسكرية، فهذا الموقف يشكل الخط الفاصل بين العمل العسكري والعمل الارهابي. انطلاقا من هذا المبدأ وجه فاعلون رسميون وغير رسميين انتقادات كثيرة الى اسرائيل. منظمة العفو الدولية وجهت، على سبيل المثال، الانتقاد الى فريقي القتال: اسرائيل و"حزب الله". الا ان المنظمة فرقت بين سلوك الاسرائيليين والمقاومة اللبنانية عندما اعتبرت ان الاذى الذي انزلته اسرائيل بالمدنيين اللبنانيين سياسة متعمدة وليس من قبيل الخطأ او النتائج التي فرضتها الضرورات الدفاعية او العمل العسكري البحت. ويمكن هنا للمرء ان يضيف ان السياسة التي اتبعها"حزب الله"خلال الحرب انسجمت مع تفاهم نيسان اذ كان يقصف المراكز المدنية الاسرائيلية كرد فعل على استهداف اسرائيل للمدنيين اللبنانيين فحسب. فضلا عن مثل هذه الانتقادات فان اوساطا دولية اضافت الى هذا الاتهام انتقادين آخرين من شأنهما ترسيخ الصفة الارهابية للدولة الاسرائيلية: الانتقاد الاول تجلى في الادانات التي صدرت عن دول عدة وقيادات دولية مثل فرنسا وروسيا وهيئة الاممالمتحدة بحق اسرائيل لان حجم التدمير الذي مارسته ضد لبنان لم يكن يتناسب مع اختطاف"حزب الله"لجنديين اسرائيليين. حتى كوندوليزا رايس، وزيرة خارجية الولاياتالمتحدة، التي منحت اسرائيل تأييدا غير محدود وحرضتها على مواصلة الحرب لأطول فترة ممكنة، اضطرت الى توجيه انتقاد الى الزعماء الاسرائيليين طالبة منهم ممارسة ضبط النفس وتجنب توجيه الاذى الى المدنيين اللبنانيين. هذه الادانات حول اللاتناسبية ليست جديدة. لقد تكررت مرارا على السنة فاعلين دوليين ورداً على الاستراتيجية التي تتبعها اسرائيل تجاه لبنان منذ ان دمر الاسرائيليون طائرات شركة"طيران الشرق الاوسط"اللبنانية عام 1968. ولكن لبنان لم يحسن الاستفادة من هذه الادانات في الماضي، ولا احسن لبنان، حكومة ومقاومة، الاستفادة منها خلال حرب الصيف. هذا الاخفاق سمح ويسمح لاسرائيل بإنزال الاضرار الفادحة بالمدنيين اللبنانيين بصورة مباشرة وغير مباشرة، وباستخدام وسائل الارهاب من دون ان تحسب حسابا لردود الفعل العالمية. الانتقاد الثاني، تجلى في الادانة الواسعة في العالم لاستخدام اسرائيل بعض انواع الاسلحة التي تزيد من اخطار الحرب على المدنيين مثل القنابل العنقودية. هذه الاسلحة ليست محرمة دوليا، ولكن هناك مؤسسات دولية كثيرة مثل الصليب الاحمر الدولي تطالب بتحريمها بسبب حجم الاذى الذي تلحقه بالمدنيين. فضلاً عن هذه المؤسسات، فقد اشترطت الولاياتالمتحدة نفسها على اسرائيل عندما باعتها هذه القنابل ان تتعهد خطيا بتجنب استخدامها الا في حالات محددة. الادارة الاميركية هي نفسها لمحت الى احتمال مخالفة اسرائيل لهذه الشروط. حتى ولو التزمت اسرائيل بالشروط الاميركية، فان هيئة الاممالمتحدة اعتبرت ان اسقاط ما يوازي ربع مليون قنبلة عنقودية على جنوبلبنان هو عمل"غير اخلاقي". الاسرائيليون ومؤيدوهم في المجتمع الدولي يردون بقولهم ان هذه الانتقادات تهدف الى حرمان اسرائيل من استخدام الميزات الاستراتيجية المتوفرة لها ضد اعدائها. ولكن هذا المنطق الاسرائيلي لا يقنع الا المؤيدين المتحمسين لاسرائيل، بينما قال احد المعلقين البريطانيين البارزين في مناقشته لمنطق الاسرائيليين ان الحكومات البريطانية التي كانت تسعى الى قمع المنظمات الايرلندية المسلحة لم تقم بتدمير احياء في بلفاست او دبلن او بزرع الموت في مناطق كاملة من ايرلندا رداً على قيام المسلحين الايرلنديين بأعمال عسكرية هنا وهناك ضد اهداف بريطانية، كما فعلت اسرائيل في لبنان وكما تفعل في فلسطين. الانتقادات الموجهة الى اسرائيل على الصعيد العالمي توفر للبنانيين مناخا ملائما للتحرك ضد العدوانية الاسرائيلية. وحتى يكتسب التحرك دقة في الهدف وتركيزا في المقصد فانه من الضروري ان يهدف الى مطالبة اسرائيل بدفع التعويضات الى لبنان عن كل ضرر تكبده من جراء اتباع اسرائيل سياسة اللاتناسب والتدمير المنهجي لبنيانه التحتي والتدمير والقتل العشوائي لسكانه ومواطنيه. الجدية في المطالبة بالتعويضات سوف تشكل عاملا يضغط على صاحب القرار الاسرائيلي عندما يخطط للسياسة الاسرائيلية تجاه لبنان. الخطوة الاولى على هذا الطريق هي حصر الاضرار التي تسبب بها العدوان الاسرائيلي خلال الحرب الاخيرة. هذه الخطوة تنفذها الآن اربع جهات معنية بهذا الامر: لجنة تشكلت بمبادرة حكومية تضم عددا من اصحاب الاختصاص، هيئة برلمانية ببادرة من النائب غسان مخيبر، المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق ذو الصلة بالمقاومة اللبنانية والذي اصدر أخيرا تقريرا موسعا تناول"المسح الميداني الشامل للاضرار الاقتصادية المباشرة للعدوان الاسرائيلي"، وعدد من المنظمات الاهلية، مثل جمعية"سجل الحرب"التي اسسها أخيرا فريق من اللبنانيين المعنيين بتوفير المعلومات عن الاضرار التي لحقت بلبنان من جراء الحرب. التنسيق بين هذه المبادرات لا يعزز حملة المطالبة بالتعويضات من اسرائيل ولا ينشط التحرك السياسي ضد العدوانية الاسرائيلية فحسب، وانما يساهم في برمجة اولويات الحراك السياسي اللبناني. اذا سحبت المعارضة بعض زخمها من ميدان الصراع المحلي وألقته في انجاح مساعي التنسيق بين هذه المبادرات، والى تحويلها الى حملة لبنانية تتحرك على الصعيدين الاقليمي والدولي من اجل محاصرة العدوانية الاسرائيلية وتجريدها من مخططاتها وأدواتها، لوفرت الاطار والاجواء المناسبة للانتقال من حال اللاحرب واللاسلم في لبنان الى حال التنافس الديموقراطي الصحي الذي يحتاجه لبنان. * كاتب لبناني