بدا الكوكب الأرضي وكأنه نسي همومه للحظة، أو تجاهلها، في ظل الكسوف الكلي للشمس الذي شمل أربع قارات، وهو الأول في القرن ال21. والحال ان هذه القارات الأكثر اكتظاظاً بالسكان، ما جعل مشهد الكسوف"فرجة"كبرى و"فرحة"اكبر. بدأت الرحلة في البرازيل، ثم"سافرت"بسرعة تفوق ألفي كلم في الساعة، فوق نصف محيط الأرض. وعَبَرَ الظلّ القمري الداكن، الذي حوّل النهار مغيباً في كل مكان قطعه، المحيط الأطلسي ثم فوق شمال أفريقيا عابراً بلدانه العربية. وشوهد كأوضح ما يكون في منطقة صحراء السلوم، عند الحدود المصرية - الليبية. وسبح في مياه شرق البحر المتوسط ملامساً مجموعة من الجزر اليونانية، ثم تركيا، ومنها الى دول آسيا الوسطى ثم الى غرب الصين. وغادر الأرض من منغوليا، التي تمتد بين روسياوالصين. ودامت رحلة الكسوف، بعد عبور 145000 كلم ثلاث ساعات و12 دقيقة في آسيا الوسطى. والكسوف شهد في البرازيل، تظاهرات الاطفال خرجت لتطالب، عبر رقص السامبا وتلوين الوجوه، بحماية بيئة الارض والحفاظ على تنوّع الأجناس الحيّة فيها. وحمل مسار عبوره الظل القمري للكسوف الكامل من التناقضات ما يفوق التنوع الصاخب لكرنفالات الريو. ومزجت ردود الفعل على مروره السريع، لأن الكسوف الكامل لا يستمر أكثر من أربع دقائق في أي نقطة يُشاهد فيها، بين الخوف الموروث من غياب الشمس في وضح النهار، وبين التحكّم في المشاعر والتعامل بواقعية وعقلانية مع هذه الظاهرة الفلكية العادية التي تتكرر على الأقل مرتين سنوياً. وأصاب الهلع السكان في كادونا شمال نيجيريا، وتعالت هتافات التكبير. واعتبر بعض المتشددين الاسلاميين الكسوف عقاباً الهياً على آثام البشر. ونظر المسلمون في غانا الى الظاهرة عينها في شكل مختلف. وأبدوا إعجابهم بعظمة الخالق، عندما أُضيئت أنوار الشوارع لتنير الليل الذي هبط في رابعة النهار. وتلقت الدول العربية الكسوف بمشاعر متمازجة، خصوصاً ان أكثرها استفاد من تجربة العام 1999 حين ثار ذعر غير مُبرّر، وانطلقت بعض الألسنة لتُهيّج المشاعر، وتحذر الناس من مجرد الخروج من المنازل والسير تحت شمس الكسوف. وشوهد الناس في الجزائر مثلاً، التي أقفرت شوارعها العام 1999، يراقبون الكسوف مستخدمين النظارات أو أدوات أُخرى من صُنع محلي. واستعملت النسوة في الأردن صور أشعة اكس البلاستيكية القاتمة، ووضعنها على أعينهن ليلاحظن الشمس التي وهن نورها، فيما عاشت عمان ما يُشبه حال الطوارئ يوم الكسوف الماضي في 10 آب اغسطس العام 1999. واقتنص المارة في شوارع العاصمة العراقية فسحة وقت من السيارات المُفخخة والخطف والقصف والكمائن والمذابح، ليراقبوا الكسوف بما توافر لهم من أشياء، من الأفلام القديمة للكاميرات التقليدية الى الافلام الموجودة في الاقراص المرنة وحتى الاسطوانات المدمجة. ولم تعطل في دمشق سوى بعض رياض الاطفال، ربما خوفاً على صغار السنّ من المغامرة بالتطلع الى الشمس التي فقدت قوتها. واستغلت مدارس الفرانكوفونية في مصر الكسوف، فنظّمت رحلات علمية الى صحراء السلوم، حيث شوهد الكسوف الكليّ بوضوح أكثر من أي منطقة أُخرى من العالم. وتلاقت الوفود الطالبية والسياحية، في القسم المصري من صحراء السلوم، مع الحضور الشخصي، الذي لم يكن متوقعاً تماماً، للرئيس حسني مبارك، مع عائلته. وفي بيروت، سادت مشاعر متمازجة، توزعت بين الخوف الذي أحدثه قرار وزارة التربية تعطيل المدارس والجامعات، وبين الرصد العلمي المُتلفز للكسوف من على سطح مبنى"فيرجين". فيما تابعت الشوارع حركتها بصورة شبه عادية. وشوهدت فتيات في قلب المدينة يلبسن نظارات الكسوف ويراقبن الشمس بحبور. وحضرت الى ليبيا وفود سياحية خصوصاً من الولاياتالمتحدة وأوروبا، ما اعتبر أمراً غير مألوف في الجماهيرية التي ما زالت تتبع نظاماً اشتراكياً بعيداً عن الانفتاح على الاسواق العالمية ومعطياتها المتشابكة. وفي صحراء السلّوم، وتحديداً منطقة"واو الناموس"بلغ الكسوف ذروته، واستمر لمدة 4 دقائق و7 ثوان. وركزّ تسعون عالماً من"وكالة الفضاء والطيران الاميركية"ناسا تلسكوباتهم لرصد تاج الكسوف، الذي يُعطي معلومات مباشرة عن الفرن الشمسي وطاقته. وبلغ من وضوح الكسوف ان كوكبي عطارد والزهرة ظهرا في عزّ النهار، وشوهدا بالعين المُجردة! وعلّق بعضهم آمالاً خاصة على حضور الوفود الاميركية. ولم يخل المشهد من تعليقات رأت في وفد علماء"ناسا"جزءاً من"ديبلوماسية الكسوف"، على غرار ما قيل عن"ديبلوماسية البينغ بونغ"التي أذابت جليد العلاقات الاميركية - الصينية، في سبعينات القرن الماضي، بواسطة لاعبي كرة الطاولة!