تنظر غالبية الأردنيين الى العراقيين في عمان، على أنهم زوار مألوفون يتمتعون بإقامة طويلة، لكنها تظل مهما امتدت إقامة موقتة، وهو ما يفسر عدم شيوع تعبير مثل"الجالية العراقية"أو هجرة عراقية الى الأردن، وكذلك ضآلة أعداد من حازوا على الجنسية الأردنية من هؤلاء وهم لا يتجاوزون بضع مئات في أبعد الحالات، وقد حازوا عليها بصفتهم مستثمرين كباراً، وكما هو معمول به في الكثير من دول العالم التي تجتذب الاستثمارات والمستثمرين اليها. ومرد هذا الانطباع الإدراك العام بأن العراق بلد شاسع المساحة وكبير الموارد، وأن انتقال أعداد من أبناء هذا البلد الكبير الى البلد الصغير يظل حالاً موقتة لا يعول عليها، فضلاً عن ضآلة فرص العمل في بلد يشكو الشح في موارده الطبيعية، ومن ارتفاع نسبة البطالة بين شبانه 14 في المئة من مجموع القادرين على العمل. مع ذلك هناك مظاهر لاستقرار عراقيين في الاردن، مثل إقبال هؤلاء على الاقتراع الكثيف في الانتخابات العراقية من داخل الأردن، وظهور قدر كبير من الاعلانات في الصحف اليومية للانتخابات التي أجريت في العام الماضي، كما ازدانت شوارع في العاصمة عمان وخصوصاً المنطقة الغربية فيها، بلافتات المرشحين العراقيين من مختلف الأحجام والألوان. وهناك الظهور المتكرر لسياسيين ومثقفين عراقيين على الفضائيات العربية، وهم يتحدثون عبر الأقمار الاصطناعية من عمان، وافتتاح أعداد كبيرة من مطاعم الحلويات المن والسلوى ومطاعم الكباب والسمك والمقاهي، وصالات عرض اللوحات الفنية، الى جانب مظاهر البؤس لبائعات عراقيات متشحات بالعباءات السود، وعاملين وعاملات في الفنادق والنوادي، وكذلك الأعداد الكبيرة من السيارات الخاصة، والحضور البشري الملحوظ في أماكن ومجمعات التسوق. وكما هي حال نسبة كبيرة من العراقيين الذين لا يعرفون الى متى تمتد إقامتهم في الاردن، يدرك الاردنيون أن الوضع السياسي والاقتصادي في بلاد الرافدين غير قابل للاستشراف. وهو ما يجعل النظرة العامة الى العراقيين تتسم بالتعاطف والقبول، وأقله تفهم حالهم. وهو ما تعكسه الصحافة المحلية في المجمل، حتى حين تقع حوادث أمنية خطيرة يكون عراقيون طرفاً فيها، وغالبية هؤلاء من غير المقيمين أي ممن عبروا أو تسللوا لاقتراف تلك التعديات، وكان أخطرها تفجيرات الفنادق قبل حوالى سنة تشرين الثاني/ نوفمبر 2005. وفي تاريخ تدفق مهاجرين عراقيين الى الأردن، فإن أولى الموجات وصلت قبل العام 1990 وتتألف من مستثمرين وتجار كبار، ولم يكن وجود هؤلاء ملموساً إلا في أوساط المستثمرين وفي الفنادق والمطاعم الفخمة. وكانت أعدادهم أقل من عدد الزائرين بقصد السياحة أو الاستشفاء. فيما أدت حرب الخليج الأولى بعد اجتياح النظام السابق للكويت الى موجة نزوح كثيفة. ولم يكن ممكناً حصر أعداد هؤلاء، إذ ان نسبة كبيرة منهم لجأت الى الأردن كمحطة انتقالية، نحو دول خليجية وبصورة أكبر باتجاه دول غربية، وذلك بالإفادة من إجراءات اللجوء السياسي والانساني. بينما عادت نسبة أخرى ليست ضئيلة الى موطنها، بعدما تبين لأفرادها أن فرص التماس الرزق شديدة الصعوبة حيث وفدوا، خصوصاً أن تدفق هؤلاء حينذاك، اقترن مع عودة أكثرية الأردنيين من أصل فلسطيني من الكويت وكذلك من دول خليجية أخرى حوالى 350 ألفاً. أما الموجة الثالثة فقد وفدت بعد الحرب الأميركية على العراق والنظام السابق في 9 آذار مارس 2003، وما أعقب ذلك من تدهور الوضع الأمني والمعيشي لغالبية العراقيين، وبعض هؤلاء سبق لهم المجيء الى الأردن في عقد التسعينات وعادوا الى بلدهم، ليجدوا أنفسهم مدفوعين مرة أخرى للسفر الى البلد العربي الأقرب: الأردن وهو البلد الوحيد غير الخليجي، الذي يفتح أمامهم فرص العمل بضوابط معينة كحال مصريين وسوريين كثر. ولا يعني ذلك أن الشكوى معدومة، خصوصاً لدى شرائح من الطبقة الوسطى الأردنية التي ترى أوساط منها أن الارتفاع الهائل في أسعار الشقق والأراضي، والتي تضاعفت بالفعل منذ أواخر العام الماضي، إنما يعود لإقبال عراقيين موسرين على الشراء وبأسعار تزيد أحياناً على ما هو معروض ومطلوب! على أن موجة الشراء كانت قائمة قبل ذلك التاريخ وبالأسعار السابقة، والجديد في الأمر هو زيادة الطلب وقلة المعروض وبالذات في مناطق غرب عمان، وارتفاع أسعار الحديد والاسمنت ومواد إنشائية أخرى وزيادة أجور اليد العاملة، وهو ما لا ذنب للعراقيين فيه! ويترافق ذلك مع السماح لعراقيين بتملك أكثر من بيت واحد للسكن، ما أدى الى نشوء ظاهرة الاتجار بالشقق بين العراقيين أنفسهم، أو تأجيرها كشقق مفروشة لمواطنيهم. تشير مصادر دائرة الأراضي والمساحة الى أن مساحة الأراضي المباعة لغير الأردنيين خلال الأشهر التسعة من العام الجاري، بلغت حوالى 3620 دونماً، وقد تصدرت الجنسية العراقية المرتبة الاولى من حيث التداول، وبمجموع 999 معاملة من جملة 1610 معاملات، بينما كانت حصة الجنسيتين الكويتية والسعودية معاً 222 مستثمراً. وكانت استثمارات الجنسية العراقية هي الأعلى من حيث القيمة بين جميع الجنسيات وبلغت 18.6 مليون دينار اكثر من 27 مليون دولار أميركي عن فترة تسعة أشهر فقط. وتصدر العراقيون قائمة المستثمرين في الشركات خلال الفترة ذاتها، بلغ مجموع استثماراتهم حوالى 106.5 مليون دينار توزعت بين 1246 مستثمراً وبما يزيد بحوالى تسعة ملايين دينار عن قيمة الاستثمارات الإماراتية للفترة نفسها. هذه الأرقام الاستثمارية تعكس الحضور المالي، لعراقيين كثر مع عائلاتهم وأقاربهم، واندراجهم بصورة شبه عضوية في دورة الحياة الاقتصادية، وهو ما يرشحهم خلال مستقبل غير بعيد للتحول الى جزء من المكونات الاجتماعية. ومع ذلك لا يعرف العراقيون في الأردن عددهم، فهم يقيمون في مناطق متباعدة وسط الأردنيين وقلة منهم خارج العاصمة، وذلك بسبب"سيولة"وضعهم، وتواتر حركة الدخول والخروج الى الأردن، ما يفتح أبواب التكهنات المتضاربة حول عددهم، وانعكاس ذلك على الوضع الاقتصادي والسياسي في البلاد. وفيما تتحدث مصادر كثيرة عن أن عدد العراقيين في الأردن هو حوالى 900 ألف نسمة فإن مصادر وزارة الداخلية الأردنية تتحدث عن رقم آخر لا يتعدى 250 ألف نسمة، من حملة الاقامات وسواهم أي من يقيمون بصورة مشروعة وغير مشروعة. وهو رقم يقل بحوالى ستين الفاً عن رقم تحدث به وزير الداخلية السابق سمير حباشنة ويعود للعامين الماضيين، ما يشير الى اتجاه تناقصي للعدد الإجمالي. وفي المحصلة فإنه لا يتم التصريح بصورة رسمية وحاسمة عن العدد. وبعيداً من الأعداد الرجراجة، والتي قد تصطبغ أحياناً باعتبارات سياسية، فإن وجود العراقيين بات يمثل ظاهرة سكانية تميل الى الثبات. فغالبية العراقيين في هذا البلد تقارن مظاهر الازدهار الاقتصادي والنمو العمراني وارتفاع مستوى الخدمات فيه، على رغم ضعف موارده الاقتصادية الأساسية، ببلدهم ذي الموارد الهائلة والمنكوب مع ذلك. وهو ما يحملهم على ابداء الاعجاب بالبلد، وأحياناً استغراب وجود قوانين للضرائب على الأراضي والمساكن والمبيعات وسواها، وهم لم يعهدوا مثل هذه القوانين في بلدهم. وتمتد الدهشة حيال الحجم الكبير للمدارس والمستشفيات والجامعات الخاصة والمصارف غير الأردنية والنمو الهائل لقطاع الخدمات، مما يفتقدونه في بلدهم. أما الأردنيون الذين كانوا يحملون صورة نمطية عن العراقيين، وكما هي الحال بين سائر الشعوب العربية، فقد بدأوا يكتشفون في وقت متأخر أن هناك الى جانب الثراء الشديد، فقراً مدقعاً، يعاني منه عراقيون كثر. كما اكتشفوا ظاهرة الطائفة الشيعية الكبيرة، فيما هم لم يألفوا تعددية طائفية تذكر في مجتمعهم. وقلما يلاحظون بين الشيعة من يدين بولاء للنظام السابق ورئيسه، وهناك من يربط بينهم وبين إيران"غير العربية"، ومن يميز شيعة"عروبيي الولاء"عمن هواهم"فارسي"، بينما يلاقي آخرون صعوبة في التمييز وملاحظة الفروق. وقد تردد أن طلبات بإقامة حسينية لم تلق بعد قبولاً رسمياً، خشية بروز مشكلة طائفية بين العراقيين في الأردن، وامتداد تأثير مرجعيات مختلفة على هؤلاء بما لذلك من أبعاد سياسية وأمنية، وبما ينعكس في المحصلة على المجتمع ككل. بينما السنّة العراقيون باتوا موزعي الانتماءات والولاءات ولا يشكلون أكثرية. وعليه لم تعد هناك صورة متجانسة وثابتة للعراقيين في الوعي الأردني كما من قبل، باعتبارهم"مزيجاً من أهل الريف والبادية مع تطعيمات مدنية ومع ولاءات قومية عربية صافية"لا محل للتركيب او الشقوق فيها، فهناك دائماً مجال للمفاجآت في الصورة الجديدة للعراقيين! ويكفي ظهور حالات من تجاوزات، كاكتشاف أعداد من حملة جوازات سفر مزورة على الحدود، وما نشر أخيراً عن لجوء بضعة أفراد عراقيين مع جنسيات أخرى، الى تقديم بيانات وهمية لوزارة الصناعة والتجارة حول أرصدتهم المصرفية لتمكينهم من الحصول على الجنسية، كي يبرز القلق. علماً أن نسبة الاحتكاكات بين عراقيين وأردنيين ضئيلة للغاية ولا تثير القلق، وذلك في ضوء انصراف العراقيين لتكوين مجتمع خاص بهم، يتواصلون فيه مع بعضهم بعضاً، في التجاور والتزاور وبناء مصالح عمل مشتركة في ما بينهم في الأردن وخارجه. ولا يعود ذلك الى انقطاع الوصال بينهم وبين الأردنيين، بل لأن الأردنيين أنفسهم في المناطق الحديثة والمتوسطة المستوى، انخفض مستوى التواصل الاجتماعي بينهم بصورة ملحوظة خلال العقدين الأخيرين، في ظل التحولات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة وارتفاع أعباء المعيشة. وفي هذا السياق فإن حالات المصاهرة بين أردنيين وعراقيين تعتبر ضئيلة ولا تمثل ظاهرة ملحوظة، في بلد ما زال يتسم بالمحافظة وحيث التزاوج يقوم ضمن دوائر اجتماعية ضيقة. وعليه فإن التجسير بين نمطين محافظين يظل أمراً متعذراً. فالفئات المحافظة تعتصم بتقليديتها ليس إزاء الفئات المتحررة والحديثة فحسب، بل كذلك حيال فئات محافظة أخرى.