هذه ليست بشرى وليست نذيراً ايضاً؟ وليست حتى توقعاً من متفرج سرقته برامج الأخبار السياسية من مخالب الدراما التلفزيونية. هي قراءة متواضعة في كف الواقع، قراءة من مشاهد، من رعايا بلاد قوانين الطوارئ الدائمة؟ كما ان هذا"الترهيص"ليس تأبيناً للدراما، الدراما مستمرة ما استمرت الحياة، واقعية أو تلفزيونية أو ادبية وسينمائية... في الجنة تنتهي، قبر الدراما سيكون على الأرض، أو الأرض كلها ستكون مثواها. في اليوتوبيا لا حياة للدراما. فعندما تنال ما تحلم به يختفي الصراع. في اليوتوبيا لا ألم، لا فعل، فقط لذة مستمرة. الوقائع تقول عكس هذه"النبوءة"... فأكثر من ثمانين قناة عربية جائعة لملء معدتها الكبيرة التي تتسع أربعاً وعشرين ساعة بساعات درامية تحاكي الواقع أو التاريخ تكثيفاً وترميزاً وتنميطاً. اهمية الدراما التلفزيونية انها تعرض مشكلات أو امراض المجتمع والفلسفة والروايات والقصص عبر حكاية مصورة، سهلة الهضم. قبل سنوات كانت التلفزيونات العربية تعرض المسلسل وفي اشهر ثلاثة، بالتقسيط الوعر، كل أسبوع حلقة، دراما بالقطارة. فالحياة هادئة، والساعة رملية، والرمل سميك، ولا ينزل من قمع الساعة، الحياة رتيبة ويجب توتيرها بحكايات مفترضة، متخيلة، بديلة من الواقع، أو حالمة به. انتقل التلفزيون بعدها، بعد تكاثف الحياة وتسارعها، إلى عرض المسلسل يومياً، بعد تمديده من الرقم 13 إلى الرقم ثلاثين. واعتقد أن المواطن بضيقه وبرمه ونهمه إلى معرفة النهاية لم يعد يتحمل سوى مسلسل من حلقة واحدة، لم يعد يتحمل سوى الفيلم. حتى الفيلم في هذه"المرحلة الحرجة من تاريخ امتنا"يأتي بعد الأخبار في الأهمية. الأخبار تعرض أفلامها، افلامنا، الحية؟ حتى الفيلم لن يكون، بعد الآن، مهضوماً إلا إذا كان يضم كل مواصفات الفيلم الناجح، السبب أن الحياة تعرض دراماها على الهواء مباشرة: اميركا، الحكومات العربية، السلطات، سجناء رأي، سجناء ابرياء بلا رأي أيضاً، طغاة يبتلعون من طغاة اكبر، شعوب تخرج من الزنزانة الكبيرة التي اسمها الأوطان، التلفزيونات المستقلة و"المحتلة"، تعرض أفلامها، على شاشة أقمار، تصير بدراً من دون المرور بمراحل نمو القمر: محاق فهلال فبدر، الكون المفتوح شاشة تعرض نجوم الأرض فقط، أما نجوم السماء فلم نعد ننتبه اليها الا بعبور الطائرات أو سقوط القنابل. من سيتابع المسلسلات بعد اليوم؟ أي مغامر، أي فدائي سيفعل، مهما بلغت براعة مؤلفيها وحيلهم، لم سيفعل وفيلم لغز قتل الحريري لا يزال مفتوحاً على بؤر درامية كبيرة سيكون لها تداعيات كبيرة، فيلم موت البابا، فيلم تحرير العراق الذي يريد له آخرون اسم فيلم احتلال العراق. السوريون يحبسون أنفاسهم لأول حركة درامية سياسية حقيقية بعد سكون دام عقوداً ثلاثة. وفيلم صعود كردي يتيم بالمعنى السياسي إلى أبوة شعب العراق، فيلم الكرد يصعدون إلى السماء بسلالم أميركية، لكن، أنا لا اتهم ولا اخوّن، فسلالم العروش"هنا الآن"كلها أميركية، حتى السلالم الروسية السوفياتية التي سقطت في روما وتشيكوسلوفاكيا فيها مسامير أميركية، صدام وجد تحت الأرض، كان نزل إليها بلا سلم، زحفاً مثل دودة الأرض، مثل شعبه الذي عاش تحت الأرض ثلاثين عاماً، كما رأينا في المشهد الأخير، من فيلمه المشرف على الختام، صدام جبان؟ صدام ليس شجاعاً مثل اسمه؟ متى كان الاسم يطابق الرسم؟ كان اعتقاله فيلماً مخرجاً في البنتاغون. وسيكون الفيلم أقوى من الحقيقة. فبعض الحكايات الأخبارية اجمل من واقعيتها الحقيقية أو التي اقتبست منها. واحد من الضحايا من سيترك مشاهدة أخبار السياسة التي هو واحد من ضحاياها، من كومبارسها، ليتابع مسلسلاً تلفزيونياً من ثلاثين حلقة؟ الثور الذي يحمل الأرض على قرنيه يتحرك. شكراً لأميركا التي تريد قتل الثور. أو تضع نشادر في مؤخرته. اميركا هي الثور؟ عصر القناة الواحدة، كان عصر الحجاب الفكري والسياسي، عصر المبدع المضطر الى افتراض حياة كي يتذكر أو ينسى، القناة الواحدة تعني زعيماً واحد. قنوات كثيرة، زعماء جدد. هكذا يفترض. نحن في انتظار نهاية بعض الحلقات الأخيرة في الديكتاتوريات، نحن نعود إلى الدراما - الحياة بعد أن جعلنا نتوهم اننا نعيش في يوتوبيات اشتراكية يقودها القائد الفذ، والقائد المفدى بالروح والدم، والذي سيظللنا بظله حتى في الفردوس الاعلى؟ لم نتفرج على سهرات ومسلسلات وبرامج العصابات الاندونيسية مشحونة بجرعة درامية، البرامج المصورة التسجيلية، برامج عالم الحيوان كلها مؤفلمة"مدرمة"مخرجة، حتى الحيوانات تبدو وكأنها تنفذ"الاوردر". ولا تخلو من الاثارة والتشويق والخاتمة المفتوحة غالباً. الدراما في كل شيء حتى برامج"التوك شو"، التي تعرض صراعاً بلكمات من الكلمات. أفلام الأخبار لها أبطالها ومجرموها ومهرجوها. أي كاميرا خفية تستطيع إضحاك المشاهد اكثر من اكبر نجم كوميدي. السياسة النائمة، المنومة، تستيقظ من سباتها الطويل وتهزم الدراما التلفزيونية. أما عرض المسلسلات فقد يكون لربات البيوت أو محاولة لوضع العصي في عجلات وعي المشاهد العربي. ربما بعد استعادة التوازن وعودة السياسة إلى الحياة، عودتنا إلى الحياة، خروجنا من كهوف الاستبداد نعود الى الدراما التلفزيونية، ربما نعود بعد أن نرى الضوء، لنعرف الفارق بين النور والظلام، الخير والشر؟ اختصاراً: العطش للمعرفة الصافية المباشرة. إنها الدراما على الهواء مباشرة"ايها الغبي"؟