وزارة الرياضة تحقق نسبة 100% في بطاقة الأداء لكفاءة الطاقة لعامي 2023 -2024    الصين تؤكد تفاصيل الاتفاق التجاري مع الولايات المتحدة    الهلال يضرب موعدا مع السيتي في مونديال الأندية    انزاغي: أهداف الهلال كبيرة في مونديال الأندية    الهلال يتأهل إلى دور ال 16 في مونديال الاندية    طقس حار الى شديد الحرارة على معظم مناطق المملكة    ماكرون: "السيناريو الأسوأ" يتمثل بخروج إيران من معاهدة حظر الانتشار النووي    رئاسة الشؤون الدينية تُطلق خطة موسم العمرة لعام 1447ه    دول أوروبية بلا حدود داخلية    استمتع بالطبيعة.. وتقيد بالشروط    ترمب يصعّد معركته ضد باول.. حرب الفائدة تربك الأسواق الأميركية    الأمونيا الصديقة للبيئة ووقود الطيران المستدام يسرعان معدلات النمو للصناعات النظيفة    كرة القدم الحديثة.. عقل بلا قلب    القادسية.. موسم ذهبي وأرقام قياسية في موسم مثالي    أخلاقيات متجذرة    القبض على وافدين اعتديا على امرأة في الرياض    د. علي الدّفاع.. عبقري الرياضيات    في إلهامات الرؤية الوطنية    ثورة أدب    الأسيرة الفلسطينية.. حكاية الألم    اختتام فعاليات المؤتمر العلمي الثاني لجمعية التوعية بأضرار المخدرات    رسميًا.. رونالدو مستمر مع النصر حتى 2027    البدء بتطبيق"التأمينات الاجتماعية" على الرياضيين السعوديين ابتداءً من الشهر المقبل    نجران ترسم مستقبلها الإستثماري بنجاح مبهر في منتدى 2025    أمير جازان يستقبل رئيس محكمة الاستئناف بالمنطقة    القبض على (31) إثيوبياً في عسير لتهريبهم (465) كجم "قات"    أمير الشرقية يُكرِّم "مجموعة مستشفيات المانع" لرعايتها الطبية منتدى الصناعة السعودي 2025    موعد الظهور الأول لكيليان مبابي في مونديال الأندية    شبكة القطيف الصحية تطلق مبادرة "توازن وعطاء" لتعزيز الصحة النفسية في بيئة العمل    الأمير تركي الفيصل : عام جديد    تدخل طبي عاجل ينقذ حياة سبعيني بمستشفى الرس العام    مفوض الإفتاء بمنطقة جازان يشارك في افتتاح المؤتمر العلمي الثاني    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي، ويناقش تحسين الخدمات والمشاريع التنموية    ترامب يحث الكونغرس على "قتل" إذاعة (صوت أمريكا)    لوحات تستلهم جمال الطبيعة الصينية لفنان صيني بمعرض بالرياض واميرات سعوديات يثنين    الخط العربي بأسلوب الثلث يزدان على كسوة الكعبة المشرفة    مجلس الشورى" يطالب "السعودية" بخفض تذاكر كبار السن والجنود المرابطين    تحسن أسعار النفط والذهب    في ربع نهائي الكأس الذهبية.. الأخضر يواصل تحضيراته لمواجهة نظيره المكسيكي    عسير.. وجهة سياحة أولى للسعوديين والمقيمين    وزير الداخلية يعزي الشريف في وفاة والدته    حامد مطاوع..رئيس تحرير الندوة في عصرها الذهبي..    تخريج أول دفعة من "برنامج التصحيح اللغوي"    الخارجية الإيرانية: منشآتنا النووية تعرضت لأضرار جسيمة    تصاعد المعارك بين الجيش و«الدعم».. السودان.. مناطق إستراتيجية تتحول لبؤر اشتباك    غروسي: عودة المفتشين لمنشآت إيران النووية ضرورية    أسرة الزواوي تستقبل التعازي في فقيدتهم مريم    الجوازات: جاهزية تامة لاستقبال المعتمرين    بحضور مسؤولين وقناصل.. آل عيد وآل الشاعر يحتفلون بعقد قران سلمان    استشاري: المورينجا لا تعالج الضغط ولا الكوليسترول    "التخصصات الصحية": إعلان نتائج برامج البورد السعودي    مرور العام    أمير تبوك يستقبل مدير فرع وزارة الصحة بالمنطقة والمدير التنفيذي لهيئة الصحة العامة بالقطاع الشمالي    نائب أمير منطقة مكة يستقبل القنصل البريطاني    من أعلام جازان.. الشيخ الدكتور علي بن محمد عطيف    أقوى كاميرا تكتشف الكون    الهيئة الملكية تطلق حملة "مكة إرث حي" لإبراز القيمة الحضارية والتاريخية للعاصمة المقدسة    الرواشين.. ملامح من الإرث المدني وفن العمارة السعودية الأصيلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النظام السياسي الفلسطيني الى أيدي"الحرس الجديد"بعد تلاشي "الشرعية التاريخية"
نشر في الحياة يوم 15 - 04 - 2005

كان الانتقال من النظام السياسي الفلسطيني الذي شكلته منظمة التحرير الى النظام السياسي المبني على الأرض الفلسطينية عبر صيغة اتفاقات أوسلو في جانب من جوانبه، محاولة للخروج من المأزق الذي كان يعاني منه النظام السياسي المفتقد الى الاقليم الجغرافي الذي يعود اليه. وكانت العودة الى الأراضي الفلسطينية حلاً في شكل أو في آخر لمشكلة الاقليم، ولو كان ذلك على حساب تشظي المشروع الوطني الفلسطيني. لكن هذا الحل لم يجب عن الأسئلة الفلسطينية التاريخية، وأدخل النظام السياسي الجديد والقديم في مشكلات جديدة غير قابلة للحل. ففي وقت تم الانتقال الى الاقليم الفلسطيني، فقد النظام السياسي المبني على قاعدة"الوطن المعنوي"الذي شكلته منظمة التحرير معانيه التي ترسخت عبر التجربة الفلسطينية، من دون أن تنتقل هذه المعاني الى الوطن الجغرافي المجزأ الذي ظهر بفعل اتفاقات أوسلو. وما زاد من تعقيد المشكلات وصول خيار المفاوضات مع اسرائيل الى طريق مسدود وانفجار الانتفاضة، هذا التعقيد الذي ظهر وفي شكل ملموس من خلال الأداء السياسي الفلسطيني.
طرحت اتفاقات أوسلو بصفتها تحولاً عميقاً ونوعياً في التجربة الفلسطينية سؤالاً عن مستقبل النظام السياسي الفلسطيني ومستقبل المشروع الوطني الفلسطيني وآفاقه، وأكدت الانتفاضة الفلسطينية والقيود التي ظهرت على حركة القيادة الفلسطينية هذا السؤال، وجاءت وفاة الرئيس ياسر عرفات لتجعل سؤال النظام السياسي الفلسطيني وسؤال المشروع الوطني، أسئلة ملحة.
شكل غياب عرفات متغيراً كبيراً في الساحة الفلسطينية، اذ لم يكن الرئيس الراحل شخصاً مركزياً في النظام السياسي الفلسطيني والقائد الفلسطيني الأول فحسب، بل الرجل الذي طبع النظام السياسي الفلسطيني الحديث بطابعه الشخصي الى حد كبير أيضاً، كما طبع الكثير من التحولات الحاسمة في التجربة الفلسطينية المعاصرة بطابعه الشخصي. بنى عرفات النظام السياسي الفلسطيني على مقاسه، وساعده في ذلك بقاؤه على رأس القيادة الفلسطينية طوال أربعة عقود، اضافة الى المكانة الرمزية التي حققها خلال هذه الفترة الطويلة من وقوفه على رأس النضال الفلسطيني. وبحكم الوزن الاستثنائي للرجل في التجربة الفلسطينية، على رغم كل الملاحظات والانتقادات التي كانت توجه اليه، فإن النظام السياسي بعد عرفات سيكون مختلفاً عنه في زمنه. لقد شكل عرفات حجر الزاوية في النظام السياسي الفلسطيني الذي بناه، وجاءت هذه المكانة والقوة في الأساس في جمعه الصلاحيات الكثيرة وتركيزها بيده، من القرارات التاريخية حتى تعيين الموظفين الصغار في المنظمة ولاحقاً في السلطة. وكان اجماع القوى الفلسطينية عليه واحداً من مصادر القوة التي تمتع بها الرجل. كما كان عرفات نفسه بوزنه الاستثنائي في الساحة الفلسطينية واحداً من عوامل انسداد النظام السياسي أمام التغيير خلال عهده. فقد اختلفت القوى الرئيسية في الساحة الفلسطينية معه لكنها عملياً لم تختلف عليه، ولذلك ظهر دائماً بصفته رجلاً بلا بديل، وكان السؤال الأساسي الذي طُرح بعد غيابه: هل في وسع الساحة الفلسطينية ان تنجب قيادة وطنية جديدة تملأ الفراغ الذي تركه؟
ولأن الرئيس عرفات بدا طيلة السنوات الماضية حاجزاً لأي تطور على الساحة السياسية الفلسطينية وبأي اتجاه كان، فإن غيابه فتح الباب واسعاً أمام تكهنات متطرفة، في ظل سيولة لم يشهدها الوضع الفلسطيني من قبل. من هذه التكهنات، ان غيابه يفتح الباب واسعاً أمام اعادة بناء هذه المؤسسات وتعزيزها على نطاق واسع، مما يرسم صورة مختلفة وجديدة للفلسطينيين، وكأن عرفات هو الذي كان يحتجز هذه الصورة الوردية وراء صورة الفوضى التي سببتها اسرائيل! ومن هذه التكهنات المتطرفة أيضاً، ان محمود عباس أبو مازن هو تعبير عن اتجاه محدد داخل الساحة الفلسطينية يرذل الانتفاضة والعمل المسلح ويعمل على دفنهما، وهو اتجاه سيقدم كل التنازلات الممكنة لاسرائيل، لأنه مرشح الخارج الدولي أكثر مما هو مرشح الداخل الفلسطيني. فالرجل لم يكن يوماً شخصاً فاعلاً داخل تنظيم حركة"فتح"، وطالما"ترفع"عن العمل الميداني داخل التنظيم، ما يعني انه رجل لمهمة واحدة، وهي تنفيذ السياسات الأميركية والاسرائيلية في الساحة الفلسطينية، وهذه التكهنات عززها التحرك السريع لأبي مازن لتنفيذ برنامجه بوقف"عسكرة الانتفاضة"بعد انتخابه مباشرة تنفيذاً لبرنامجه الذي أعلنه أثناء الحملة الانتخابية، تمهيداً للعودة الى طاولة المفاوضات.
ولأن التكهنات المتطرفة تتسم دائماً بالتبسيطية، وتعزل ما تتكهن به عن وضعه الطبيعي وشروطه الموضوعية، فهي لا تصلح عادة للبلدان ذات الأوضاع المستقرة استقراراً عالياً، فكيف يكون وضعها في الوضع الفلسطيني المتداخل والمتشابك؟ فلا المؤسسات ستبنى على قدم وساق بعد غياب الرئيس الفلسطيني كما في الأحلام، ولا أبو مازن يستطيع ان يقطع الخطوات المطلوبة منه أميركياً واسرائيلياً، حتى لو أراد، ولا كثرة المرشحين الذين خاضوا انتخابات الرئاسة تعني ان عند الفلسطينيين مشروع دولة اسكندنافية قيد التحقق، ولا الانتخابات المراقبة من مراقبين دوليين تعني أن الديموقراطية الفلسطينية في أحسن حالاتها... وغيرها من التحليلات المغرقة في التفاؤل.
في المقابل، فإن غياب الرئيس الفلسطيني لا يعني غياب القضية القائمة بصرف النظر عمن يشغل منصب رئيس السلطة أو المناصب الأخرى، ولا يستطيع أي كان أن يصفي هذه القضية من دون الحصول على الحقوق الفلسطينية في حدها الأدنى. ولا يتوقف حل الصراع الفلسطيني ? الاسرائيلي على رغبة وارادة فلسطينيتين، ولا على توافق فلسطيني داخلي فقط، وان الديموقراطية الفلسطينية المطلوبة داخلياً وخارجياً، ولو كانت ديموقراطية على الطريقة السويدية غير كافية لحل الصراع، كما طالب الرئيس جورج بوش ان يصبح حال الفلسطينيين قبل استحقاقهم لوطنهم. فالحل مرتبط بقوس من المعطيات، وان كان يبدأ عند الفلسطينيين فهو لا يقف عندهم، بل عند اسرائيل، ويمر بالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول العربية، على أن يرى الحل في مساره الحقوق الفلسطينية.
نهدف مما سبق القول، الى ان ما جرى ويجرى في الأراضي الفلسطينية ليس قطيعة نهائية مع التاريخ السابق، بل هو في جوهره استمرار للأوضاع الموضوعية القائمة، وان كان غياب عرفات متغيراً كبيراً، يؤثر في الأوضاع لكنه لا يغير في سياقها العام في المنطقة. ولذلك، فإن الانتخابات الرئاسية الفلسطينية ليست نهاية المطاف، لا بالمعنى الايجابي، بمعنى انها ستفتح عهداً وردياً من المؤسسات والديموقراطية والشفافية، ولا بالمعنى السلبي، بمعنى انها ستفتح عهد التنازلات على مصراعيه. لكن هذا لا يمنع من اعتبار استحقاق الانتخابات مؤشراً من بين مجموعة من المؤشرات، فلا المؤسسات ستأتي دفعة واحدة، وتبنى بضربة ساحر، اذ انها في حاجة الى صيرورة طويلة ومعقدة، والى ثقافة سياسية مختلفة عن السائدة اليوم والى معالجة قائمة طويلة من المشكلات لا علاقة لعرفات بها، اضافة الى مشكلات من تركته والتجربة الفلسطينية الفصائلية. ولا التنازلات ستأتي دفعة واحدة فليس هناك من يجرؤ في الفترة الانتقالية التي يعيشها الفلسطينيون على الاعلان بأنه يقبل بالشروط الاسرائيلية من دون تعديل، ويوافق على"الكرم!"الاسرائيلي الذي منح الفلسطينيين الفتات.
لم يعرف الفلسطينيون في تاريخهم الحديث لا الديموقراطية ولا المؤسسات، لأنهم أصلاً لم يعرفوا الدولة بعد، والانتخابات التي عرفها الفلسطينيون، أجريت لمرة واحدة قبل قيام الدولة، وهذه التجربة لا تصنع تقاليد الديموقراطية. كما لم يعرف الفلسطينيون المؤسسات في تجربة منظمة التحرير، وطن المنفى، فكل الحديث عن"ديموقراطية غابة البنادق"كان صياغات دعائية أكثر منه حياة سياسية حقيقية، وما عرفته الديموقراطية الفلسطينية هو"ديموقراطية الكلام"التي انجزها واقع الشتات، اذ لم تكن القيادة الفلسطينية في تلك الأيام قادرة على احتكار وسائل العنف وممارسته على الفلسطينيين في المنافي، حيث كانوا يخضعون لسلطات اكراهية أخرى. كانت التجربة الفلسطينية المعاصرة باهرة في وطنيتها وبمقدرة الشعب الفلسطيني على التضحية والتمسك بحقوقه، لكنها لم تكن باهرة بأدائها المؤسساتي.
هذا لا يعني ان الفلسطينيين لا يصلحون للديموقراطية، ولكن لا يمكن التعامل معها في الواقع الفلسطيني بصفتها واقعاً منجزاً، فهي هدف يحتاج الى انجاز وبناء، وعندما تبنى تحتاج الى حماية. وحتى لا ننخدع بالشكليات، ولأن الديموقراطية والمؤسسات تبنى على وطن ناجز ومستقل، فإن كل انجاز فلسطيني، قابل للارتكاس، ليس بفعل فلسطيني وحسب، بل بفعل عامل خارجي أيضاً.
فالانتخابات التعددية التي أجريت والتي ستجرى ظاهرة ايجابية تدفع القوى السياسية الى اختبار قوتها وجماهيريتها في الشارع الفلسطيني، ولكن لم يتم التحول الى الانتخابات الفلسطينية بصفتها الاطار الوحيد المانح للشرعية فلسطينياً. فما زال الوضع الفلسطيني قادراً على خلق مشروعيات من خارج صندوق الاقتراع بفعل الاحتلال، وهي شرعيات لا تقل قوة، ان لم تكن أقوى، من صندوق الاقتراع، خصوصاً ان قوى المعارضة الفلسطينية، وعلى رأسها حركتا"حماس"و"الجهاد"، تتعامل مع الانتخابات كأداة اختبار وليس مرجعية القوى السياسية للصراع السياسي وحسم الخلافات في ما بينها على الخيارات السياسية المطروحة في الساحة الفلسطينية. وطالما ان القوى السياسية الفلسطينية لم تتوافق على الآلية الديموقراطية لحل الخلافات ولمنح المشروعية بشكل نهائي، فإن هذه الآلية لا يمكن اعتبارها منجزاً فلسطينياً، ولا يمكن القول ان الانتخابات المقبلة التي سيحرسها مراقبون دوليون هي انتخابات ديموقراطية. ان الديموقراطية في التجربة الفلسطينية مطلب يحتاج الى انجاز، ولأنه مطلب مجدول مع مطلب وطني، لا يمكن فصله عنه، فإنها تشكل معضلة فلسطينية حقيقية.
ظهر واضحاً في جدل الانتخابات الفلسطينية، التركيز على انتخابات رئاسة السلطة باعتباره الموقع الفلسطيني الأهم، في الوقت الذي تم حسم رئاسة منظمة التحرير من دون أي صراعات تذكر، واعتبر ان حسم مسألة رئاسة اللجنة التنفيذية باختيار أبو مازن يفتح الباب أمامه لرئاسة السلطة. والقراءة الصحيحة تشير الى مركزية السلطة على حساب منظمة التحرير، بوصف السلطة الفلسطينية على رغم كل الدمار الذي لحق بها مركز النظام السياسي الفلسطيني الحالي.
تفتح هذه القراءة الباب واسعاً أمام تحولات داخلية منتظرة على الصعيد الفلسطيني. ففي اللحظة التي كانت التفاعلات السياسية الفلسطينية محتدمة كان موقع هذه التفاعلات الحاسم هو الأراضي الفلسطينية في العقد الأخير بعد اتفاقات أوسلو، ولكن لم تصل هذه التحولات الى نهاياتها، بل ان فترة رئاسة أبو مازن للسلطة الفلسطينية يمكن اعتبارها فترة انتقالية لاستكمال هذه التحولات، والتي ظهرت انتقاليتها من خلال التحدي الذي شكله ترشيح مروان البرغوثي نفسه للرئاسة، ما هدد فرص أبو مازن بالفوز، مع الأخذ في الاعتبار ان البرغوثي من الصف الثاني في"فتح"، ومن شخصيات الجيل الجديد التي تملك كل المواصفات للسيطرة على القرار السياسي. ومع نهاية الفترة الانتقالية يتم التطابق بين تحول الأراضي الفلسطينية الى المرجع الفلسطيني الوحيد والنهائي، وتمكن هذا الداخل من السيطرة النهائية على القرار السياسي الفلسطيني.
تؤسس المرحلة الانتقالية التي يترأسها أبو مازن الى الانتقال فلسطينياً الى مرحلة جديدة تختلف جذرياً عن المرحلة السابقة، مرحلة تم التأسيس لها من خلال تغير أسس النظام السياسي الفلسطيني، بعد انتقال القيادة الى الداخل، واذا كان هذا الانتقال تم عبر القيادة التاريخية التي مثلها عرفات، فإن الانتقال بات معطى موضوعياً يرتب تغيرات حتمية على الصعيد الفلسطيني. واذا كان أبو مازن يمثل القيادة التاريخية، فإن هذه القيادة انتهى دورها التاريخي، ليس بالمعنى السياسي فحسب، بل وبالمعنى العمري أيضاً. ويمكن القول ان مع وفاة عرفات سيغيب عن الساحة السياسية الحرس القديم في الحركة الفلسطينية، ولمصلحة حرس جديد يأتي هذه المرة من مركز النظام السياسي الفلسطيني الجديد، بصفته صاحب النظام السياسي، وليس بانيه كما كانت القيادة التاريخية تعتبر نفسها، وأصحاب النظام السياسي سيأتون من الاقليم الجغرافي للنظام الجديد، وهي المرة الأولى التي ستلعب الجغرافيا دوراً حاسماً في تحديد القيادة الفلسطينية المقبلة. ولا يغير في حتمية هذه التغيرات ان الفترة الانتقالية اختارت أبو مازن رئيساً للمنظمة وللسلطة الفلسطينية، وفاروق القدومي أبو اللطف رئيساً لحركة"فتح". وتأثير الجغرافيا على الخيارات المقبلة يشير في الوزن والتأثير لكل من أبو مازن وأبو اللطف، فالفارق بين أبو مازن المقيم في الداخل، على رغم اعتباره تاريخياً رجلاً ضعيفاً داخل"فتح"والمنظمة، وبين قدرة أبو مازن الذي سمي رئيساً ل"فتح"، داخل الحركة مؤشر صارخ الى هذا الاتجاه.
فكل الاجتماعات تعقدها فتح، في الداخل في غياب رئيس الحركة الذي اختار ألا يدخل الأراضي الفلسطينية. وهذا مؤشر من جهة أخرى على وزن الخارج الفلسطيني الذي يتجه الى التلاشي في التأثير في القرار السياسي. ونقل الراية الى الحرس الجديد دلالة على نقل السلطة والقرار السياسي الى قيادة الداخل، التي تنتمي الى الداخل جغرافياً، وليست التي أتت مع القيادة الى الأراضي الفلسطينية. فهناك في الأراضي الفلسطينية فائض قيادات في الجيل الصاعد تنتظر الفرصة من أجل الوصول الى مواقع القرار الفلسطيني بدل القيادة التاريخية، فيما لا توجد في تجمعات الشتات الفلسطيني أي مؤشرات على جيل صاعد يمكن أن يشكل معادلاً لجيل الداخل. كما ان فاعلية هذه التجمعات تكاد تكون معدومة، وبالتالي لا أفق سياسياً لها، مما يجعل انتقال مركز القرار السياسي الفلسطيني الى الداخل مسألة العودة عنها.
هذا التحول سيفتح الباب واسعاً أمام"صراع أجيال"داخل"فتح"وهو صراع موجود أصلاً، وكان عرفات قادراً على ضبطه بحكم"الشرعية التاريخية"ولكن مع غيابه ومع استحقاق انتخابات المجلس التشريعي، سيظهر الصراع الذي كان مكبوتاً على السطح بقوة، وقد يقسم"فتح"اذا لم تستطع الحركة التحكم فيه. وبحكم الزيادة النوعية لوزن الداخل التي جعلته حاسماً في مجمل الوضع الفلسطيني، سيختار الجيل الجديد آليات الحسم الانتخابي داخلياً، وهي الآلية التي تسرّع من وصول هذا الجيل الى القرار السياسي، لأن هذه الانتخابات ستحسم في ملعبه، في مواجهة بقايا الحرس القادمة من الخارج. وسيستقر الأمر في النهاية على من يعتمد الانتخابات أساساًَ جديداً للشرعية الداخلية حتى لو بعد حين. فقد انتهى زمن"الشرعية التاريخية"وسيشكل هذا منعطفاً مهماً لمستقبل فصائل منظمة التحرير ولبنية المنظمة نفسها. وتحول الداخل الفلسطيني الى المقرر النهائي في الموضوع الفلسطيني، سيزيد من هامشية المنظمة التي سيتم الحفاظ عليها لأسباب شكلية أكثر من الحفاظ على دور موضوعي لها، وهو ما سيحولها من اطار تمثيل مركزي شغلته في التجربة الفلسطينية الحديثة، الى أداة ثانوية بيد السلطة التي باتت تشكل النظام السياسي الفلسطيني.
مستقبل النظام السياسي الفلسطيني يسير في اتجاه التلاؤم مع الاطار الجغرافي المتاح في ظل الظروف الراهنة، وان كان هذا المتاح يأتي على حساب التجربة التاريخية الفلسطينية. وامتلاك الاقليم الجغرافي سيعمل كما دلت التجربة السابقة من عمر السلطة الفلسطينية على حصر الحل ضمن النطاق الجغرافي المتاح. ولأن آلية بناء السلطات تخلق تناقضات في المصالح بين الموقع المركزي والمواقع الهامشية، فستوضع مصلحة الداخل المركزي/ القوي في مواجهة الخارج الهامشي/ الضعيف، مما يجعل الخارج في نهاية المطاف، ليس أكثر من موضوع للمساومة.
* كاتب فلسطيني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.