على عكس اعتقاد عدد من المعلّقين الاعلاميين الرسميين، دخلت العلاقات السورية - الاميركية مرحلة جديدة مع اعلان قرار وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس استدعاء السفيرة مارغريت سكوبي الى واشنطن لاجراء"استشارات عاجلة". ولا شك في ان اعتماد مبدأ"الواقعية المبدئية"يقطع الطريق على خطوات تصعيدية اضافية، والاستهتار بمغزى استدعاء سكوبي يؤدي الى استفزاز خطوات اضافية اكثر صعوبة. لم تكن المرة الاولى التي يقرأ ناطقون رسميون الحدث المرتبط بسورية بطريقة معكوسة. اذ ان وزير الاعلام السابق احمد الحسن اعتبر القرار 1559"انتصاراً"للديبلوماسية السورية في اطار حديثه عن التمكن من حذف عبارة"القوات السورية"من مشروع القرار واعتماد عبارة"القوات الاجنبية المتبقية"وحصول القرار بصيغته النهائية على تسعة اصوات فقط! ولم يتغير الخطاب السياسي الى الاعتدال والواقعية الا بعد ايام لدى انتباه صانع القرار، كما كانت الحال مع ردود الفعل التي اعقبت اقرار الرئيس جورج بوش بعض عقوبات"قانون محاسبة سورية واستعادة سيادة لبنان"في ايار مايو الماضي. وقتذاك، اعتبر رئيس مجلس الشعب البرلمان السوري الدكتور محمود الابرش القانون"مضحكاً". وذهب مسؤولون آخرون الى انه"يضر بأميركا اكثر مما يضر بسورية"، كما اقترح عدد من النواب"قانون محاسبة اميركا". وفجأة تغير الخطاب الرسمي بمفردات اخرى:"التمسك بالحوار الموضوعي مع اميركا"وان العقوبات"تلحق ضرراً بالاقتصاد السوري بالبعدين الفعلي والرمزي". وتكررت ليل اول من امس التجربة للمرة الثالثة في غضون بضعة اشهر. اذ عندما اعلن الناطق باسم الخارجية الاميركية ريتشارد باوتشر ان بلاده قررت استدعاء سكوبي"لاجراء استشارات"، لم تظهر تعليقات مباشرة. لكن بعد ساعتين ! ظهر عدد من الاعلاميين الرسميين لطرح افكار تدور حول نقطتين: الاولى ان هذا امر عادي يحصل دائماً بين الدول وان السفير السوري في واشنطن عماد مصطفى استدعي الى دمشق تسع مرات خلال سنة. والثانية ان سكوبي أمضت عاماً في دمشق وباتت تعرف الكثير عن السياسة السورية. بالتالي يمكن ان تنقل الصورة الحقيقية الى صناع القرار في واشنطن. الامر الطبيعي الا تسعى دمشق الى تصعيد سياسي مقابل وألا تستعجل"خطوة مماثلة"باستدعاء سفيرها في شكل علني ولفترة غير محددة كما حصل مع سكوبي، وان تحافظ على"شعرة معاوية"بإبقاء اقنية الحوار الديبلوماسي والسياسي للبحث عن نقاط مشتركة. لكن في الوقت نفسه، من الضروري عدم التقليل العلني من أبعاد هذه الخطوة التصعيدية. وكان بوش وقع في ايار الماضي امرين يخصان سورية: حظر الصادرات الاميركية عدا الغذاء والدواء وتكنولوجيا التدفق الحر للمعلومات وحظر الطيران المتبادل ضمن سلة العقوبات الواردة في"قانون المحاسبة"، والثاني تعيين الديبلوماسية المخضرمة سكوبي سفيرة لدى دمشق. ولم يمنع بوش الاستثمارات الاميركية في سورية، كما لم يخفض التمثيل الديبلوماسي او يقيد حركة الديبلوماسيين. كما انه لم يطبق المادة 311 من"القانون الوطني"التي تقترح"قطع العلاقات"مع"المصرف التجاري السوري"الحكومي على خلفية اتهامه ب"غسيل الاموال وتمويل الارهاب"، ولم يقرر"تجميد ارصدة مؤسسات وشخصيات متورطة في تمويل الارهاب". كانت"الرسالة"الاميركية واضحة: استمرار الضغط والحوار. وتم التعبير عن الحوار بزيارات مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الاوسط وليم بيرنز في ايلول سبتمبر الماضي ثم نائب الوزير ريتشارد ارميتاج مطلع السنة الجارية، ولقاء وزير الخارجية الاميركي كولن باول مع نظيره السوري فاروق الشرع. اما الضغط فاستهدف بمعنى او آخر ب"المطالب السبعة"التي حملها باول في ايار 2003 . وتتعلق بالانسحاب من لبنان و"تفكيك حزب الله"و"اغلاق مكاتب"ثم"طرد"قادة المنظمات الفلسطينية و"وقف دعم التمرد في العراق". دمشق التي تعتبر هذه الامور"مطالب اسرائيلية"حاولت ان ترسم خيطاً واضحاً: التعاون مع واشنطن في الامور التي تخص المصالح الاميركية والمصالح المشتركة مثل محاربة الارهاب الدولي وتنظيم"القاعدة"، واقناع"حماس"و"الجهاد"بالدخول في حوار فلسطيني ل"تعزيز الوحدة الوطنية"واغلاق المكاتب الرسمية ومنع النشاط السياسي، ولكن ليس طرد هؤلاء السياسيين طالما ان اسرائيل لا تسمح لهم بالعودة الى وطنهم. كما أبدت دمشق مرونة في"جبهة"اخرى لدى اعلان مسؤولين سوريين بالاستعداد لاستئناف مفاوضات السلام مع اسرائيل"من دون شروط مسبقة"وارسال اشارات رمزية تمثلت بإعادة اعمار القنيطرة والموافقة على بيع التفاح من الجولان المحتل في سورية. لكن"المفاجأة"لدى دمشق كانت لدى طلب واشنطن من تل ابيب عدم الاستجابة للدعوات الاسرائيلية وفرض شروط كثيرة كان آخرها اعلان رئيس الوزراء آرييل شارون بوجوب"الانسحاب السوري من لبنان"قبل العودة الى مائدة التفاوض. وطالما ان دمشق تعتقد بأن"حزب الله"ليس منظمة ارهابية وانه مقاومة وطنية ليس لها أي نشاط خارج لبنان ولم تقم بأي عملية ارهابية خارج الاراضي اللبنانية ولم تستهدف الاميركية، فإنها ترى ان"تفكيك الحزب مطلب اسرائيلي وليس اميركياً"، اضافة الى انه"منظمة سياسية تنخرط اكثر في العمل السياسي لدى تحقيق التسوية السلمية الشاملة". ولأن سورية تعتقد بأن الموضوع الاساس بالنسبة الى ادارة بوش هو"العراق اولاً وثانياً وثالثاً"، كانت دمشق"اكثر مرونة"في هذا الموضوع: اتخذت اجراءات امنية وعسكرية ل"ضبط الحدود"السورية - العراقية، ودعمت سراً وعلناً العملية السياسية في العراق المتمثلة بالانتخابات نهاية الشهر الماضي للمساهمة في تحقيق الامن والاستقرار فيه وعدم التقسيم او حصول حرب اهلية. كما انها حولت قسماً 3.7 مليون دولار من الاموال العراقية، وتعهدت تسليم أي مسؤول في النظام العراقي"يثبت تورطه في الارهاب". وفي مقابل هذا"الانخراط التدرجي"من جانب سورية، كانت"تراكمات"مناهضة للعلاقات مع دمشق تبنى في واشنطن. اذ اقترح عدد من اعضاء الكونغرس"قانون تحرير سورية"، شنت حملات اعلامية مركزة من جماعات الضغط الاسرائيلية بأن دمشق"تدعم التمرد"في العراق، وظهرت اصوات اميركية بأن"لا فائدة من الحوار"مع دمشق التي"لم تحسم خياراتها". وجرى تحالف، فاجأ دمشق، بين اميركا وفرنسا لصياغة القرار 1559. بدأ التمهيد للقرار في حزيران يونيو الماضي فاستبق التمديد للرئيس اميل لحود وصدر وتصاعد بعد قرار التمديد. وبعدما كان الخطاب الاميركي يتضمن بعض الاشارات الايجابية تجاه دمشق في شأن محاربة الارهاب الدولي وضبط الحدود مع العراق، لتشجيعها على مزيد من التعاون في شأن تسليم عناصر النظام العراقي السابق ولبنان، اتخذت العلاقات مع تسلم رايس وزارة الخارجية منحى جديداً: اولاً، الحد الاقصى الذي قالته رايس خلال جولتها الاوروبية ان دمشق حققت"الحد الادنى من التقدم"وليس"تقدماً ايجابياً"كما كان يعلن مسؤولو وزارة باول في شأن ضبط الحدود مع العراق ودعم العملية السياسية في هذا البلد. ثانياً، تراجع مسؤولون في وزارة الخزانة الاميركية عن الرغبة في المجيء الى دمشق للبحث في"عدم تطبيق"المادة 311، بل انهم باتوا يقولون علناً ان سورية"تدعم الارهاب والتمرد". ثالثاً، تسليم نائب مساعد وزير الخارجية ديفيد ساترفيلد الى السفير مصطفى الاسبوع الماضي"احتجاجاً رسمياً"بسبب اعتقاده بأن دمشق"لم تلب"المطالب الاميركية خصوصاً في ما يتعلق بنحو 19 مسؤولاً في نظام الرئيس السابق صدام حسين الذين تعتبر دمشق ان اسماءهم"مفبركة"وان"لا معلومات مؤكدة في شأن تورطهم في الارهاب". ان وضع استدعاء سكوبي في سياق هذا"التراكم"التصعيدي على مسار واشنطن - دمشق يساعد كثيراً في تخفيف الآثار السلبية لهذه الخطوة التصعيدية. اما استهتار الخطاب السياسي السوري بعمق هذه الخطوة واعتبارها"عادية"، فربما يؤدي الى استفزاز واشنطن لاتخاذ خطوات اكثر حدة بفرض عقوبات اقتصادية اضافية، هي آخر ما تريده سورية.