في زمنٍ تتسارع فيه الحياة وتتداخل فيه الضغوط النفسية مع تفاصيل الإنسان اليومية، يصبح وجود المعالج النفسي ضرورة لا ترفًا. لكن ما يغيب عن كثيرين هو أن هذه المهنة ليست مجرد أدوات علاجية أو جلسات منظمة أو بروتوكولات علمية جاهزة؛ بل هي مهنة أخلاقية قبل كل شيء. مهنة قوامها الضمير، والإحساس بالآخر، والقدرة على رؤية الإنسان في هشاشته وارتباكه وضعفه. المعالج النفسي الذي لا يحمل ضميرًا يقظًا، مهما امتلك من شهادات وخبرات، لا يستطيع أن يقدّم علاجًا حقيقيًا. لأن العلاج النفسي في جوهره علاقة بشرية، تُبنى على الثقة والمصداقية والاحترام العميق للإنسان الذي يجلس أمامك، يفتح قلبه ويضع مشكلاته في يدك. وفي غياب بعد أخلاقي أصيل لدى المعالج، تتحول العملية العلاجية إلى لقاء مهني بارد، يخلو من الروح، يخلو من التعاطف، ويخلو من الإنسانية التي تُعدّ أساس الشفاء. المراجع النفسي لا يبحث فقط عن حلول، بل يبحث عن أذن تسمع، وقلب يفهم، ووعي لا يحكم. وإن شعر، ولو للحظة، أن الأخصائي يفتقد الجانب الأخلاقي -سواء في احترام الخصوصية، أو في طريقة التعامل، أو في حضور القلب- فإنه لن يستطيع أن يُفصح، ولن يتقدّم خطوة واحدة في رحلة العلاج. كثير من العملاء يعانون من التردد والخجل والخوف من الأحكام، وإن لم يجدوا معالجًا يتّسم باللطف، والنزاهة، والأمان الداخلي، فلن يذهبوا أبعد من جدران الصمت. الأخصائي النفسي لا يُنتظر منه فقط أن يفهم الاضطرابات ويحلّل السلوكيات، بل أن يكون إنسانًا حيّ الضمير، قادرًا على استقبال معاناة الآخرين كما لو كانت قطعة من نفسه. هذا الحضور الأخلاقي ليس اختيارًا، بل هو شرط أساسي لنجاح العلاج. لأن المراجع لا يثق في الأخصائي الذي لا يتّسق بين ما يقوله وما يظهره في تعاطيه الإنساني. تقول نظريات العلاج إن العلاقة العلاجية (Therapeutic Alliance) تمثل نصف الطريق نحو التعافي. وهذا التحالف لا يُبنى بالمعلومات فقط، بل بالأخلاق: بالصدق، بالأمانة، بالاحترام، والانتباه الصافي. حين يشعر المراجع أن المعالج ينظر إليه كإنسان قبل أن يكون «حالة»، تنشأ العلاقة الحقيقية، ويبدأ العلاج في أخذ مساره الصحيح. المسؤولية الأخلاقية تشمل أمورًا دقيقة قد لا يراها الآخرون: طريقة جلوس المعالج واستقباله للمراجع. نبرة صوته عندما يسأل. احترامه لمشاعر العميل حتى لو بدت له «بسيطة». عدم التقليل من ألم أحد. عدم استغلال العلاقة العلاجية بأي شكل. الأمانة المطلقة في حفظ الأسرار. هذه التفاصيل الصغيرة تشكّل مجتمعة الصورة الكبرى: صورة المعالج كإنسان يمكن الاتكاء عليه. وإذا نظرنا إلى الواقع، نجد أن هناك فجوة كبيرة بين الجانب المهني في التدريب والجانب الأخلاقي في الممارسة. كثير من الأخصائيين يتعلمون البروتوكولات، لكن قلة فقط تدرك أن العلاج يبدأ من الأخلاق قبل أن يبدأ من الأدوات. المعالج الذي لا يملك تعاطفًا حقيقيًا لن يستطيع أن يكون مرآةً تساعد المراجع على رؤية نفسه. والمعالج الذي يتعامل ببرود أو سلطة أو أحكام مسبقة يعطّل العلاج بدل أن يسهّله. اليوم، أصبحت الحاجة إلى تعزيز أخلاقيات المهنة أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. نحن أمام جيل يبحث عن الأمان النفسي، لا عن نصائح جاهزة. ويبحث عن شخص يُمكنه أن يثق به، لا عن متخصص يكتفي بتسجيل الملاحظات. المعالج النفسي، في نهاية الأمر، ليس مجرّد مُعالج؛ هو مساحة أمان. وإن لم يملك أخلاقًا عالية، فلن يصبح تلك المساحة.