ملتقى الصحة العالمي.. رافعة استثمارية لرؤية 2030 في قطاع الرعاية الصحية    ثيو هيرنانديز يجتاح الفحص الطبي في الهلال    تصنيف الفيفا: السعودية في المركز 59    تجمع القصيم الصحي يطلق حملة "صيّف بصحة" التوعوية    العلاج الوظيفي: أمل جديد لتحسين حياة المرضى    مفردات من قلب الجنوب ٢    مدينة جازان للصناعات الأساسية تعلن موعد التسجيل في ورش عمل مهنية بأكاديمية الهيئة الملكية    ‫محافظ عفيف يُطلق المرحلة الثانية من مبادرة الصحة السكانية بالمحافظة    النفط يستقر قرب ذروته في أسبوعين بفعل الطلب ومخاوف التجارة    المملكة تستعرض 7 مبادرات رقمية لصحة الحيوان واستدامة الموارد    القيادة تهنئ الحاكم العام لكومنولث جزر البهاما بذكرى استقلال بلادها    نيابة عن خادم الحرمين .. نائب أمير مكة يتشرف بغسل الكعبة المشرفة    باريس سان جيرمان يتخطى ريال مدريد برباعية ويضرب موعداً مع تشيلسي في نهائي مونديال الاندية    الشيخ أمين الحيدر يشكر القيادة الرشيدة بمناسبة ترقيته للمرتبة الرابعة عشرة    رحلة شفاء استثنائية.. إنهاء معاناة مريضة باضطراب نادر بزراعة كبد فريدة    السعودية الأولى عالميًا في مؤشر ترابط الطرق    إلغاء إلزامية خلع الحذاء عند نقاط التفتيش في جميع مطارات أميركا    رياح مثيرة للأتربة والغبار على معظم مناطق المملكة    ارتفاع عدد ضحايا فيضانات تكساس إلى 120 قتيلا    قتيلان في كييف في هجوم روسي    أستراليا تطالب روسيا بدفع تعويضات    اختتام أعمال توزيع هدية خادم الحرمين الشريفين    أكبر مصنع لأغشية التناضح العكسي    خالد بن سلمان يبحث المستجدات مع وزير الدفاع المجري    ليش مستغربين!    إدارة الأهلي تتجاهل الإعلام في حفل تدشين شعار النادي    أنديتنا.. التقييم أولاً    وفاة بزه بنت سعود وعبدالله بن سعود    أمر ملكي: تعيين ماجد الفياض مستشارًا بالديوان الملكي بالمرتبة الممتازة    إحباط تهريب 310 كجم مخدرات    شدد على تسريع مشروعات الطاقة والتوسع في التدريب التقني.. "الشورى" يطالب بتحديث مخططات المدن    آل باخذلق وآل باعبدالله يحتفلون بزواج عبدالعزيز    أمر ملكي: تعيين الفياض مستشاراً بالديوان الملكي    بين الدولة السورية و«قسد» برعاية أمريكية.. اجتماع دمشق الثلاثي يرسم ملامح تفاهم جديد    "لويس الإسباني".. أول رواية عربية مستوحاة من "الفورمولا"    جسرنا الحضاري    "درويش" في الخليج نهاية أغسطس    "ورث" يجدد الفنون بلغة الألعاب الإلكترونية    محرك طائرة يبتلع رجلاً أثناء الإقلاع    استهدف مواقع تابعة ل"حزب الله".. الجيش الإسرائيلي ينفذ عمليات برية جنوب لبنان    4 برامج لتأهيل الكوادر الوطنية في التخصصات الصحية    موجز    دراسة: بكتيريا شائعة تسبب سرطان المعدة    المملكة توزّع (2.617) سلة غذائية في عدة مناطق بباكستان    مشاركة سعودية في تطوير التحكيم الآسيوي .. اختتام برنامج شهادة مقيمي الحكام 2025    300 طالب في «موهبة الإثرائي» بالقصيم    «الديوان الملكي»: وفاة بزه بنت سعود..ووالدة عبدالله بن سعود بن سعد    نائب أمير منطقة مكة يستقبل معالي الأمين العام لهيئة كبار العلماء في ديوان الامارة    أمير تبوك يزور الشيخ أحمد الخريصي في منزله    أمير تبوك يطلع على التقرير الشامل لأداء إدارة التعليم بالمنطقة    أمير منطقة جازان يرعى حفل افتتاح ملتقى "جسور التواصل 2025"    أمير تبوك يستقبل رئيس المجلس التأسيسي للقطاع الشمالي الصحي والرئيس التنفيذي لتجمع تبوك الصحي    "الذوق العام" تدرب مندوبي التوصيل على مستوى المملكة        دراسات حديثة: الكركديه ليس آمناً للجميع    إطلاق مبادرة "إثراء قاصدينا عِزُّ لمنسوبينا"    التطبير" سياسة إعادة إنتاج الهوية الطائفية وإهدار كرامة الانسان    الحب طريق مختصر للإفلاس.. وتجريم العاطفة ليس ظلماً    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في جانب من التحولات السورية اليوم ثقافة "مباحة" وأوهام عابرة للتاريخ والجغرافيا !
نشر في الحياة يوم 13 - 02 - 2005

دون كل دول منطقة"الشرق الأوسط"، استطاعت الدولة في سورية تطوير شكل ذي خصوصية مركبة من اشكال النظام السياسي المتحدر من أصول بيروقراطية عسكرية، كان نموذجها الحي الحديث بدأ منذ 200 سنة مع محمد علي باشا في آخر محاولة امبراطورية شرقية، عربية - إسلامية، شكلت قطعاً عصرياً في حينها مع تقاليد دولة"الخلافة"الكلاسيكية.
ومع كل اعتبار لأنماط الدولة الاقليمية، في المنطقة وربما في الدول العربية كافة، مع تفاوت حجم"الديني"الإسلامي من الخطاب المستمر، لجهة ان هذه الانماط اجتمعت على التشابه في طبيعة واداء وحجم الخطاب"القومي"او بالاحرى القوموي العاطفي والتقليدي الاندماجي، الذي تم تصنيعه كعامل من عوامل الاستدامة السياسية للنظم الحاكمة، وعدم كفاية الاسباب الواقعية والتاريخية لتجاوزه، موضوعياً، اضافة الى ما أبقت عليه هذه النظم من ادوات وأساليب دول"الخلافة"في الحكم والتحكم وبخاصة نظام"الشرف السياسي"القائم على الولاء للحكام، من دون نظام الكفاية والمعرفة.
ومع كل اعتبار آخر، فإن"الحداثة السياسية"في سورية التي طرأت على البنية السياسية والاجتماعية منذ ثلاثة عقود خلت مع عصر حافظ الأسد، بدأت تترك اليوم مفاعيلها غير المتمايزة حتى النهاية، مع انها بدأت بتحوير البنية الاجتماعية وخلخلتها ثقافياً من طريق ممارسة القرار السياسي لدور يتمايز في كثير من الاحيان عن"عضوية"مقتضيات المدلول العقائدي لمفهوم الحزبية السياسية، بما انتهت اليه تلك"التوفيقية السياسية"الحداثية في استقلالها بصفات واقعية كانت تستمر في تناقض مع مؤدى بنية الدولة الشمولية الحزبية، وفي تناقض مع خطاب"الدولة الأمنية"الذي انتهى الى خطاب شكلي مباشر في بعض الممارسات السياسية، في أوقات سالفة.
ومع كل هذا استمر التواشج معززاً، ومحافظاً على صلات القرابة بين مؤثرات التاريخ بسلطاته الاجتماعية والثقافية الكابتة، وسلطة النظام السياسي الذي لم يفلح في إنضاج القطيعة المعرفية مع الجذور الثقافية ما يفسر ركود الحركتين الاجتماعية والسياسية في أطر من التردد والتواضع. وحيث اكتفت الدولة كحاملة لثقافة سلطة كانت تفترضها كافية في الابقاء على استقرار النظام العام، فاتها فهم ان"الثقافة"بذاتها، كتعبير موضوعي عن درجة تطور ومعاصرة، مباحة للجميع، انما هي ليست تلك الميزة المعاصرة، بقدر ما أضحت فروضاً على كل الاطراف في موقع السلطة السياسية او في موقع السلطات الاجتماعية، وفي جذور الطموحات الاخرى نحو السلطة.
في تلك التربة ومنذ اكثر من اربعة عقود ماضية، نضجت قراءتان وحيدتان للواقع في محاولة امتلاك آفاقه والتأثير فيه والسيطرة على مفاصله على صعيد السلطتين الاجتماعية والسياسية، وهما قراءة الدولة"البعثية"، وقراءة"المعارضة"بأطيافها الإسلامية والماركسية والليبرالية وما اليها. غير ان كلا القراءتين ارتبطتا بتواضعات اعتقادية في مستويين على الاقل: مستوى"الديني"من جهة ومستوى"القبلي"من جهة اخرى. وعلى هذا المستوى الاخير يمكن تعليل اسباب عدم قدرة الدولة على انجاز"المؤسسة"الوطنية المعاصرة، خارج قيود"المكان الاجتماعي"الراكد، المتوارثة بنيوياً، من نموذج القبيلة والعائلة والطائفة والمذهب والعرف. وبذلك ايضاً، نعلل غياب الجذر المعرفي من اساس"المؤسسة"او مؤسسات"المجتمع"الاهلي وليس المدني، بالتالي! وكذلك من مؤسسات الدولة وبخاصة منها الادارة والسلطة والقانون. وفي النتيجة بقي الطرفان الدولة والمعارضة يتشاركان في الاعتماد على البنية الاجتماعية، الاهلية، الراشحة الى كلا الجانبين وإلى سائر المواقع السياسية بتظاهراتها الفئوية و"الطبقية"! المخاتلة والمزيفة على طول نقاط توزيع السلطات التاريخية، المباشرة منها وغير المباشرة، فيما اسميه بنظام"الشراكة السياسية".
في ظروف النضوج الموضوعية، للواقع الوطني السوري، وحيث كفت"الثقافة"- بوصفها استجابات تكيّف - عن اداء دور معرفي فعال، اكتفت القوى"السائدة"في السلطة والمجتمع بدور الحفاظ على مواقع السلب في الأداء والسلوك، في ضرب من الحفاظ العنيد على"الهويات"المهددة، فكفت الثقافة عن قدرتها على خلق التمايزات الإيجابية الفاعلة في الحقول الاجتماعية وفضاءاتها السياسية الملازمة. وحيث تبدو"الثقافة"- في هذا السياق - ضامناً للمواقع، مجرباً وعنيداً، بقيت"المعرفة"الغائبة، من جذر ممارسة السلطة والقوة، نائية عن كونها طاقة دفع نحو التجربة المبتكرة والجديدة، المغايرة، التي تتيح وسائل وأدوات من"القوة"المعاصرة، تكمن في اساس كل"السلطات"التي يطمح إليها"الجميع"للمشاركة الإيجابية الفاعلة في إنجاز لغة"المكان"الإقليمي والعالمي. وحيث كانت الثقافة تمكّن الجميع من إدراك"الاختلافات"والتناقضات حتى الإسفاف والعدائية المواقعية احياناً، غابت المعرفة، نهائياً، بوصفها تستطيع خلق وابتكار ادوات البحث عن"التشابه"والحوار في طريق طموحات التغيير في"حركة الإصلاح"المعاصرة ومشروعها الحضاري العقلاني المؤهل للمشاركة في ايقاعات العصر والعالم.
وبسبب من مواقعية المنظومات التعبيرية ومنظومات المصالح والسلطات والقوى المؤهلة لذلك، على مختلف تعدد نقاط توزعها في المكان الاجتماعي والسياسي دولة - سلطة، سلطات اجتماعية وتاريخية ضاغطة، توفيقيات سياسية وبنى مجتمع اهلي اخرى، غارقة في التزمت أو في الحياد الماكر، وأخيراً: معارضة، لذلك السبب يمكن ان نفهم ونعلل عدم قدرة الدولة مثلاً من إنجاز طبقتها فئتها البيروقراطية على المستوى المؤسساتي، الإداري والاقتصادي، على رغم إنجازها طبقتها البيروقراطية السياسية بصيغة تنويعات معاصرة على المؤسسة البيروقراطية العسكرية، المعللة بواقعيتها في التاريخ الحديث، القريب. فالدولة في التعبير العملي، على صعيد المؤسسات، هي ناتج اجتماعي ايضاً! وبسبب عدم تمايز المستويات في الحصيلة والخطاب، بين مختلف البنى والمؤسسات في الأفق وفي العمق، في مشهد الثقافة"المشترك"بين اطراف اجتماعية وسياسية تبدو انها متعارضة، لذلك السبب بالضبط استُثمرت"الثقافة"لتعليل المحافظة على المكتسبات التاريخية منها ما تفعله المعارضة مثلاً والمعاصرة ما تفعله الدولة مثلاً من طريق خطاب ايديولوجي يميز ثقافة مستمدة من الخطاب القوموي العاطفي التقليدي، وأخرى مستلهمة من دولة"الخلافة"الإسلامية وهذا بالنسبة الى الدولة - السلطة، بينما كانت الثقافة القادمة من السلطات الاجتماعية الحية المتصلة بثقافات تاريخية تقليدية تنتمي الى عهود القبيلة والمذهب والعرف والعرق احياناً والطائفة...، مهجّنة بثقافات عالمية وإعلامية عن الحرية والديموقراطية والإصلاح، هي ما يميز خلفيات خطاب المعارضة، بحيث بقي في"مجموعة التقاطع"ما بين تلك الثقافات جميعها المستقطبة وفق واقع"الثنوية"المتمايزة موضوعياً، ما نشهده من واقع"المؤسسة"المتخلفة وغير المتجذرة وطنياً بالنسبة الى اعتباراتها"الأهلية"والمزيفة، والضيقة، وذلك على طول انتشار تعبيرات المؤسسة ومشاريعها الممكنة، في المستوى الأشمل الحاوي على"المقولات"جميعها. وعلى هذا الأساس يمكن ان نفهم الآن كيف ان البنية العامة للنظام العام تُظهر تناقضين اساسيين: الأول: هو التناقض البنيوي في مستويات"النظام السياسي"، المعبّر عن ذاته في عدم انسجام تراتبية مؤسسات الدولة نفسه، من حيث التوزع المتناقض للأهلية والمشروعية ما بين المؤسسات الأكثر"تطوراً"والمتمثلة في البيروقراطية السياسية، والمؤسسات الأقل"تطوراً"بسبب عدم نضوج او عدم إنجاز طبقة بيروقراطية وظيفية تخدم نفسها وتخدم الدولة وفق تعريف البيروقراطية نفسها، المرشحة لممارسة وظائف نظام الإدارة والتشريع والقضاء اضافة الى المؤسسات التنفيذية، والتي رشحت اليها سلطات"المجتمع الأهلي"القبلية والفئوية واللاهوتية، بحيث جعلت هذه من تلك ترجيعاً لأصداء ثقافة تاريخانية ساكنة وعنيدة في حضرة تحولات العصر. والثاني: هو التناقض بين النظام السياسي والمجتمع المتوتر المائر فوق منتجاته من سلطات محافظة تدافع بقوة مسلحة احياناً عن مواقعها الثقافية والإيديولوجية.
ومع ما تقدم يمكن ان نضيء مشكلة غير مفهومة في ادبيات السياسة تختص بنقد المشهد السياسي السوري، وأعني بها واقع التردد في إدراك المفاهيم والأدوات في"الواقع"، مع تحولات عاجزة عند ممارسة الدافع السياسي عند مختلف الأطراف. وتتعمق هذه"الأحجية"في تجربة التأمل السياسي، في ما يتهدد الواقع السياسي الإقليمي من فروض وخيارات، ما لم تخرج الدولة نفسها من ترددها، وذلك بالأخذ بواقعية صيرورة القوى المحلية والإقليمية العالمية الأكثر قوة، بوساطة مباشرة فلسفة اصلاحية تستطيع معها تفعيل الواقعي العقلاني بالتزامن مع تحييد الزائد من النشاط المغامر او المفلس، الذي تخوضه القوى غير الناضجة وطنياً، في الدولة والمعارضة معاً. ومن اجل ذلك لا بد من نقد المفاهيم السياسية التي تمارسها مؤسسة الحكم، اولاً، للوصول الى نظرية سياسية قائمة على معرفة"صرفة"للواقع الوطني، الإقليمي، والعالمي، توجه السلوك وتتجذر في مبدأ الأفعال.
وهكذا..، فمن تقاليد دولة"الخلافة"الغابرة، وبنية معاصرة من البيروقراطية السياسية متأصلة على ارضية بيروقراطية عسكرية، وبعض طموحات وطنية غائمة في خلفية الدوافع والنيات...، ومؤسسات تنفيذية متعثرة بسبب إرادات منحرفة وناقصة ومغرضة...، الى امتثالات لثقافة عالمية وإعلامية مبرمجة، وتحريك للخامل التاريخي، ومحفوظات واحدية استبعادية عابرة للماضي والتاريخ متماهية ببرامج حول ليبراليات عابرة للجغرافيا وديموقراطيات غازية...! هذا هو المشهد المؤطر في حدود وطنية اتفاقية وممالئة، ولن تفلح، مع كل ذلك، كل"الخواطر"السياسية الناشطة، اليوم، في سورية، في مشروع الطموحات والإصلاحات السياسية الديموقراطية الرامية اللهم الى تعزيز وطنية عقلانية ومعقولة، إن لم يكف جميع"الفاعلين"الوطنيين عن العمل بالوهم القائم على واحديات مانعة، للقوة والسلطة وثقافة الكبت وكبت المعرفة...، او الوهم القادم من جيوب التاريخ والماضي، او الوهم العابر للقارات!
كاتب سوري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.