إذا أمعنّا النظر في مقدمة كتاب"الحيوان"للجاحظ، نجد انها تغطي نحو المئة صفحة الأولى في الكتاب. ويبدو للوهلة الأولى انها تتعاطى بالدرجة الأولى بذكر كتب أخرى ومصادر، وهي تمدح الكتاب والكتابة على العموم، وكتب الجاحظ نفسه بوجه خاص. يبدأ الجاحظ كتابه بالدفاع عن نفسه في مواجهة خصم مجهول مُعادٍ لكتاباته. وهو في سبيل إثبات تميزه يذكر ثلاثين عنواناً لكتب سبق له أن أصدرها، مما يشكل مصدراً لا يقدر بثمن بالنسبة الى الباحثين المُحدَثين في كتاباته، ولأولئك الذين يبحثون عن ملء ثقوب وفراغات في سيرته الفكرية وتطورات حياته، ومؤلفاته المفقودة. ويُنهي الجاحظ مقدمته الطويلة بالتشديد على معارفه المتميزة، وقدرته باعتباره كاتباً محترفاً ومجرّباً على معالجة أي موضوع شاء، ومن ضمن ذلك موضوع الكتاب: الحيوان. لكن الجاحظ ما ينفك منشغلاً بموضوع الكتاب والكتابة، حتى بعد نهاية المقدمة، والبدء بتقديم جديد. وهذا أمر يتجاوز ما نعرفه عن حبه للمعرفة المكتوبة. وأحسب أن السبب في ذلك يرجع الى الآتي: هناك من جهة"سلسلة الوجود الكبرى"الناجمة عن تزاوج فكرة أفلاطون عن الخير، مع"سُلَّم الطبيعة"لأرسطو، مشكِّلة نظاماً صاعداً في تأمل أنواع مخلوقات الله، والتي تصل في النهاية الى الثناء الجماعي على كمال الخَلْق الإلهي. في أسفل هذه الهرمية نجد الشهادة الصامتة للمخلوقات تبعاً لموقعها في الكون موضوع. ويتبع ذلك أو يليه التعبير التلقائي للحيوانات من خلال دليل الغريزة، فإلى التعبير البرهاني من جانب الإنسان استدلالاً من الرسم، ثم الى الذروة مع"التملك التواصلي"الذي يعني تحقق الرسالة الموكولة الى الانسان البيان. ولن توجد اللغة الكاملة، والتعبير الكامل عنها ليس في كلام الرجال البليغ، بل في كلمة الله المكتوبة، قديماً وحديثاً، ومن هنا يأتي اعتبارها أعلى أشكال الثقافة الإنسانية، وبذلك فهي النهاية الموازية لنظام الخلق الإلهي. وهكذا، فالجاحظ لا يشارك العلماء نظرتهم المتشائمة وبخاصة المحدِّثين، الذين يعتبرون أن"العلم"الديني شامل، لكنه محدد بحدود، ويميل الى التضاؤل والذبول. على العكس من ذلك يرى الجاحظ ان الأمور الى ازدهار، ونموذجه"القزم الواقف على كتفي عملاق"، وهو تعبير استعمله جون سالسبوري في القرن الحادي عشر، لكنه ربما كان أقدم. ونقرأ في المقدمة ان كتب الأقدمين لا يمكن الاستغناء عنها، لأن انجازاتنا ضئيلة مقارنة بإنجازاتهم. وهذا يصحُّ أيضاً بالنسبة الى الأجيال اللاحقة، لأن كل جيل يحتاج الى انجازات المتقدمين. بين الثقافات العالمية الأربع الكبرى الإغريق والهنود والفرس والعرب يتميز العرب لكن بطرائق تبقى موضع استفهام. وقد اعتاد العرب القدامى على حفظ ثقافتهم الشعر شفوياً، لكنها صارت الآن مدوّنة. ولأن الشعر لا يترجم، فإن العرب المدينيين صاروا بثقافتهم المكتوبة ورثة تلك الثقافة غير المكتوبة، ويكون عليهم صونها في المستقبل من خلال التعلُّم والحفظ والتدوين. وما كان هذا الانجاز ممكناً لولا الاسلام، لأن الإسلام بالنسبة الى الجاحظ هو الضامن الوحيد لثقافة كونية تعبّر عن وحدة الخلق والخالق. وهكذا، فبين النصوص التاريخية العريقة والتي تشكل إنجازات سامية في حقل التجربة الانسانية، والكتب السماوية التي تتضمن كلام الله، هناك نمط ثالث من الكتب ظهر في الإسلام، يرى الجاحظ في"الحيوان"جزءاً منه. انه كتاب أدب، يشير الى انجازات الأقدمين، كما الى الشعر العربي، وقدرة الله، دونما مبالغة أو تقصير. جامعية ألمانية، درست الجاحظ في أطروحتها للدكتوراه.