في بداية سنوات السبعين، حينما كانت هوليوود بدأت تتبدل بالفعل وتنتقل السيطرة منها، وإن جزئياً وفنياً على الأقل من المنتجين الى جيل جديد من المخرجين هم الذين سيعرفون بأصحاب اللحى لم يكن هوارد هيوز مات بعد، لكنه في منعزله الرهيب كان أضحى طي النسيان. أما الإتيان على ذكره بين الحين والآخر، ولا سيما لمناسبة تحقيق اورسون ويلز فيلماً يتضمن مقطعاً عنه ف. فورفيك، فلم يكن يتضمن كل ذلك القدر من الأساطير، التي راحت تسري منذ رحيله في العام 1976، وصارت سيرته ككرة الثلج، كلما تقدم الزمن بها، كلما تعاظمت حجماً. على هذا النحو راحت سيرته تتبدل وتزداد تضخماً بازدياد عدد الكتب المتحدثة عنه. ولكن، في الحقيقة، كان ثمة أساس حقيقي لكل هذا. فهوارد هيوز كان، حقاً، غريب الأطوار. وحكايات ذهانه ورهابه كانت الى حد كبير حقيقية، كما كان حقيقياً ولعه بالطيران والسينما، وبالمجازفة المالية والاختراعات. في المقابل، من الصعب اليوم اعتباره مخرجاً، حتى ولو حاول سكورسيزي في"الطيار"اقناعنا بهذا. ذلك ان ليس ثمة فيلم كامل يمكن القول ان هيوز كان مخرجه الحقيقي... فهو كان، في أحسن الاحوال، وحتى في"ملائكة الجحيم"و"الخارج على القانون"وهما الفيلمان الاكثر ارتباطاً، اخراجياً باسمه مجرد مشارك في الاخراج، وربما في كتابة السيناريو ايضاً. وكذلك حاله في اختراعات الطيران. ولربما كمنت عقدة حياته كلها، في ذلك الاخصاء التنظيفي الذي مارسته أمه عليه باكراً في لعبة اتخذت شكلاً طقوسياً لدى سكورسيزي، مما جعله غير قادر على ان يحرر عقله ويحرر جسده لكي يبدع. ومهما يكن من الامر، فإن ثمة - في سيرته - ما هو واقعي وحقيقي يمكن استشفافه من خلال السير الاسطورية المتراكمة. ومن هذا انه ولد حقاً في تكساس من أب ملياردير يعمل في استخراج النفط من آبار كان والده يملكها. وهو منذ الثامنة عشرة من عمره، ورث ثروة أسرته الطائلة... كما انفتح على حب الطيران، وأولع بمشاهدة الافلام السينمائية. وهكذا راح بالتدريج يخوض هوايتيه معاً، حتى وإن كان دخوله عالم الانتاج و"الاخراج"السينمائي قد تباطأ وكان عليه ان ينتظر بلوغه الحادية والعشرين من عمره في العام 1926... ففي تلك السن، واذ اولع، اولاً، بالشقراء جين هارلو، و"اكتشف"من خلال"اختراعه"لها كنجمة ان في امكانه اختراع اشياء اخرى، قرر ان ينفق جزءاً من ثروته على فن السينما، وان يصبح مخرجاً. ومن هنا ولد"فيلمه"الاول"ملائكة الجحيم"الذي كان فيلماً سينمائياً عن الطيران واعطى دوراً بارزاً لجين هارلو. ولقد حقق الفيلم نجاحاً كبيراً، على رغم ان هيوز لم يكن مخرجه الحقيقي، وانه انفق عليه ثروة طائلة 4 ملايين دولار تبخرت في شراء الطائرات نحو 200 طائرة سقط بعضها وفي التعويض على ممثلين / طيارين قتلوا خلال تصوير المشاهد. سينما نساء وطائرات بالنسبة الى هيوز، كانت النتيجة مبهرة، ورفعته في الوقت نفسه الى ممارسة هواياته الثلاث: السينما، حينما راح ينفق على افلام ويفرض في بطولاتها صديقاته المتتاليات، بمن فيهن كاترين هيبورن، التي ستروي لاحقاً في مذكراتها كيف تعاملت معه دائماً كطفل صغير دائم الجوع والجهل وكيف اصيب بصدمة حينما اخبرته اخيراً انها ستتزوج سبنسر تراسي، وآفا غاردنر التي ابداً لم تنظر اليه بجدية وجين راسل وغيرهن. والطيران حيث راح يخترع طائرات جديدة سيؤدي سقوط احداها الى اصابته بجراح، اما فشل الباقيات فسيؤدي الى مشكلات مع الدولة. وهو حين سيزداد تعلقه بالطيران"سيؤسس"شركة"ترانس وورلد"ليخوض معركة هائلة ضد احتكار"بان أميركان"للخطوط الدولية. وفي مجال الطيران ايضاً سينافس لندنبرغ في الدوران حول العالم في مباراة ناجحة ستجعله أحد أبطال الشعب الأميركي في الثلاثينات. اما هوايته الثالثة فكانت... انفاق المال، والهرب في ذلك دائماً الى الامام، حيث كلما سبب لنفسه خسارة في مشروع، قفز الى مشروع أبهظ كلفة وأكثر خسارة. ولقد عاش هيوز هذا كله وسط عقده النفسية وولعه المرضي بالنظافة وخوفه من الآخرين ان يلوثوا يديه، كما عاش وسط احلام وقراءات لا تنتهي. وهذا العيش هو الذي حول ذلك كله الى اسطورة من أغرب اساطير القرن العشرين، علماً بأن هيوز أمضى آخر عقدين من حياته بين فشل مشروع"هرقل"افلاس شركته السينمائية، من جهة، وموته في العام 1976 من جهة ثانية في الطائرة التي كانت تقله من معتكفه البائس، الى المستشفى في هيوستن حيث كان يفترض ان يعالج بعدما تفاقمت حاله وبعد ان ظل حتى ساعاته الأخيرة معتكفاً لا يغتسل ويكاد لا يأكل. لا يرى احداً، ولا يريد لأحد ان يراه، من دون ان يعرف احد كيف ولماذا كان يعيش حقاً...