في تقديمه لكتابه"المنقذ من الضلال"يخبرنا الإمام ابو حامد الغزالي انه كان لم يزل في"عنفوان شبابي وريعان عمري، منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين الى الآن، وقد اناف السن على الخمسين، أقتحم لجة هذا البحر العميق، وأخوض غمرته خوض الجسور، لأخوض الجبان الخدور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجم على كل مشكلة، وأتقحم كل ورطة، وأتفحص على عقيدة كل فرقة، وأستكشف اسرار مذهب كل طائفة، لأميز بين محق ومبطل، ومتسنن ومبتدع. لا أغادر باطنياً إلا وأحب ان أطلع على باطنيته، ولا ظاهرياً إلا وأريد ان اعلم حاصل ظاهريته، ولا فلسفياً إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلماً إلا وأجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفياً إلا وأحرص على العثور على سر صفوته، ولا متعبداً إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقاً معطلاً إلا وأتجسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته...". إن هذا النص الذي كثيراً ما يستخدم للتدليل على"انفتاح"الإمام الغزالي على أفكار"الآخرين"، وبالتالي تعطش لون معين من الفكر الإسلامي إلى معرفة"الآخر"، قد لا تجد تطبيقه العملي المتكامل لدى صاحب"المنقذ من الضلال"، بل تجده، في شكل اكثر صفاء ووضوحاً وموسوعية في كتاب آخر، لمفكر إسلامي آخر، جاء بعد ابي حامد، بعدة عقود من السنين. هذا الكتاب هو"الملل والنحل"، اما مؤلفه فهو ابو الفتح محمد بن عبدالكريم الشهرستاني. إذ ان هذا الكتاب لا تزال تعاد طباعته ويقرأ على نطاق واسع حتى يومنا هذا، وترجم الى الفرنسية منذ سنوات بمعرفة"اليونسكو"بصفته معْلماً من معالم التراث الفكري الإنساني. والحقيقة ان"الملل والنحل"هو اكثر من ذلك بكثير. "الملل والنحل"موسوعة دقيقة متكاملة حول كل المذاهب والأفكار التي كانت معروفة، منذ فجر التفكير الإنساني، معبراً عنها بالفكر الإغريقي، وحتى زمن الشهرستاني، الذي كان يعرف قدراً هائلاً من الانشقاقات والتنوعات، بل حتى الصراعات، الفكرية التي كانت سرعان ما تتخذ سمات سياسية وحربية في بعض الأحيان. والحال ان كتاب الشهرستاني هذا، جاء وسط حقبة اتسمت بالموسوعية في تاريخ الفكر الإسلامي، ومن هنا يمكن القول انه لم يكن فريد نوعه، بيد انه كان الأشمل والأعمق وربما ايضاً الأكثر موضوعية، بين النتاج الموسوعي الإسلامي خلال القرن الثاني عشر الميلادي. صحيح ان الشهرستاني لم يكن، في اعتقاداته الخاصة، موضوعياً، إذ حتى حين يقرأ المرء فصول كتابه سيكتشف بسرعة انه كان سنياً، أقرب الى الاعتزال منه الى اي تيار آخر، بيد ان الرجل لم يدع نزعته هذه، تشوش افكاره وتدفعه الى الانتقاص من قدر الأفكار والمذاهب الأخرى، حتى وإن كان لا يفوته ان يبدي رأيه الخاص - وباعتدال دائماً - بين الفينة والأخرى. لم يكن حيادياً تماماً، لكنه كان موضوعياً. ومن هنا كان في وسع قارئه ان يعرف الكثير ويدرك العميق من المعلومات والتحليلات حول كل المذاهب والأفكار والأديان والمعتقدات التي اوغل فيها شرحاً وتأريخاً وتفصيلاً في كتابه. لم يتبع الشهرستاني، في تقسيم فصول كتابه ومواضيعه، اي ترتيب تاريخي محدد، وكان هذا امراً طبيعياً بالنسبة إليه، فهو اذا كان يكتب انطلاقاً من معتقده الإسلامي، لم يكن عليه ان ينظر الى الإسلام بصفته حلقة من سلسلة، فلو فعل - مغرقاً في موضوعية لم تكن ممكنة في زمنه - لكان عليه ان ينتقص من قيمة دينه ومذهبه. ومن هنا نراه يخص الإسلام بالجزء الأول من كتابه، وهو برر هذا في تقديمه للكتاب، إذ قال انه اتبع هذه الطريقة"لئلا يظن بي اني من حيث انا فقيه ومتكلم، اجنبي النظر في مسالكه ومراسمه، اعجمي القلم بمداركه ومعالمه". ولذا اذا اتبع ترتيباً، يسميه هو"ترتيب على العدد"فإنه يفيدنا بأن ترتيبه ل"مذاهب اهل العالم"ينطلق من الفرق الإسلامية وغيرها ممن له كتاب منزل محقق مثل اليهود والنصارى، وممن له شبهة كتاب مثل المجوس والمانوية، وممن ليس له حدود وأحكام دون كتاب مثل الصابئة، وممن ليس له كتاب ولا حدود وأحكام شرعية، مثل الفلاسفة الأول والدهرية وعبدة الكواكب والأوثان، والبراهمة."وكل هذه الاتجاهات، نذكر اربابها وأصحابها، وننقل مآخذها ومصادرها عن كتب طائفة على موجب اصطلاحها بعد الوقوف على مناهجها، والفحص الشديد على مباديها وعواقبها". وهكذا يفيدنا الشهرستاني منذ البداية، انه لا يتحدث عن فكر او عن طائفة انطلاقاً - مثلاً - مما يكتبه خصوم هذا الفكر أو تلك الطائفة، بل انطلاقاً من وثائقها... وكان هذا ايضاً جديداً على الفكر الإسلامي الموسوعي في ذلك الحين. إذاً، في الجزء الأول من"الملل والنحل"، وبعدما يقدم الشهرستاني ب"خطبة"تضم خمس مقدمات في اولها"بيان تقسيم اهل العالم"ثم"تعيين قانون يبنى عليه تعديد الفرق الإسلامية"ثم مقدمة حول"كبار الفرق الإسلامية"ثم"بيان اول شبهة في الخليقة"ف"بيان اول شبهة في الملة الإسلامية"، خاتماً المقدمات ب"السبب الذي اوجب ترتيب هذا الكتاب"، يستعرض"كل"الفرق الإسلامية، بدءاً ب"المعتزلة"وصولاً الى"الإسماعيلية"و"الباطنية"و"المجتهدين"و"أصحاب الرأي"، مروراً ب"الأشعرية"و"الصفاتية"و"الخوارج"، و"الأباضية"و"الشيعة"و"الإثني عشرية"، محللاً فكر كل مذهب وطائفة، عارضاً لأبرز مفكري كل واحدة منها. وحين يصل الشهرستاني الى الجزء الثاني من كتابه، ينتقل الى الحديث عما سماه"الخارجين عن الملة الحنفية"بادئاً ب"أهل الكتاب"مفصلاً في ما كان معروفاً او نصف معروف حول"اليهود"ثم حول"النصارى ". وهو ينتقل بعد ذلك الى"المجوس"و"الزرادشتية"و"المانوية"وغيرها من مذاهب"لها شبهة كتاب"ومن هؤلاء ينتقل الى"الصابئة"واصلاً الى"هرمس العظيم"، قبل ان يصل الى الفلاسفة، فيتحدث تباعاً عن"الحكماء السبعة"مكرساً نصف هذا الجزء للحديث المفصل عن آراء أبرز مفكري اليونان، من تاليس الى الاسكندر الأفروديسي وفرفوريوس، مروراً بأفلاطون وأرسطو وديوجانس الكلبي وغيرهم. وهذا ما يتيح له ان يبدأ الجزء الثالث من كتابه بالحديث عن"متأخري فلاسفة الإسلام"، بدءاً ب"الكندي"وصولاً الى الفارابي وابن سينا وغيرهما. وهو اذ يوجز حياتهم ونظراتهم الفلسفية ينطلق في الحديث بعد ذلك عن افكارهم الأساسية المتعلقة، مثلاً، بالمنطق وموضوع العلم الإلهي والطبيعيات والأجسام وحدوث النفس وخلود النفس... وهو بعد هذا، فقط، يعود الى"آراء العرب في الجاهلية"، راجعاً الى بدايات الكعبة قبل التوغل في ديانات اولئك العرب ومعتقداتهم وأصنامهم وما حصلوا من علوم، منتقلاً منهم الى"آراء الهند"متوقفاً عند البراهمة... الخ. وابو الفتح محمد بن عبدالكريم الشهرستاني 1086 - 1153 يعتبر من فلاسفة الإسلام، بحسب موسوعة الزركلي الذي يضيف انه"كان إماماً في علم الكلام وأديان الأمم ومذاهب الفلاسفة يلقب بالأفضل. وهو ولد في شهرستان بين نيسابور وخوارزم وانتقل الى بغداد شاباً، حيث اقام 3 سنوات قبل ان يعود الى بلده". ولقد وصفه ياقوت بقوله:"الفيلسوف المتكلم صاحب التصانيف، كان وافر الفضل، كامل العقل، ولولا تخبطه في الاعتقاد ومبالغته في نصرة مذاهب الفلاسفة والذبّ عنهم، لكان هو الإمام". ومن ابرز كتب الشهرستاني الى"الملل والنحل":"نهاية الإقدام في علم الكلام"و"تاريخ الحكماء"و"مصارعات الفلاسفة"وغيرها.