في مفتتح كتابه الاقل شهرة "الاقدام" يذكر الشهرستاني ببيتين من الشعر لا يفصح من هو قائلهما، لكن كثراً ينسبونهما الى ابن الصائغ الاندلسي، وهما: "لقد طفتُ في تلك المعاهد كلها/ وسيّرت طرفي بين تلك المعالم/ فلم أرَ إلا واصفاً كف حائر/ على ذقن او قارعاً سن نادم". ومن الواضح ان الشهرستاني الذي يكاد يبدو وكأنه اتخذ من هذين البيتين شعاراً في حياته، انما حاول في كل ما كتب، ان يساهم في التخفيف من حيرة اولئك الذين رصد حيرتهم وندمهم، في تبنيه شعر ابن الصائغ. وما النتيجة التي يطلع بها المرء من تبحره في الكتاب الأشهر للشهرستاني وهو "كتاب الملل والنحل"، سوى تطبيق لهذه الفرضية، من دون ان نقول ان هذا الهم لم يكن كذلك همه في بقية كتبه التي بقيت لنا. والشهرستاني، منذ السطور الاولى لتقديمه كتابه الاشهر يقول لنا من دون ادنى لبس: "... لما وفقني الله تعالى الى مطالعة مقالات اهل العالم من ارباب الديانات والملل وأهل الاهواء والنحل، والوقوف على مصادرها ومواردها واقتناص اوانسها وشواردها، اردت ان اجمع ذلك في مختصر يحوي جميع ما تدين به المتدينون وانتحله المنتحلون، عبرة لمن استبصر واستبصاراً لمن اعتبر". وكأن الشهرستاني هنا يستجيب مباشرة لما كان الإمام ابو حامد الغزالي عبّر عنه في "المنقذ من الضلال"، حين اشار الى انه منذ راهق الصبا قرر ان يطلع على كل فكر ومذهب، مهما كان شأنه، وان يجابه اصحابه، لا بالتكبير والوعيد، بل بالحجة والمنطق. ولما كان من غير الممكن للمحاجج ان يتصدى لما لا يعرفه او يطلع على تفاصيله، كان لا بد من نصوص تشرح مذهب كل ملة، وفكر كل نحلة، شرحاً موضوعياً مستفيضاً. والحال ان كتاب الشهرستاني "كتاب الملل والنحل" يقوم بهذا بكل تجرد وتفصيل، من دون الخوض في مهمة دحض كل فكرة. واللافت في هذا الاطار ان موضوعية الشهرستاني جعلته، بحسب ما يروي الذهبي نقلاً عن السمعاني، يتهم بمناصرته "اهل القلاع" اي الاسماعيليين، لمجرد انه وصف مذهبهم بإسهاب في كتابه، من دون ان يكفّرهم او يهاجمهم، وهو نفس ما مارسه تجاه كل المذاهب والافكار الاخرى. والحقيقة انه، اذ كان الاسماعيليون في زمنه اواخر القرن الحادي عشر/ بدايات القرن الثاني عشر يشكلون الخطر الاكبر على السلطة المركزية، اتهم الشهرستاني - بحسب السمعاني - بالانتصار لهم. غير انه يجب ألاّ يفوتنا هنا ان الاتهام كان باطلاً، وكذلك كان حال جل ما وسم به الشهرستاني. ويؤيدنا في هذا ابن خلكان الذي يؤكد في "وفيات الاعيان" ج: 4 - ص273 اذ يقول: "ابو الفتح محمد بن ابي القاسم عبدالكريم بن ابي بكر احمد الشهرستاني المتكلم على المذهب الاشعري، كان اماماً مبرزاً فقيهاً متكلماً تفقه على احمد الخوافي، وعلى ابي نصر القشيري وغيرهما، وبرع في الفقه، وقرأ الكلام على ابي القاسم الانصاري وتفرد فيه...". ويقيناً ان من كان هذا شأنه، ما كان يمكن ان يسحب في خانة الاسماعيليين. كل ما في الامر ان موضوعيته وتجرده، ما كان يمكنهما ان يُقبلا وسط مناخ تعصب كل فئة لنفسها وتكفيرها الآخرين... ذلك ان موضوعية الشهرستاني وتجرده، انما كانا صورة لتسامحه الفكري، هذا التسامح الذي يقف على الدوام ضد التعصب. و"كتاب الملل والنحل" هو في الاساس كتاب تسامح وفهم. ومنظمة الاونيسكو حين اصدرت قبل سنوات ترجمة فرنسية له، قدم لها المفكر المغربي علال سي ناصر، قدمته على هذا النحو، واعتبرته صورة فكرية حية لجانب من صورة الاسلام والفكر الاسلامي ثمة ميل دائم الى نسيانها في ايامنا هذه. ويتجلى التسامح لدى الشهرستاني، بالطبع، في اسلوب عرضه لأفكار الآخرين. ولكن من هم هؤلاء الآخرون؟ انهم، وبحسب تحديد الشهرستاني نفسه "اصحاب مذاهب اهل العالم، من ارباب الديانات والملل وأهل الاهواء والنحل، من الفرق الاسلامية وغيرهم، ممن لهم كتاب منزل محقق مثل اليهود والنصارى، وممن له شبهة كتاب مثل المجوس والمانوية، وممن ليست له حدود وأحكام دون كتاب مثل الصابئة، وممن ليس له كتاب ولا حدود ولا احكام شرعية مثل الفلاسفة الاول، والدهرية وعبدة الكواكب والاوثان والبراهمة... نذكر اربابها وأصحابها، وننقل مآخذها ومصادرها عن كتب طائفة على موجب اصطلاحها بعد الوقوف على مناهجها، والفحص الشديد على مباديها وعواقبها". ويستطرد كاتبنا قائلاً ان "التقسيم الصحيح الدائر بين النفي والاثبات، هو قولنا ان اهل العالم انقسموا من حيث المذاهب الى اهل الديانات، والى اهل الاهواء، فإن الانسان اذا اعتقد اعتقاداً، او قال قولاً، فإما ان يكون فيه مستفيداً من غيره، او مستبداً برأيه، فالمستفيد من غيره مسلم مطيع، والدين هو الطاعة والتسليم، والمطيع هو المتدين، والمستبد برأيه محدث مبتدع...". وهنا يفيدنا الشهرستاني ان المستبدين بالرأي مطلقاً هم المنكرون للنبوات مثل الفلاسفة والصابئة والبراهمة ممن "لا يقولون بشرائع وأحكام أمرية، بل يضعون حدوداً عقلية حتى يمكنهم التعايش عليها"، اما المستفيدون فهم "القائلون بالنبوات، وأرباب الديانات والملل من المسلمين وأهل الكتاب". يقول الشهرستاني هذا ويضيف: "ولما كان نوع الانسان محتاجاً الى اجتماع آخر من بني جنسه في اقامة معاشه، والاستعداد لميعاده، وذلك الاجتماع يجب ان يكون على شكل يحصل به التمانع والتعاون، حتى يحفظ بالتمانع ما هو له، ويحصّل بالتعاون ما ليس له، فصورة الاجتماع على هذه الهيئة هي الملة، والطريق الخاص الذي يوصل الى هذه الهيئة هو المنهاج والشرعة والسنّة والاتفاق على تلك السنّة هي الجماعة". قال الله تعالى: "لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً" المائدة: 48. ويفيدنا الشهرستاني ان الملة الكبرى هي "ملة ابراهيم عليه السلام" وهي الحنفية... او الشريعة فابتدأت مع نوح عليه السلام. والحدود والاحكام ابتدأت من آدم وشيت وادريس عليهم السلام، واختتمت الشرائع والملل والمناهج والسنن بأكملها واتمها حسناً وجمالاً بمحمد عليه السلام. وقد قيل خص آدم بالأسماء، وخص نوح بمعاني تلك الاسماء، وخص ابراهيم بالجمع بينهما، ثم خص موسى بالتنزيل، وخص عيسى بالتأويل وخص المصطفى بالجمع بينهما على ملة ابيكم ابراهيم". وانطلاقاً من هذا كله يسرد الشهرستاني في اجزاء كتابه الثلاثة تفاصيل الفكر الديني منذ اول الخليقة، لكنه يتوقف ايضاً، وفي شكل مطول وكما وعدنا منذ مقدمته، عند بقية الافكار و"الاهواء" بحيث ان الكتاب يأتي في مجمله موسوعة فكرية فريدة من نوعها في زمانها، تعرض لنا في الجزء الاول المذاهب الاسلامية كافة، مع تاريخ كل فرقة وأفكارها، بدءاً من المعتزلة وصولاً الى الاسماعيلية والباطنية و... اصحاب الرأي. وفي الجزء الثاني، يسهب المؤلف، وانما بموضوعية مدهشة، في الحديث عن اهل الكتاب اليهود والنصارى، ثم عن المجوس وأصحاب الاثنين" والمانوية وسائر فرقهم، وصولاً الى هرمس وأصحاب الروحانيات، الذين ينتقل منهم الى الفلاسفة عارضاً تفاصيل الفكر الاغريقي بدءاً من "الحكماء السبعة" وصولاً الى الاسكندر الافردويسي و"رأي فرفوريوس". اما في الجزء الثالث فإن المؤلف بعد عرضه افكار "متأخري فلاسفة الاسلام" ومنهم الكندي، على سبيل المثال، يعرض الكثير من قضايا الفلسفة مثل المنطق والالفاظ، ليصل الى الالهيات، واصلاً الى "آراء العرب في الجاهلين"، ومن هناك الى "عبدة القمر" و"عبدة الشمس" و"عبدة الاصنام" وما شابه، مختتماً بالتوقف عند حكماء الهند... مما يجعل كتابه عرضاً ساحراً لكل الفكر الانساني ولكل الشرائع الالهية كما عرضها تاريخ البشرية حتى زمن هذا المؤرخ الفذ والذي عاش بين 1076 و1153 ه. وعاش ودرس في نيسابور وبغداد هو الذي ولد ومات في شهرستان بخراسان الفارسية.