حين يغيّب الموت مفكراً فلسطينياً من عيار هشام شرابي، فإن هذا لا يعني فقط ان الفكر العربي فقد احد اعلامه المعاصرين، وإنما يعني ايضاً ان فلسطينياً آخر قضى وحمل معه حلمه في العودة. كان حزيناً عميق الحزن والصمت حين تعرفت اليه في ليماسول، بقبرص، ونحن نؤسس المنظمة العربية لحقوق الانسان اثناء ندوة عن الديموقراطية في الوطن العربي دعانا اليها صديقنا خير الدين حسيب. ثم تزاملنا في مجلس امناء هذه المنظمة. ان حقوق الانسان تعني شيئاً خاصاً بالنسبة الى هشام الفلسطيني ولأي فلسطيني: ففي العام الذي صدر فيه الاعلان العالمي لحقوق الانسان 1948، هو نفسه عام النكبة، حين طرد شعب من ارضه وتشتتوا في البقاع والأصقاع وبقي منهم آخرون تحت الاحتلال. معنى ذلك ان ازدواجية المعايير وقانون الاقوى بدأ في شكل واضح منذ ذلك التاريخ. لكن هشام لم ييأس، فكانت حقوق الانسان قضيته ليواجه بمبادئها وقيمها كل الذين يضربون بها عرض الحائط، او يتعاملون معها تعامل نفاق وانتقاء. اكاديمية هشام شرابي لم يصعد بها الى سماء تنسيه هموم الارض. لقد حلل بها، وهو عالم الاجتماع، بنيات المجتمع العربي المقاومة للحداثة والانعتاق. فأدرك ابوية السلطة المبثوثة في كل السلطات: سلطة التراث، وسلطان السلطة، وتعثر الديموقراطية، وخصوصاً تغييب المرأة وراء حجاب. والحجاب ليس رداء وبرقعاً لحجب المرأة - العورة -، بل هو حجاب فكر التحريم، وقوانين الوصاية، وكل ما يلقّن قصور النساء وإقصاءهن، في الكتب المدرسية والقيم المتوارثة. غنية كانت حياة هشام شرابي، ولا أدل على ذلك من قراءة سيرته الذاتية. وكثيرة هي خصال الرجل ومزاياه. وسينكب الباحثون على دراسة فكره الغني، ولكن الذين عرفوه سيذكرون له مزية من مزاياه العالية: نزاهة فكرية لا تضاهى.