جامعة الملك خالد تدفع 11 ألف خريج لسوق العمل    1.6 ألف ترخيص ترفيهي بالربع الأول    الطاقة النظيفة مجال جديد للتعاون مع أمريكا    السعودية والأمريكية    «الأقنعة السوداء»    العيسى والحسني يحتفلان بزواج أدهم    احذر أن ينكسر قلبك    5 مخاطر صحية لمكملات البروتين    تقنية تخترق أفكار الناس وتكشفها بدقة عالية !    إلتقاء سفيرة خادم الحرمين الشريفين بطلبة المنتخب السعودي في آيسف.    فتياتنا من ذهب    حلول سعودية في قمة التحديات    تضخم البروستات.. من أهم أسباب كثرة التبول    بريد القراء    الرائد يتغلب على الوحدة في الوقت القاتل ويبتعد عن شبح الهبوط    ابنة الأحساء.. حولت الرفض إلى فرص عالمية    الاستشارة النفسية عن بعد لا تناسب جميع الحالات    ولي العهد يلتقي الأمين العام للأمم المتحدة وملك الأردن والرئيس السوري    هتان السيف.. تكتب التاريخ في الفنون القتالية    مستقبل الحقبة الخضراء    الإطاحة بوافد مصري بتأشيرة زيارة لترويجه حملة حج وهمية وادعاء توفير سكن    مدير عام مكتب سمو أمير منطقة عسير ينال الدكتوراة    رئيس موريتانيا يزور المسجد النبوي    الدراسة في زمن الحرب    الشريك الأدبي وتعزيز الهوية    التعليم في المملكة.. اختصار الزمن    صالح بن غصون.. العِلم والتواضع        76 مليون نازح في نهاية 2023    فصّل ملابسك وأنت في بيتك    WhatsApp يحصل على مظهر مشرق    حراك شامل    فوائد صحية للفلفل الأسود    ايش هذه «اللكاعه» ؟!    خطر الوجود الغربي    العام والخاص.. ذَنْبَك على جنبك    حق الدول في استخدام الفضاء الخارجي    كلنا مستهدفون    أثقل الناس    تحولات التعليم.. ما الذي يتطلب الأمر فعله ؟    لماذا يجب تجريم خطاب كراهية النساء ؟    الاتحاد يتعثر من جديد بتعادل أمام الخليج    المسابقات تعدل توقيت انطلاق عدد من مباريات دوري روشن    بتوجيه ولي العهد.. مراعاة أوقات الصلوات في جدولة المباريات    البنيان يشارك طلاب ثانوية الفيصل يومًا دراسيًا    أمير القصيم يرفع «عقاله» للخريجين ويسلم «بشت» التخرج لذوي طالب متوفى    النفط يرتفع والذهب يلمع    أمير تبوك يرعى حفل جامعة فهد بن سلطان    بمشاركة السعودية.. «الحياد الصفري للمنتجين»: ملتزمون بالتحول العادل في الطاقة    أمطار على أجزاء من 6 مناطق    صفُّ الواهمين    أمير تبوك يطلع على نسب إنجاز مبنى مجلس المنطقة    سقيا الحاج    السفير الإيراني يزور «الرياض»    أمين العسيري يحتفل بزفاف نجله عبد المجيد    خادم الحرمين الشريفين يصدر عدداً من الأوامر الملكية.. إعفاءات وتعيينات جديدة في عدد من القطاعات    رحالة فرنسي يقطع ثمانية آلاف كلم مشياً على الأقدام لأداء مناسك الحج    رعاية ضيوف الرحمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نظرة ايرانية إلى طبيعة العلاقة مع دول مجلس التعاون الخليجي والعراق وسورية
نشر في الحياة يوم 21 - 07 - 2004

هذا المقال يعبّر عن رأي نموذج من المثقفين الإيرانيين لم يقطعوا صلتهم بالجذور القومية ويضعون خدماتهم البحثية في متناول أصحاب القرار في الجمهورية الإسلامية.
السؤال الأساس الذي سنحاول تناوله بالبحث والإجابة هو: هل التعاون والعمل الجماعي والتكتل أو الائتلاف مع المناطق الواقعة جنوب ايران، يحقق الأمن أو بعضاً من أهداف بلدنا ايران، والى أي مدى؟
هذا السؤال لن يقتصر على النظرة الى جنوب ايران، بل هو مطروح بالنسبة الى المناطق الأخرى أيضاً. والإجابة عن السؤال تستلزم منا نوعين من التحليل للأوضاع الراهنة، إذ ينبغي من جهة دراسة الوضع الذي تمر به دول مجلس التعاون الخليجي والدول المجاورة لها باعتبارها مجموعة فرعية، ونقف من جهة أخرى على مدى تطابق أهداف ايران ومصالحها مع الوضع القائم، وقبل كل شيء علينا دراسة الوضع العام للمنطقة.
لعل من أهم الخصائص السياسية والأمنية للدول العربية المشاطئة للخليج هو علاقتها المتجذرة مع الدول الغربية وبخاصة الولايات المتحدة، فأمن المجموعة الفرعية: من جنوب العراق حتى آخر نقطة في جنوب المملكة العربية السعودية مرتبط بالمظلة العسكرية وأطروحة الأمن الأميركية، وإذ تضاعف الوجود العسكري الأميركي في الخليج خلال العقدين الماضيين عشرات الأضعاف، خصوصاً في فترة ما بعد حرب الخليج الثانية. ...
لقد ظلت عائدات نفط دول المنطقة تغطي، لأكثر من ثلاثين عاماً، التكاليف الباهظة للأمن والوجود العسكري، لكن خفض أسعار النفط منذ عام 1990 والتوقعات الخاصة بتدهورها المستمر خلقت أزمة في توفير النفقات النجومية والمكلفة على الصعيدين العسكري والأمني، الأمر الذي دفع بهذه الدول الى البحث عن بدائل سياسية لتوفير الأمن والاستقرار فيها، وربما فرضت التطورات القادمة مثل هذه الفكرة أو البديل. إن مشاعر القلق موجودة في شأن استمرار التقاليد والنظام السياسي على رغم أنه لا يلاحظ أي تحرك جاد نحو ايجاد التغيير.
ثم ان المصالح الأميركية تعد عاملاً آخر في تعقيد الأمور في المنطقة، فالنفط وسوق بيع الأسلحة والسلع يقفان في مقدم تلك المصالح... من الطبيعي أن تحرص أميركا على استمرار الوضع الراهن وعدم تغيير النسيج السياسي في المنطقة خوفاً من النتائج والأخطار المترتبة عليه، لذا فإن استراتيجية واشنطن تقوم في المنطقة على أساس إبقاء الوضع الموجود وادارة الأزمة بنجاح. في المقابل، يحتاج إحداث تغييرات تدريجية في النظم السياسية القائمة الى استراتيجية متعددة الجوانب، يجرى تنفيذها في ظروف مستقرة وأكثر هدوءاً، الأمر الذي يفتقر اليه الشرق الأوسط راهناً، بل يمكننا القول بكل جرأة ان منطقة الشرق الأوسط اليوم هي أكثر مناطق العالم اضطراباً، وفي مثل هذه الأجواء فإن الأميركيين لا يفضلون التغيير على حساب مصالحهم الكثيرة. وفي داخل أميركا، تتحدث الأوساط السياسية والأكاديمية دوماً عن ضرورة قيام واشنطن بإحداث تغيير، لكن الغالبية العظمى ترى الأولوية للمصالح النفطية والتسليحية والأمنية، وتعتبر التغيير لعبة خطرة. فضلاً عن أن الجيش الأميركي يعتبر الشرق الأوسط بعد انتهاء الحرب الباردة من المناطق المهمة والاستراتيجية، وأن ساحة الأزمات العالمية ربما انتقلت من أوروبا الى مجموعة دول البحر المتوسط وآسيا الوسطى والقوقاز والشرق الأوسط العربي وغير العربي، ما يستدعي منه - الجيش الأميركي - إبقاء الوضع في منطقة الشرق الأوسط كما هو عليه.
النتيجة الأولى لهذا التحليل هي ان المنطقة العربية الواقعة جنوب ايران هي منطقة أزمة، وهي لا تملك مفتاح الأمن والاستقرار، أو أنها ضعيفة، فيما تمتلك دول الغرب قدراً كافياً من عوامل الضغط والعناصر المؤيدة لها في المنطقة. في الوقت ذاته يوجد في هذه الدول معارضون حقيقيون للغرب إلا أن أداء الحركات العربية الرافضة للوضع الراهن وماضيها يظهر أنها افتقرت الى التنظيم والتنسيق والرؤية الموحدة والقدرة على تعبئة الشارع بشكل دائم واستراتيجي، ولهذا السبب لا تخشى أميركا المعارضة المحلية للحكومات العربية بل تكتفي بمراقبة تحركاتها وضبطها بالتعاون مع حكوماتها. من هنا فإن الظروف الداخلية للدول العربية، ووضع حدة الأزمات وتصعيدها في منطقة جنوب ايران، وابقاء هذا الوضع على ما هو عليه، ومصالح الغرب، إضافة الى غياب المعارضة الحقيقية المنظمة، كلها أمور تلقي بظلالها على الوضع الحالي.
إذا ساقتنا النتائج والمعلومات والمسارات الآنفة الذكر الى هذا النوع من الاستنتاج فليس من الحكمة أن تعتمد ايران على هذه الدول بصفتها شريكاً أمنياً وسياسياً، ففي علم السياسة هناك فرق حقيقي بين الائتلاف والتعاون، إذ لا تستطيع هذه الدول ان تقدم عوناً حقيقياً للأمن القومي ومسيرة التنمية الاقتصادية الايرانية، فضلاً عن ان انعدام الأمن في الداخل، وغياب الاستقرار على صعيد الحكومات فيها يمثلان بحد ذاتهما اثنين من عوامل عدم استقرار المنطقة الواقعة جنوب ايران. ان اقامة علاقات استراتيجية مع دول هذا وضعها ليس لها مبرر في العلاقات الدولية، بل ان عدم الاستقرار في الدول المشاطئة للخليج وفي العراق وجمهورية آذربيجان وأفغانستان جعل ايران تتحمل تكاليف باهظة لتوفير الأمن.
غير ان التعاون يمكن له تغيير صورة ايران لدى هذه الدول، كما ان الاحتفاظ بعلاقات ديبلوماسية بالمستوى الطبيعي سيؤثر في الحد من التوتر وازالة النظرة الخاطئة حول الوضع الداخلي في ايران، وهكذا هي أهداف سياستها الخارجية. وتتحقق صيغ التعاون الاقليمي مع دولة أو أكثر عندما تتوافر لديها القدرة والثقة بالنفس. من هنا فإن افتقار المنطقة الواقعة جنوب ايران الى الاستقرار اللازم يقلل من احتمالات لجوء طهران الى ايجاد تركيبة اقليمية وتحالف وتعاون استراتيجي معها.
ان أوضاع الدول الواقعة الى الجنوب من ايران ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالصراع العربي - الاسرائيلي، وأي تغيير في هذا النزاع من شأنه أن يؤثر في طبيعة العلاقات الايرانية - العربية. ... وفي المقابل فإن تزايد قوة اسرائيل الاقتصادية وتفردها في منطقة الشرق الأوسط أوجد تطورات جديدة لها انعكاساتها الكبيرة ليس على العلاقات العربية - الاسرائيلية وانما حتى على علاقات ايران مع الدول العربية الواقعة الى الجنوب منها.
من التطورات الأساسية في منطقة الشرق الأوسط" العلاقات الجديدة بين اسرائيل وتركيا. فمن بين الثوابت النظرية لحكام اسرائيل ان الصراع العربي - الاسرائيلي لن ينتهي أبداً، وان عملية المفاوضات مع العرب هي نوع من الحرب الباردة، ومن أجل ازالة صورة التناقض والخلاف بين العرب والاسرائيليين بادر قادة اسرائيل ومنذ أواسط ستينات القرن الماضي الى اعتماد نظرية التهميش القائمة على التقارب مع دول غير عربية في المنطقة كإيران وتركيا وأثيوبيا، كي تستطيع اسرائيل بهذا التقارب الحصول على المزيد من التنازلات وممارسة المزيد من الضغط على العرب. على هذا الأساس قامت العلاقات بين ايران واسرائيل قبل الثورة الإسلامية، لكن الأخيرة حولت وجهتها تدريجاً الى تركيا بعد الثورة الإسلامية حتى صار تعاون الاثنين في آخر تسعينات القرن العشرين في شكل علاقة استراتيجية ضد العرب والى حد ما ضد ايران، أما تركيا فاستثمرت هذه العلاقة للحصول على المزيد من الامتيازات من أميركا، وكذلك الظهور امام أوروبا بحلة أكثر غربية.
لقد غيرت العلاقات الاسرائيلية - التركية من توازن القوى في المنطقة، خصوصاً بعد التوقيع على اتفاقي عامي 1994 و1996 اللذين تناولا بالأساس قضايا أمنية وعسكرية، فيما بقي بعض مواد هاذين الاتفاقين سرياً. وبمقتضى الاتفاقين تسمح أنقره لقوات الجو الاسرائيلية بالتدرب على أراضيها. بل ذكر تقرير أن في إمكان اسرائيل الإفادة من الأراضي التركية نقطة انطلاق لشن غارات جوية محتملة ضد ايران. وكرد فعل على الاتفاقين اعتبرت الولايات المتحدة انهما "تعاون بين ديموقراطيتين". وقالت دراسات ان الرغبة بقيام عمل استراتيجي بين الاثنين ظهر اولاً من الجانب التركي وليس الإسرائيلي. فالسياسة الخارجية التركية التي يحدد الجيش مسيرتها تصب في الغالب باتجاه المصالح والأولويات الغربية، فقد عزل اربكان، وسلبت الشرعية من حزب الرفاه بقرار من الجيش خلال شهرين، فيما وصف مثقف تركي إبعاد حزب الرفاه عن السلطة بأنه "انقلاب حداثوي".
لكن تركيا فقدت اهميتها الأمنية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، كما ان عدم موافقة الاتحاد الأوروبي على انضمامها إليه بصورة رسمية ادى الى مواجهة مستمرة بين انقره والزعماء الأوروبيين، فضلاً عن ان مجموعات الضغط الأرمنية واليونانية في الولايات المتحدة قامت بنشاطات واسعة للحيلولة دون بيع الأسلحة الأميركية الى تركيا الى الحد الذي واجهت في اوائل تسعينات القرن العشرين ازمات حادة مع مجلس النواب الأميركي. ومن اجل إحباط المحاولات الرامية الى تهميش الدور التركي، سعت المؤسسة العسكرية، وهي احد المعنيين في رسم السياسة الخارجية التركية، الى إيجاد تحالف استراتيجي مع اسرائيل لكي تحظى بمكانة جديدة على صعيد المنطقة، وتستفيد في الوقت نفسه من نفوذ يهود اميركا في مجلس نوابها.
وتشهد القوة الإسرائيلية في المقابل تنامياً مطرداً في الشرق الأوسط، وترى اسرائيل ان العراق وإيران هما محورا المعارضة الرئيسيين... فإيران لا تمتلك القوة فحسب، بل رفضها إسرائيل جاد وبصورة علنية، فيما معارضة العراق إسرائيل تحمل طابعاً سياسياً وتكتيكياً وليس ايديولوجياً، كما هي الحال بالنسبة الى الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وبذلك يمكن بحسب وجهة النظر الإسرائيلية إدارة الأزمة مع العراق، إذ في إمكانها فرض سيطرتها العسكرية والأمنية عليه إذا استطاعت تقسيمه وتحجيم قوته الكامنة والعسكرية. غير ان مشاعر القلق الإسرائيلية انخفضت الى حد كبير بعد ان عمقت حرب الخليج الثانية من تبعية العراق والعالم العربي للولايات المتحدة. فسياسة اسرائيل في المنطقة تصب في مصب واحد مع جملة السياسات الأميركية، وهي تقوم على اساسين: الأول، إضعاف العراق بصورة مستمرة، والثاني: تشجيع واشنطن على بيع الأسلحة للدول العربية وتأمين مصالح وزارة الدفاع الأميركية، وبالتالي تفرض اسرائيل هيمنتها على منطقة الشرق الأوسط من طريق الغرب من جهة، وتمهّد للوجود العسكري والأمني الأميركي في العالم العربي من جهة اخرى، وكذلك تؤمن حاجة اميركا الاستراتيجية للنفط من جهة ثالثة.
إن ايران تمثل قضية اسرائيل الأولى في الشرق الأوسط، فإيران دولة كبيرة ذات ثروات مادية ضخمة وقدرات انسانية، والأهم من ذلك تؤمن بإيديولوجية وأفكار تتعارض تماماً مع مصالح اسرائيل. كما ان الجمهورية الإسلامية الإيرانية لا تنطلق في قراراتها من اطار اقليمي، بل من عمق حركة التجديد ومسيرة التكامل الفكري والإيديولوجي داخلها، فإذا أراد الجيل الثاني للثورة ان يتعامل مع قضية اسرائيل فإنه سيتعامل معها على الأقل من منطلق الابتعاد عنها وخارج نطاق الاتفاق الشامل، وبالتالي ستبقى المواجهة قائمة بين ايران وإسرائيل. إن الجماعات المتدينة والمحافظة التي تؤمن بالإسلام السياسي في ايران ستحتفظ بوجودها ودورها، ولن تسمح للشريحة الحاكمة التي من المحتمل ان تتسنم كرسي القدرة في المستقبل بالتوصل الى اي اتفاق استراتيجي مع اسرائيل، ومن هذه الزاوية فإن ايران تعد خطراً حقيقياً على اسرائيل وأمنها.
انتهجت اسرائيل استراتيجيات مختلفة لمواجهة ايران، اولها وأهمها: الحؤول دون حصول اي تقارب بين الإدارة الأميركية وإيران، لأن مثل هذا التقارب يمكن ان يفتح الباب لإيران بإقامة علاقات وإن كانت صدامية مع قوة عالمية، لكنها ستمنحها قدرة على المساومة مع واشنطن، والاعتراف بمكانة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وإيران ترفض الوجود الإسرائيلي. ان التأكيد ان ايران بصفتها خطراً إقليمياً كبيراً ومعارضاً للمصالح الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، وأنها خطر يهدد امن العالم العربي، ويمنع تحقيق تقدم في عملية السلام بين اسرائيل والعرب، هو جزء من هذه الاستراتيجية ليس على صعيد الأوساط السياسية والأمن الداخلي في اميركا، بل هي جزء من الحملة الإعلامية العالمية. لقد بات من الواضح ودونما اي شك ان اسرائيل هي المحور الأول في رسم السياسة الخارجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، حيث لا يستطيع اي مسؤول او مشرع اميركي ان يتخذ موقفاً او قراراً يتعارض والمصالح المعترف بها من اسرائيل ومجاميع الضغط اليهودية هناك.
وتتمثل استراتيجية اسرائيل التالية في الإيحاء بأن ايران اكبر خطر اقليمي، فالمبتكر الرئيس لفكرة احتواء واشنطن المزدوج لكل من ايران والعراق هو مارتن انديك الذي ترأس في واشنطن اضخم وأقوى مؤسسة بحثية حول الشرق الأوسط تدعمها اسرائيل وتمولها، ومن ثم شغل منصب مساعد وزير الخارجية قبل ان يعين سفيراً لدى اسرائيل. كرس انديك نشاطه لكي تجرى السياسة الخارجية الأميركية باتجاه تحقيق مصالح اسرائيل الأمنية، من خلال تسليط الضوء على العراق وإيران من الناحيتين العسكرية والسياسية، وعمل حينما كان في منصبه التنفيذي في وزارة الخارجية الأميركية على ان تنظر السلطتان التنفيذية والتشريعية الى ايران كخطر حقيقي، خصوصاً اذا امتلكت اسلحة الدمار الشامل والأسلحة النووية وهو ما تهدف إليه اسرائيل، وفي الواقع ان سياسة اميركا هذه ظلت موائمة لمواقف اسرائيل طوال فترة حكم بيل كلينتون.
اما على الصعيد الإقليمي فحاولت اسرائيل ان تبعد ما بين ايران والدول العربية، كما حاولت القضاء على كل ارضية لإقامة استراتيجية وعلاقات مستقرة، لا سيما بين دول جانبي الخليج. لقد عد المحللون المصريون الضغوط الأميركية والإسرائيلية سبباً من اسباب عدم تحسن العلاقات الإيرانية - المصرية. ويذهبون الى ان التعاون ولو على الصعيد الديبلوماسي بين القاهرة وطهران من شأنه ان يترك بصماته على التوازن النسبي للقوى في المنطقة. فمصر والسعودية من الدول العربية المهمة التي سعت الى إقامة علاقات مستقرة مع ايران، لكنهما لم تحققا بعد نجاحاً ملموساً بسبب ما تواجهانه من معارضة في الداخل وبسبب الضغوط الأميركية والإسرائيلية ايضاً. إن بث اخبار وصور سلبية عن ايران وخلق مناخ يفتقر الى الثقة ويشوبه التشاؤم وإثارة الخلافات بين ايران والعرب، هي من الأمور التي اثرت بشكل ملحوظ في فكر العرب وسلوكهم تجاه ايران. فلو امعنّا النظر في العلاقات الإيرانية - العربية سنجد ان ايران لا تمتلك علاقات يمكن الركون إليها مع اي من الدول العربية سوى سورية والتي هي علاقات من نوع خاص، بل ان علاقات ايران بالعالم العربي في مرحلة ما بعد الثورة الإسلامية تعد من اكثر العلاقات الخارجية الإيرانية تلاطماً، ولا تزال هناك ترسبات من تلك التصورات الخاطئة وحالات سوء الظن عالقة بين الجانبين، وحتى إن رجعنا الى مرحلة ما قبل الثورة الإسلامية لعرفنا أن العلاقات العربية - الإيرانية كانت مؤطرة في دائرة اكبر تعرف باسم "استراتيجية اميركا في منطقة الشرق الأوسط". إن ايران تشعر بالغربة والبعد عن العرب سواء من الناحية الطائفية وحتى السياسية، وكما ذكرنا فإن ازمة الشرعية والأمن في العالم العربي عمقت دوماً الشرخ السياسي - الثقافي، علماً ان الثقافة والأمن يمثلان ركيزة هذا التركيب. ونحن نعاني مصاعب مع العالم العربي في كلا البعدين. لقد فقدت ايران قوتها وتناسبها الإقليمي مقارنة بالدول العربية، وذلك بمقتضى استقلالها وخصائصها التاريخية وما تعانيه من مشكلات اقتصادية. وبطبيعة الحال سيتغير سلوك دول المنطقة وتعاملها مع ايران اذا ما زادت الأخيرة من قدراتها الاقتصادية والعسكرية.
ان الحكام العرب سيواجهون ازمات اقتصادية وسياسية واجتماعية، والظروف الراهنة في ايران لا تسمح لها بالتدخل لتوجيه هذه الأزمات في وقت ستمارس اميركا دوراً رئيساً في الحفاظ على الوضع القائم في العالم العربي وتحديد طبيعة الأنظمة الحاكمة. إن هوية ايران السياسية وحيوية المجتمع الإيراني والقدرات المتعددة جغرافياً وتاريخياً واجتماعياً، ميزتها عن سائر بلدان العالم العربي، الأمر الذي جعل العرب ينظرون الى ايران على الأقل بأنها جار لا يوثق به، وانها شريك سياسي مشبوه، فيما تنظر دول عربية الى ايران على انها عدو.
ان التركيب الإقليمي والائتلاف يصبحان ممكنين إذا توافر تناغم في النظم السياسية والهياكل البنيوية والنظام الثقافي، في حين عملت التطورات التي شهدتها ايران بعد الثورة الإسلامية على تعميق الشرخ التاريخي، وأن تأييد مجموعات قليلة من الشعوب العربية لمواقف ايران وأهدافها وبنيتها السياسية يجب ألا يؤدي الى تبلور تصور خاطئ لدى ساسة ايران بوجود قاعدة شعبية لهم في تلك البلدان. وحتى إن حدث في المستقبل، وفي ظل ظروف خاصة، ان يكون لايران علاقات تصادمية مع أميركا، كما هو الحال بين الصين وأميركا، فإن علاقات طهران بالعالم العربي ستكون على الأقل في حال تذبذب.
في الطرف المقابل، يعاني العالم العربي من مشكلات عميقة، فالتطورات التي أعقبت حرب الخليج الثانية في فرض أميركا هيمنتها قانونياً وسياسياً على العراق عمقت السيطرة الغربية والأميركية تحديداً على مستقبل العراق، لذا فإن علاقات ايران مع اي حكومة عراقية ستتأثر بعلاقة العراق مع الغرب وأميركا، كما سيكون لاسرائيل من بعد الولايات المتحدة نفوذ على حكومة العراق اكثر من اي دولة عربية أخرى.
وخلاصة القول، ان ايران لا تستطيع تعليق آمالها على تحالف او تكتل اقليمي مع الدول الواقعة الى الجنوب منها، وتتصور ان رفع مستوى التعاون السياسي، وتنشيط الديبلوماسية بين جانبي الخليج الفارسي من شأنهما ان يزيلا اسباب سوء التفاهم والتباين الشاسع الثقافي والقومي. ان منطقة الشرق الاوسط لن تشهد على مدى السنوات العشر او العشرين المقبلة على الاقل اي تحالف اقليمي لما تواجهه من مشكلات جادة في البناء والتنمية الاقتصادية والسياسية، فيما ستستغل الولايات المتحدة بأقصى ما يمكن الخلافات الموجودة، ومع ان التعاون والتمهيد المناسب له والعمل على زيادة الثقة بين الدول العربية وايران تعد امراً ضرورياً، وان النهوض بمستوى العلاقات وتذليل سوء التفاهم بين ايران ومصر والسعودية خطوة استراتيجية، الا ان هذا الوضع يرتبط بعوامل كثيرة لا تتحكم فيها ايران، وبعوامل ومتغيرات تحتاج الى وقت واجراءات حقيقية على مدى عقد.
لقد تحسنت اجواء الثقة بين العالم العربي وايران في فترة حكم الرئيس محمد خاتمي، لكن النقاط الاساسية بين ايران وهذه الدول تتأثر بعوامل ثابتة لا ترتبط كثيراً بالجانبين الاصليين، فمصالح اسرائيل في الشرق الاوسط، ومصالح الولايات المتحدة في العالم العربي ستؤثر وفي شكل كبير في طبيعة العلاقات بين ايران والدول الواقعة الى الجنوب منها. في السياق ذاته، ارتفع حجم الوجود العسكري الاميركي في الخليج في فترة ما بعد حرب الخليج الثانية الى عشرة اضعاف، وبما ان الدول العربية تعاني بنية تحتية ضعيفة، فإن واشنطن تبنت الجزء الأهم في عملية الحفاظ على الأمن الاقليمي لهذه البلدان. ...
بادرت الولايات المتحدة الى ارساء قواعد انظمة سياسية في آسيا الوسطى والقوقاز وشرق اوروبا كي يمكنها السيطرة عليها سياسياً، لكن العالم العربي تحت تصرفها وهي ليست معنية بايجاد تغيير فيه. ان العناصر الليبرالية والمثقفة والتحررية في العالم العربي إما ان تكون ذات ماض يساري او قومي، واميركا لا تثق بأي من هذين الفريقين.
على هذا الاساس يستبعد حصول تغيير في العالم العربي على مدى العقود المقبلة على الاقل، وذلك بسبب المشكلات البنيوية، وثقافة العرب السياسية، وعدم رغبة الولايات المتحدة بمثل هذا التغيير، فضلاً عن معارضة شركات إنتاج النفط الكبرى لأي تغيير بنيوي، كما ان شركات الاسلحة ترغب في استمرار الازمة الحالية وغياب الثقة وبقاء حالات التهديد.
ما نستنتجه من هذه التحليلات هو ان تطوير العلاقات مع الدول الواقعة الى الجنوب من ايران، وبما تتسم به من صفات، وما تعيشه من ظروف، لا يدعم ايران اقتصادياً ولا أمنياً ولا ايديولوجياً. بينما رفع مستوى العلاقات السياسية والاجتماعية من شأنه ان يقلل من سوء الظن بين الجانبين، علماً ان العلاقات البنيوية للعالم العربي مع الولايات المتحدة ستؤثر بلا شك في ابقاء الوضع الموجود على حاله.
لقد تزايد البعد الدولي لمنطقة الشرق الاوسط خلال الاعوام العشرين الفائتة، وهذا العامل يحجم الى حد كبير من قدرة الدول على اقامة علاقات اقليمية مبنية على النيات الحسنة، والمقصود من تزايد البعد الدولي هنا هو زيادة تدخل القوى الاجنبية في عملية اتخاذ القرار. فمنذ تقلص نشاطات بريطانيا في الشرق الاوسط في اوائل السبعينات من القرن العشرين، وغياب روسيا تماماً عن المنطقة، اصبحت الولايات المتحدة هي المخرج الرئيس للسياسة الدولية فيها. والسؤال الذي يرد الى الذهن هنا هو: في ظل هذه المعادلة غير المتوازنة، الى اي حد تستطيع دولة كايران ان تقيم تعاوناً استراتيجياً مع العالم العربي؟ ان التكتل او الائتلاف يؤتي أكله اذا كان لاعضائه الأساسيين والنشطاء على الاقل دور مفصلي في عملية اتخاذ القرار، ويستفيدون من بعضهم بعضاً. ... لقد اظهر كثير من الدول في اوساطها الاكاديمية والسياسية بأن علاقات ايران مع العالم العربي لن تتحسن على صعيد الواقع طالما ظلت ايران والولايات المتحدة تقفان بوجه بعضهما بعضاً، وكل ما سيحدث انما هو في اطار شحن الاجواء واثارة الصخب الاعلامي، والاجراءات الديبلوماسية الظاهرية، ان رغبة الولايات المتحدة الشديدة في تطبيع العلاقات مع ايران انما بهدف ازالة العقبة الايرانية من المعادلات الاقليمية، اذ يمكن لواشنطن من خلال تطبيع تلك العلاقات خلط الاوراق بهدف احتواء المنطقة والافادة من طهران كعامل لايجاد التوازن بين ايران والعرب واسرائىل وتركيا من جهة، وبين روسيا وايران في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز من جهة اخرى، فضلاً عن تخفيف حدة المعارضة الاسلامية والمثقفة للوجود الاميركي ولنفوذه في العالم الاسلامي. ونظراً الى ما تمتلكه الولايات المتحدة من إمكانات إعلامية واقتصادية وسياسية واسعة فهي تستطيع ان تستثمر هذا التغيير كثيراً، وفي مثل هذه الاجواء يصبح الائتلاف مع العالم العربي والمنطقة الواقعة الى الجنوب وجنوب غربي ايران منطقياً ومعقولاً.
في اي حال، إن الائتلاف الاقليمي في المنطقة الجنوبية لن يضيف للموقع الاستراتيجي الايراني شيئاً سواء عملت ايران بصورة مستقلة ام تحسنت علاقاتها مع واشنطن التي تعد أبرز قوة نافذة في العالم العربي، وربما لن يكون هناك عامل افضل من ظروف ايران الداخلية لتحسين المكانة الاقليمية للجمهورية الاسلامية الايرانية وتغيير الافكار والتصورات السلبية والخاطئة عنها وعن اهدافها وتوجهاتها.
* كاتب ايراني مدير مركز الأبحاث العلمية للشرق الأوسط في طهران المقرب من وزارة الخارجية، ورئيس تحرير فصلية "ديسكورس" بالإنكليزية. والنص من كتاب له في عنوان "السياسة الخارجية الايرانية" ستصدر ترجمته العربية قريباً عن مركز الدراسات الاستراتيجية في بيروت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.