اطلالات سعيد عقل التلفزيونية باتت تسيء اليه أكثر مما تخدمه. هذا الشاعر الكبير لم يعد يحتاج الى الشهرة ولا الى الإعلام بعدما عاش "المجد" وعيناه مفتوحتان. و"المجد" هذا صنعته ظاهرته أكثر مما صنعه شعره. فهو الأقل مبيعاً بين الشعراء الروّاد ولأسباب عدّة وفي مقدمها نزعته اللبنانية المغالية التي أوصدت أمامه الأبواب العربية... وان كان معروفاً أن سعيد عقل "حكواتي" بامتياز في الجلسات التي تُعقد في منازل "أتباعه" وفي المطاعم أحياناً، فهو في اطلالاته التلفزيونية لا يقلّ "إطناباً" و"لغواً"، خصوصاً عندما يعجز محاوره عن محاصرته وضبط الحديث معه. فهو لا يحتاج الى من يسأله كي يجيب، بل هو يملك كلاماً جاهزاً لم يفقده التكرارُ طرافته وعنجهيته، وهاتان هما أيضاً من خصال سعيد عقل نفسه. فالشاعر فيه لا ينفصل عن الشخص، وأسطورته تقوم على نتاجه مثلما تقوم على شخصيته. وقد ابتدع سعيد عقل للشاعر في المعنى المطلق صورة نادراً ما عرفها الشعراء. إنها صورة محفوفة بالمجد والبطولة والفخر والعزّة والفرح، وليست أبداً صورة رومانطيقية أو انطوائية ملؤها الألم والكآبة والعزلة و"اللعنة"... انها صورة الشاعر الذي يطمح أن يكون حاكماً وبطلاً وفارساً، وقد باتت صورة منقرضة تماماً بعدما خرج الشاعر الحديث عن جماعته أو قبيلته في معنى ما وأصبح صوته العالي صوتاً خفيضاً وهامشياً... الإطلالة الأخيرة للشاعر سعيد عقل مع الزميل زاهي وهبي المستقبل أساءت اليه كثيراً وأبدته في حال من "الهذيان" الثقافي والكبرياء والنرجسية غير السويّة. وعوض أن يساعده زميلنا كمحاور، على التخفيف من غلوائه الدون كيشوتية راح يثير هواجسه مدغدغاً شعوره بالعظمة وحفيظته في بعض الأحيان. هكذا مثلاً حرّض الزميل وهبي - الذي نسي أنه شاعر أيضاً - سعيد عقل على شتم فرويد وماركس وبيكاسو وقصيدة النثر والفن الحديث، وشجعه على مدح نفسه مدحاً مرضياً لم يجرؤ أحد من العظام على القيام به. ونظراً الى نرجسيته الكبيرة كان سعيد عقل يصدّق الشهادات التي توالت هاتفياً عليه حاملة المزيد من المدح والتفخيم والتعظيم. تحدث سعيد عقل طبعاً ومن غير هوادة عن لبنان العظمة ولبنان الفينيقي الذي غزا العالم ولبنان المخترع والمكتشف، متغاضياً كعادته عن الانحطاط الذي بلغ في لبنان أسفل درك، ومتجاهلاً الأزمات التاريخية التي ما زال لبنان يتخبّط فيها... فهو يعيش في لبنان لم يعد موجوداً ولا أحد يدري ان وجد أصلاً، لبنان أسطوري أو خرافي طالما أمعن في التغنّي به وفي تقريظه بينما لبنان يعاني ما يعاني من انفصام وبؤس وتراجع... قد يحسد الكثيرون سعيد عقل على هناءته وسعادته وعلى غفلته التي تشبه غفلة أهل الكهف. فما من معاناة لديه وما من مكابدة وما من ألم ويأس وتشاؤم... ولكنهم طبعاً لن يحسدوه على جرأته في القدح العشوائي والذمّ الأعمى والتزوير التاريخي والتشويه و"التخريف"... هل يمكن شتم فرويد وكأنّه متطفل صغير على علم النفس؟ هل يمكن إلغاء ماركس وفلسفته برأي هو أقرب الى الشتيمة؟ هل يمكن السخرية من الرسام بيكاسو رائد الفن التكعيبي، واعتباره مزوّراً كذاباً؟ لم يعد من اللائق استغلال سعيد عقل تلفزيونياً بغية تحقيق "خبطة" اعلامية. فالشاعر الكبير الذي تخطى التسعين والذي ترتجف يداه بشدّة، يجب ألا يصبح "مضحكة" أو "مهزأة" على مرأى من الجمهور الكبير وعلى مسمع منه. فالجميع يعلم أن سعيد عقل لا يخشى الكلام، في أيّ حقل كان ما دام لا عواهن للكلام لديه. ولا يبالي شاعرنا، سواء أخطأ في كلامه أم أصاب، فهو ينسى كثيراً ويتناسى قليلاً ويهاجم ويشتم وينتقد من غير تروٍّ ويمدح نفسه جهاراً من دون أن يبصر القذى التي في عينه. يجب فعلاً احترام سعيد عقل وعدم التشهير به بلسانه هو نفسه، وبآرائه ومواقفه. وقد ورّطه بعض الإعلاميين سابقاً بما أساء اليه سياسياً وشعرياً وثقافياً... فالارتجال الكلامي وخصوصاً لدى شاعر مثل سعيد عقل قد يجلب الكثير من المتاعب وقد يوقعه في أشراك كثيرة... وقد دفع سعيد عقل غالياً ثمن بعض مواقفه العنجهية والمتهورة ! يجب احترام سعيد عقل في شيخوخته، خصوصاً في شيخوخته التي لا يعترف هو بها... فهذا الشاعر الكبير الذي كان في أحيان كثيرة عدوّ نفسه يجب ألا يزيده الإعلام عداء لنفسه. دعوا سعيد عقل يستريح ودعوا صورته الجميلة وحدها تستقر في ذاكرة الجمهور...