يكاد لا يمر يوم إلا ويتعزز لدى القارئ الاحساس بمشكلة طباعة أو نشر الكتب العربية في المنافي، والكتب الشعرية منها على وجه الخصوص. هذا إضافة الى أزمة انتقال الكتاب في البلدان العربية وتباين شروط السماح به من بلد الى آخر. فما الذي ينتظره الشاعر من كتابه بعد نشره سوى أن يكون متاحاً للقراءة قدر الامكان؟ لتضاف قساوة المنفى إلى قساوة النسيان. وأكثر ما طاول طبع الكتاب ونشره في المنفى الكتّاب والشعراء العراقيين. وكثير ممن تلتقي بهم يفاجئونك بأنهم طبعوا ونشروا كتباً ولم تصل، ليزداد العبء على الكاتب العراقي أضعافاً وهي أزمة حادة تماثل جحيم المنفى. وحتى أيام قليلة وقعنا، بالمصادفة، على كتاب شعري للشاعر العراقي فاضل السلطاني "محترقاً بالمياه" وقد صدر عن دار الوراق في لندن. والذي يزيد الأمر مأسوية أن كتاب الشاعر فاضل السلطاني يمتلئ بدلالة قساوة الاغتراب ومعاناتها، أي أن المنفيَين سيطرا على حركة الكتاب العربي المغترب، فلا يجني "الجنتين" شاعرٌ ! ولا تخرج القصيدة الا لتزداد ابتعاداً واغتراباً. وكوننا أشرنا الى قساوة المنفى وبوح الشاعر بمعاناته سنبدأ بها، لعل النسيان الذي مر على الكتاب لا يعود بأثر رجعي أبداً. من صفحة الكتاب الأولى يبادر الشاعر، بطريقته، الى اعلان الذات الشعرية في اضطرام حاد مع العالم الخارجي مسمياً ومحدداً شكل أو مكان الذات تلك: "صباح الخسارات/ طبت صباحاً/ وأنت تجمعني/ صباح الغريب القتيل/ صباحاً جميلاً"، الا ان هذه الغربة الافتتاحية لم تكن أكثر من تمهيد لما هو أقسى وأشد، حيث يحول الشاعرُ النفيَ الى حركة دائرية تمتد من ذاته هو الى غياب أسطوري للآخرين، في نوع من السوداوية الحادة إثر انعدام الأمل وتوطن الكآبة. ففي قصيدة "يوماً ما" يؤكد السلطاني انه سيغادر غربته عائداً الى البيت، ولكن يفاجئ القارئَ بأن الوقت تأخر ولن يعرفه أحد لتنتهي القصيدة بأن مغادرته المنفى ستكون... الى الموت: "كانوا بالأمس هنا/ واليوم/ يوماً ما/ سأغادر هذا المنفى/ للموت". وكذلك الأغنية التي ظلت "تتشبث بالجدران" في "البلاد التي رحلت" لتموت "في بلاد أخرى" ومع هذا "طوال الحياة/ ظلت الأغنية/ تتشبث بالجدران". تنتمي قصيدة الشاعر السلطاني الى المكان الذي يحيل القارئ، بالضرورة، الى "سادية" غير متعمدة، على اعتبار استمتاع القارئ بألم الشاعر، استمتاعاً شعرياً، ولا شك، وهذه السادية مصير القراءة في كل الأحوال، وهي ميزة الشعر التي تحول توتّر الشاعر وحساسيته وألمه الى مجال للتذوق الشعري. كما في قصيدة "يوماً ما" اللافتة. هذا ما جعل دمج منهج التحليل النفسي بالنقد الأدبي يتجه الى اعتبار القارئ مشروعاً سادياً مؤجلاً. فأي خسارة ستتجمّع فوق الخسارات التي افتتح بها الشاعر كتابه؟ طباعة الكتاب في المنفى، وبقاء الكتاب في المنفى؟ أم انه سيسمح للقارئ بالتسريع من تشكله بصفته مشروعاً سادياً سيستمتع بالشعرية ويترك ما تبقى للشاعر؟ هنا لا يمكن الا ان نتذكر، وبقوة، أن الشاعر معدنه الألم. في استخدامه التفعيلة والنثر استطاع الشاعر منح دلالاته مجالاً أوسع للصوغ، فما يمتنع هنا يسهل هناك، وما يمكن أن تمنحه موسيقى الألفاظ الخارجية، تقدر على عكسه الموسيقى الداخلية في النثر، وهو ما يصور التنقل ليس بين مستوى عاطفي وآخر، وحسب، بل بين أداة تعبيرية وأخرى ليحصل القارئ على اشتغال لغوي متماسك يعتمد الاقتصاد في استخدام التنامي حتى لا تكون التغيرات الا في القدر الأكبر من الحرص على بناء الجملة. وهذا نقرأه في قصيدة "نزهة في المغرب العربي" التي تصعّد من مدلول المنفى ليصبح تاريخاً عميقاً لا يلتفت الى مصدره في الذات المتكلمة، بل يكون سؤالاً معرفياً شعرياً عبر افتتاح مثير: "هل بلغتَ شواطئ طنجة من أفقها المشرقي/ فلم ترك المغربيات؟/ أم تراك سلكتَ طريق الصخور سبيلاً/ وضيّعتَ خطوكَ بين السراة؟". هذا الافتتاح الساحر والذي يذكر بجماليات الشعر العربي التي نفتقدها في أكثر من مكان، هو بمثابة الدوران الطقسي غير المعيَّن بل المستدير الى مخاطب غائب يعرفه الشعر العربي كثيراً والذي قد يكون الشاعر نفسه. ومن خلال سحرية الافتتاح اللافتة تبدأ الحركة الدائرية للنص باتخاذ مساحة تؤدي الى تجاور في المكان على اعتبار ان الذات وعاء لا مرئي لبنىً مكوِّنة أولى على شكل لغز: "أم تراك/ ما ارتحلتَ ولا هم يرتحلون؟/ قطرات من الاطلسيّ على مفرقي/ ربما كان ماء الفرات". وحدة المكان مستمدة من وحدة الذات وليس التغير العابر في الموقع سوى رحلة جوّال - أو منفي - في ذاته وليست اللغة الا جزءاً من هذه الذات التي استطاعت أن تسقط الماء من جهة الشرق العراق الى الشمال الافريقي عبر حركة تولّت اللغة تبريرها من خلال آلية الحوار الداخلي بين الشاعر ونفسه، ومن خلال إيقاع تفعيلي يسهل التنقل والارتباط السببي مع أن الحدث الواقعي غير ممكن. هذا هو الشعر. الحركة الدائرية تتحول لولبيةً، في العمق، في مرور أركيولوجي في طبقات التاريخ: "تذكر ما قلته عند أبواب أوروك حين أطبق الوحشُ/ حين اعتلينا الجدار لبيت التراب... أتذكر ما فعلته بالبلاد أنانا؟". ولكي تكتمل العلاقة بين الحركة الداخلية والخارجية تنتهي القصيدة بالماء ويسمّيه "انه الوجد للماء" حيث لم يعد ثمة شك بوحدة الذات التي عكست وحدتها على تناقض المكان والزمان عبر "تطهرية" مرئية موحَّدة بالماء عنصراً أول تتكئ عليه القصيدة اتكاء بنيوياً مانحاً التماسك والعلاقات. في المقاطع المكتوبة نثراً شعرياً تقوى المساحة التعبيرية لدى الشاعر، ففي هذا المكان المقدِّم للأدوات المتاحة بوسعه أن يخضع المدلول لآلية التقابل: "ما زال هذا المنفى فتى قاصراً/ فكفي عن إغوائه/ أيتها المدن الحكيمة". وكذلك في قصيدة "زيارتان" حيث يقوم السياب بزيارة حلمية الى الشاعر ويطوف في غرفته ويحدثه. ثم يبدّل الشاعر من مواصفات أبطال المشهد فيأخذ الميت صفة الحي، والعكس بالعكس، ليقول السياب: "أنت أيها المنافق يا أخي/ ألم تخضرّ جثتك بعد؟". وهو لا يكشف وحسب عوالم النفي والاحساس العنيف بالعزلة بل يجعل من التذكر والافتقاد بنية عاطفية إضافة الى كونها نظاماً تعبيرياً وأدوات. كتاب فاضل السلطاني يجسد الحوار الداخلي والخارجي ويعكسهما في تداول التفعيلة والنثر، ويوظفهما في معنى الحضور والغياب في حركة الحفر وحركة الارتداد. ولعل التأخر في المجيء أفضل من عدم الحضور وهو ما يعذر القراءة والقارئ ويحوّل النسيان الى اعادة اكتشاف. ولتكن هذه القراءة حركة ارتدادية، في المقابل، باتجاه الكتاب وباتجاه الشعر، باتجاه الذات التي تستخدم أكثر من ناطق.