ثمة مناسبات تحتفل بها الأمم والشعوب لا يتجاوز عمرها فترة حكم أمير، أو عهد نظام حكم ما، أو حقبة تاريخية معينة، ثم ما تلبث ترحل عن ذاكرة الناس وتصبح في ارشيف الزمان. بالمقابل ثمة مناسبات أخرى تمر القرون تلو القرون عليها وهي"صامدة"كالاوتاد في مكانها تمخر على امتداد الأزمان في مراكب التاريخ وتتسع كالدوائر البحرية المتوالية في عرض الجغرافيا. أعياد"نوروز"الايرانية هي من النوع الثاني. فعمر هذه الأعياد التي تتجاوز ال 2500 عام كحد أدنى مدون لها عاصرت كل العهود الايرانية بامتياز منذ الاخمنيين والساسانيين قبل الاسلام مروراً بعهود الاسلام الراشدة والأموية والعباسية والسلجوقية والبويهية و... والعثمانية والصفوية والقاجارية والبهلوية وصولاً الى عهد الاسلام الخميني الحديث وأخيراً بعهديه الاصلاحي والمحافظ بامتياز أيضاً. فمنذ عهد الاخمينيين، والايرانيون كافة، بل معهم كل من ينتمي الى"الثقافة الايرانية"على امتداد الشرق الكبير، يحتفلون في يوم الحادي والعشرين من اذار مارس من كل عام في هذه السنة في العشرين منه باعتبار ان السنة الشمسية كبيسة هذا العام بعيدهم الوطني والقومي و"الديني"والذي يطلقون عليه اسم عيد ال"نوروز"أي اليوم الجديد باللغة الفارسية، حيث تتعطل الحياة الادارية والسياسية وكل الأنشطة الحكومية لمدة اسبوعين متتاليين تطغى خلالهما الحياة المدنية الأهلية الاجتماعية الشعبية على كل ما عداها ويكون"السفر"هو الحال الجامعة لحركة الفرد الايراني باتجاه الطبيعة وتعالي الروح وسموها عن الحياة الاعتيادية المترافقة مع ضجيج العمل اليومي طوال العام. ثمة من يرجح التأريخ لهذا اليوم بمثابة عيد وطني الى الأساطير الايرانية الفارسية القديمة في عهد انتشار دين زرادشت المجوسي الشهير. وثمة من يربط بداياته بالعائلة الحاكمة الملوكية الضاربة في تاريخ الحضارة الفارسية القديمة. وثمة من يعطي الفضل فيه للعلماء الذين اخترعوا التقويم الشمسي المرتبط بتلك الحضارة العريقة اعتماداً على تحولات الطبيعة والنظام الشمسي والأبراج الاثني عشر. وثمة من قرأ فيه ارتباطاً وثيقاً بمواقيت تحصيل الخراج من المزارعين وتنظيم المواسم الاقتصادية للامبراطورية الفارسية القديمة. لكنه مع ذلك كله فقد استقر منذ العهد السلجوقي وتحديداً منذ زمن جلال الدين ملك شاه أي في العام 468 ه. ليصبح احتفالاً شعبياً ثابتاً واسع الانتشار يبدأ مع فصل الربيع لا يتغير بتغير الملوك ولا المواسم الزراعية ولا التفسيرات النجومية كما كان يحصل من قبل، بل صار له توقيت رسمي ثابت يصادف في كل عام لحظة تحول الشمس من برج الحوت الى برج الحمل. ومنذ ذلك الحين وهذا العيد"القومي"الايراني يمتد ويتسع ليشمل أقواماً ومساحات"دينية"وعرقية وجغرافية ليصبح جزءاً لا يتجزأ من تراث ومناسبات العراق وسورية وتركيا وبلاد آسيا الوسطى والقوقاز وبلاد الأفغان وصولاً الى شبه القارة الهندية وحدود الصين العظيمة. ما هو جديد في أعياد"النوروز"لهذه السنة هو اعلان مجلس بلدية طهران الاسلامي"المحافظ"بأنه و"نزولاً عند رغبة الشعب"قرر اختيار 40 نقطة في طهران العاصمة لتكون مراكز لتنظيم احتفالات ليلة"الأربعاء الحمراء"الشعبية وذلك من"أجل التخفيف من الاضرار التي عادة ما تنجم عن الاحتفال بهذه المناسبة، وتأمين سلامة العامة". واحتفالات ليلة الثلثاء الاربعاء أو ما يسمى بالفارسية ب"جهار شنبه سوري"أي الاربعاء الحمراء والتي تقام في آخر ليلة للاربعاء من العام الشمسي الايراني، عبارة عن احتفالات شعبية عارمة تقام في كل الأزقة والشوارع وأماكن التجمع العامة عبر اشعال النيران والقفز فوقها، ويقال لتطهير الابدان والأرواح من الشرور، وهي جزء لا يتجزأ من فلسفة أعياد النوروز والربيع الايرانية، يرافقها بالطبع استعمال كل انواع المفرقعات، وهي فرصة يخرج فيها الشباب غالباً فتية وفتيات عن طورهم ليمارسوا درجة ما من درجات"الحرية"الاجتماعية تتفاوت من بلدة لبلدة ومدينة لمدينة واحياناً من حي لحي أو شارع لشارع. وعلاقة النار مع دين زرادشت معروفة للجميع هنا في ايران، وهي علاقة روحية ودينية توحيدية كما يقول اتباع زرادشت اذ انهم يقولون بأنها ترمز الى النور والضياء الرباني الأزلي، على الرغم من كل ما يشاع عنها في البلاد العربية بأنها ترمز الى عبادة"النار"بحد ذاتها مما يجعلها عرضة لشبهة الشرك! المهم في الموضوع بالنسبة لنا ليس الجانب العقيدي، بقدر ما نحن بصدد التأمل فيه من الجانب السياسي والاجتماعي والثقافي. فإن يعترف الاسلاميون محافظون واصلاحيون بأهمية هذا العيد ويقرون بضرورة العمل بمراسيمه كما قرر المجلس البلدي لطهران محافظ أو ان يذهب أحد رجالات الاصلاحيين ليقول بمناسبة مرور ثلاثة آلاف عام على ديانة زرادشت:"بأنه لا يمكن أن يتصور ايران من دون زرادشت ولا زرادشت من دون ايران"، كما ورد على لسان محمد علي ابطحي مساعد رئيس الجمهورية الايرانية قبل شهور، فإن ذلك يؤكد مسألة في غاية الأهمية وهي ان مناسبة كمناسبة نوروز وثقافة من نوع ثقافة زرادشت ورموز وسلوكيات و"عقائد"وأعراف وتقاليد عدة أخرى لدى شعوب أخرى، غالباً ما تبقى محفورة في ذاكرة الشعوب لا يمكن لأحد تجاوزها أو انكارها أو التطاول عليها تحت أي ذريعة كانت. لأنه مهما فعل وأياً كان الوقت الذي صرفه من أجل"تجميدها"لا بد أن يأتي الوقت الذي سيضطر للاعتراف بها والاقرار بها. لذلك فإن الأفضل والأنجع هو الاعتراف بها كما هي أولاً. ومن ثم العمل على"تشذيبها"أو"تهذيبها"في حال وجود ما يتعارض فيها مع عقائد أو ديانات أو فلسفات أرقى أو أشمل أو أحسن أو أفضل منها. وفي هذا السياق لا بد من الاشارة الى واحدة من أهم الميزات التي يمتاز بها الشعب الايراني ألا وهي"استيعابه"الكفوء والناجح بامتياز لكل ما يأتيه أو يرده من أفكار أو فلسفات أو ايديولوجيات أو عقائد، وهضمه لها ووضعها في بوتقة"ايرانيته"القوية والراسخة من دون أن يضطر لخوض المعارك الكبرى لمقاومتها بطريقة الاقصاء أو النفي التام. حتى في ما يتعلق ب"نوروز"نفسه، فقد حوله وبمرور الأيام والسنين الى"عقيدة"ثابتة تتكيف مع الاعصار والأزمنة والأنظمة الدينية والسياسية الحاكمة من دون ان يغير من جوهر نوروز في شيء. فنوروز زرادشتي كما هو اسلامي هو سني قبل العهد الصفوي، كما هو شيعي من بعده وهو محافظ كما هو اصلاحي، وهو ليبرالي كما هو ثوري. بل انه قادر على"تحويله"الى نوروز"للشرق الأوسط الكبير"كله ان اضطر الى ذلك، لكنه سيبقى هو ايرانياً ملتصقاً بالأرض التي ولد عليها والى الطبيعة ينتمي. هذه الميزة العظيمة التي تمتلكها الكثير من الأمم والشعوب ولا أظن انها مقتصرة على الشعب الايراني بالمناسبة. أي ميزة"الواقعية"في التعامل مع السنن الكبرى وظواهر التاريخ وحقائق الجغرافيا الدامغة، انما تتجلى في كثير من مسلكيات شعوب الأرض ولكن بأشكال وبمظاهر وتبلورات مختلفة. انما جوهرها القدرة على ممارسة قرار البقاء على رغم الاعاصير والطوفان، فالشعوب جميعاً"كل يوم هي في شأن"، وكل يوم من أيامها"نوروز"لا يستوعبه الا"الراسخون في علم الشعوب والأمم". ليس من بينهم دعاة"الشرق الأوسط الكبير"على الطريقة الاسرائيلية الأميركية، ولا حماة الشرق الأوسط القديم على طريقة صدام حسين وشركائه في الاستبداد والتبعية والطغيان. * كاتب متخصص في الشؤون الايرانية.