إذا كان الانطباع السائد حالياً لدى العديد من المحللين السياسيين والاقتصاديين على السواء، يوحي بأن النظام الليبي قد"انحاز اقتصادياً للانكلوساكسون"، تحديداً البريطانيين والأميركيين، على حساب الشركاء السابقين من اوروبيين لاتين وآريين وآسيويين، إلا أن الواقع يؤكد غير ذلك، فالعقود التي توزعها طرابلس الغرب اسبوعياً وبطريقة متوازنة بين الشركات العالمية والمتعددة الجنسيات، ليس فقط على صعيد القطاع النفطي، تثبت بأن التوجه يقضي بتنويع الشراكات وصولاً الى تنويع مصادر الدخل عبر فتح بعض القطاعات أمام الاستثمار الأجنبي. يدرك المسؤولون الليبيون، وفي طليعتهم رئيس الوزراء الليبرالي شكري غانم، ان المهام التي كلفه بها العقيد معمر القذافي لقيادة عملية الانفتاح المنشودة، وادخال ليبيا في قلب اقتصاد السوق خلال فترة قياسية، مسألة شاقة ومعقدة. اذ لا يكفي أن يحض شركات الطاقة الدولية على الاستثمار في بلاده، التي خصصت حسب المداخلات والتصريحات التي أدلى بها طوال الشهور الأربعة الماضية 001 منطقة للتنقيب عن النفط والغاز والانتاج، كي يتحول الاقتصاد الموجه المسيطر منذ قيام ثورة الفاتح من سبتمبر أيلول 9691، الى اقتصاد حر بكل معنى الكلمة. انطلاقاً من هذه الحقيقة، وضع الفريق الجديد المؤلف من بعض الوزراء والمستشارين، أمثال عبدالله سالم البدري وزير النفط السابق، عبدالله السعودي، طارق حسني بيك مدير التخطيط الجديد في"الشركة الوطنية للنفط"، خالد زنتوتي المدير العام لشركة"لافيكو"للاستثمار الخارجي، محمد كويج رئيس المجلس الأعلى للاستثمار الذي أنشئ أخيراً ومصطفى الخطابي مدير"الشركة العربية الليبية الافريقية للاستثمار"المشرف على التحول الذي يسير بتؤدة وليس بسرعة، خلافاً لكل الشائعات، خطة تستهدف بالدرجة الأولى التقليص ما أمكن من تبعية الاقتصاد الليبي للنفط، علماً بأن السياسات المعتمدة في الأعوام الأخيرة نجحت الى حد في هذا المجال، اذ تم تسجيل تراجع ملحوظ في الاعتماد على النفط من 29 في المئة عام 1791 الى 38 في المئة عام 2002. ويعزو الخبراء السبب الرئيسي في انخفاض شبه التبعية هذه، الى التخوف من امكان رفع مستوى العقوبات المفروضة من قبل الولاياتالمتحدة الاميركية، خصوصاً بعد دخول قانون"داماتو"موضع التنفيذ، ما حدا بالسلطات الليبية للاستثمار داخلياً في قطاعات أخرى، أبرزها الزراعة والصناعات المتوسطة الحجم. كذلك، نفض الغبار عن القطاع الخاص المهمش وادخاله الدورة الاقتصادية عبر تقديم التسهيلات المصرفية وأذونات الاستيراد والتخفيف من احتكار اللجان الشعبية للتجارة من خلال المنشآت والمشاركات، وكان بنتيجة هذا التوجه"القسري"نحو الانفتاح الاقتصادي الذي بقي محدوداً ومشروطاً على رغم الحاجة ان بدأت بعض القطاعات غير النفطية أو المتفرعة منها باثبات وجودها عبر توفير مصادر اضافية وجديدة من الدخل، حتى ولو كانت متواضعة مقارنة مع الهيدروكربورات. اعادة تحديد الأولويات منذ ان أعلن القذافي امام مؤتمر الشعب العام البرلمان خلال عام 2002 عن نيته بوضع حد للاقتصاد الموجه، الذي لم يعط النتائج المرجوة منه، والذي أفضى الى خسارات هائلة في جميع القطاعات تقريباً، تحرك رموز التوجه الليبرالي بفعالية وعلى خطوط عدة في آن معاً تحسباً لتراجع الزعيم الليبي عن خطوته بعدما بذلوا جهوداً مضنية لاقناعه بأن من أولى انعكاسات هذا التحول في المدى القريب، عودة الجماهيرية للاسرة الدولية تمهيداً لمصالحتها مع الولاياتالمتحدة الاميركية، وبالتالي رفع العقوبات نهائياً عنها. وعمد هؤلاء بشكل مواز لترويج معلومات مفادها ان الحكومة قد خصصت موازنة قدرها 53 بليون دولار لاعادة تأهيل البنيات التحتية وتحديث صناعتها النفطية والبتروكيماوية وانشاء شركات مختلطة مع الأجانب بهدف تطوير العديد من القطاعات من بينها السياحة والاتصالات والصحة والنقل الجوي والصيد البحري والكهرباء وشبكات مياه الشفة والصرف الصحي ومحطات تحلية مياه البحر. كما نظموا بالتعاون مع البريطانيين العديد من المعارض التجارية في طرابلس الغرب، كذلك الندوات والمؤتمرات في كل من لندن وجنيف وربما تمحورت في معظمها حول الاستثمار والطاقة والتجارة، ما سمح بجذب جميع المهتمين بجني الأرباح من وراء هذا الانفتاح المفاجىء الذي يحمل في طياته، ظاهرياً، فرصاً لا يجوز تفويتها. في الوقت نفسه، كان المسؤولون الليبيون المعنيون بهذا التحول الاقتصادي يعيدون تحديد الأولويات وفق المستجدات والتطور الحاصل على المستوى السياسي، بشكل أدق، المفاوضات المتعلقة بقضية لوكربي. وتمكنوا في أقل من عامين من جعل طرابلس الغرب مركز استقطاب لرجال الأعمال ومديري الشركات العالمية الذين يتدافعون على أبوابها بحيث لم يعد من السهل ايجاد غرفة خالية في فنادقها الأربعة الكبرى على مدار السنة نظراً لهذا التدفق، ما دفع بالحكومة الى التفاوض مع بعض الشركات مثل"موفنبيك"وغيرها لبناء عدد من الفنادق في المدن الرئيسية. وتجدر الاشارة ان الحكومة بدلاً من ان"ترش"العقود يميناً ويساراً حسب الوعود، تعاطت هذه الأخيرة بطريقة براغماتية الى أقصى حد، اذ عرضت في حالات كثيرة فكرة التشارك في المشاريع عوضاً عن تلزيمها. وكان بنتيجة ذلك ان شكل هذا الاسلوب في التعاطي الى نشوء مصادر جديدة للدخل عبر ضخ استثمارات تم فيها مراعاة التوازن الجغرافي والمالي للمؤسسات الشريكة. في هذا الاطار، تفيد المعلومات بأن البرنامج الذي أطلق عليه الرئيس الليبي تسمية"الرأسمالية الشعبية أو الاشتراكية الشعبية"، قد بدا على ما يبدو يعطي ثماره. اذ منحت الهيئة الليبية لتشجيع الاستثمار موافقتها لعدد من الشركات الاستثمارية الاجنبية لمباشرة أعمالها في اقامة مشاريع صناعية وسياحية وصحية قدرت قيمتها بنحو 007 مليون دولار. وساعد على ذلك اعادة صياغة القانون رقم 5/6241 لعام 7991 والمتعلق بترويج الاستثمارات الخارجية. مع ذلك، بقي القانون من حيث تطبيقه أقل فعالية منه في الدول النامية الأخرى المجاورة مثل مصر وتونس المغرب، على سبيل المثال. وقد أقر وزير الخارجية عبدالرحمن شلقم بذلك خلال حواراته التي أجراها في كل من باريسولندن أخيراً. من ناحية أخرى، يلعب المشرفون على عملية التحول الاقتصادي اليوم ورقة التخصيص للعديد من مؤسسات القطاع العام، ما عدا القطاع النفطي. ويراهن هؤلاء بأن يصل حجم العائدات من برنامج التخصيص ما يقارب الثمانية بلايين دولار خلال السنوات الخمس المقبلة. لكن تحقيق هذا الهدف يبقى صعباً، في حال لم يتم وبسرعة تحديث القطاع المصرفي وتنشيط السوق المالية عبر انشاء بورصة تلعب الدور المحرك للشركات التي سيتم تخصيصها. فالمبادرات التي يقوم بها خبراء صندوق النقد الدولي في هذه المرحلة من شأنها، حسب قول هؤلاء المشرفين، لا بد وأن تسرع من وتيرة تنفيذ برنامج التخصيص الذي يبقى منقوصاً طالما ان قطاع الهيدروكربورات يبقى مغلقاً. وتنصح بعض الجهات الاستشارة الكندية الحكومة الليبية باعتماد الصيغة الجزائرية الجزئية في فتح هذا القطاع امام المنتجات الليبية النفطية. تحفيز ومنافسة يتحرك المعنيون ب"تسويق ليبيا اقتصادياً ومالياً"في الخارج بكثافة في هذه الفترة، متنقلين بين العديد من العواصم الغربية والآسيوية، حاملين معهم ملفات بالمشاريع التي يمكن للمؤسسات الليبية الموصوفة اليوم ب"المصالح المستقلة"أي المختلطة بين القطاعين العام والخاص، التشارك فيها مع المجموعات العالمية. ويعطي هؤلاء، بالاضافة للضمانات القانونية التي يوفرها قانون الاستثمار وملاحقه من اعفاءات الضرائب على الأرباح في السنوات الخمس الأولى والحق في تحويلها لبلد منشأ الشريك الأجنبي، ضمانات رسمية من قبل النظام بعدم عرقلة نشاطاتها، أو التدخل من قبل أي جهة في صلب عملها أو مراقبتها. اضافة لذلك، يعرض المعنيون حوافز في بعض القطاعات، منها على سبيل المثال، في السياحة، اذ تقدم الدولة ظروف تشجيعية للشركة الاجنبية والمستثمر المحلي، عبارة عن أرض على شواطئ البحر بايجار رمزي لعقود عدة من أجل بناء منتجعات، الأمر الذي بدأ يجذب المجموعات العالمية من ايطاليا وفرنسيا مثل"أكور"و"كلوب ميديترانيه"، كذلك الألمانية والنمسوية المهتمة بالسياحة الثقافية الاثرية وبالسياحة الصحراوية. وفي مجال تطوير وتحديث وسائط الدفاع والمطارات، تفيد المعلومات بأن ممثلو شركات الأسلحة البريطانية والفرنسية والايطالية والاسبانية يقومون منذ شهور برحلات مكوكية للجماهيرية الليبية في محاولة لاستباق رفع العقوبات النهائية عن هذا البلد من قبل الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي. لكن الليبيين لا يريدون تنويع شركاتهم في هذا المجال والاستفادة ما أمكن من الخبرات ونقل التكنولوجيات فحسب، لكنهم يهدفون أيضاً الى تأمين مصادر دخل في المقابل. في هذا الاطار، تشير مصادر فرنسية مقربة من احدى كبريات شركات صناعة الاسلحة، بأن الحكومة الليبية اقترحت ادخال بند على الاتفاقات المستقبلية، يقضي بتطبيق نظام المبادلة الاوفستعلى جميع الصفقات العسكرية، بمعنى ان الشركة الفرنسية أو غيرها التي سترسو عليها العملية ستلتزم استثمار نحو من 03 في المئة من قيمة الصفقة في مشاريع مشتركة مدنية مع الليبين. وبالتالي، فانها بذلك لن تكون قد أعادت قسماً من الثمن فقط، بل ستنشىء مشاريع مشتركة تخلق فرص عمل وتنقل التكنولوجيا وتحقق ارباحاً من الصادرات التي ستذهب للبلد الشريك الذي يعطي الأولوية بفتح أسواقه للانتاج. وتشير المصادر الفرنسية عينها بأن الليبيين فاجأوا الجميع بهذه الخطوة المعتمدة حتى الآن مع دول الخليج العربي، ما حرك المنافسة بشكل حاد بين شركات صناعة الأسلحة. ومن المعلومات الاضافية في سياق تنويع مصادر الدخل والشراكات، الاستعدادات التي تقوم بها الحكومة الليبية لدخول عملية برشلونة، أي توقيع اتفاق الشراكة اليورومتوسطية، التي ستسمح لها بالاستفادة من المساعدات التي يوفرها هذا المجال لتمويل العديد من المشاريع التي يمكن ان تتقدم بها الجماهيرية وهي كثيرة نظراً لأن قطاعات لم يقترب منها أحد أو يهتم بها منذ عقود. * اقتصادي لبناني