الإحصاء: ارتفاع الرقم القياسي للإنتاج الصناعي بنسبة 6.5% في يوليو 2025    طرح 47 مشروعًا عبر منصة استطلاع لأخذ مرئيات العموم والقطاعين الحكومي والخاص    نيابة عن خادم الحرمين.. ولي العهد يُلقي الخطاب الملكي السنوي لافتتاح أعمال الشورى في الدور التشريغي 9 اليوم    ارتفاع أسعار الذهب    إسرائيل تشرِّع الفوضى المُقنَّعة    جلسة طارئة لمجلس الأمن اليوم    أمير المدينة المنورة يتسلّم التقرير الختامي لتوصيات الحلقة النقاشية والمناقشات العلمية حول المزارع الوقفية    أمير المدينة يدشن سوق التمور وملتقى "جسور التواصل"    ولي العهد للشيخ تميم: نساند قطر وإجراءاتها لحماية أمنها    محمية الإمام تركي تُشارك في معرض كتارا الدولي    الدبلوماسية البرلمانية في الشورى.. حضور فاعل عالمياً    «الملك سلمان للإغاثة» يوقّع اتفاقيات لدعم الأمن الغذائي والبيئي في سورية    كأس العالم للرياضات الإلكترونية 2025 يسجّل أرقاما قياسية ويستقطب ملايين المشاهدين حول العالم    أمير منطقة القصيم يزور المعرض التفاعلي "روايتنا السعودية"    "التخصصي" يفتتح جناح الأعصاب الذكي    "الملك سعود الطبية" تطلق خدمة تخطيط القلب لمرضى الرعاية المنزلية    عيادة متنقلة بالذكاء الاصطناعي للكشف عن اعتلال الشبكية الناتج عن السكري    إطلاق خدمة «بلاغ بيئي» بتطبيق توكلنا    أكد أن هجوم إسرائيل عمل إجرامي.. ولي العهد لتميم بن حمد: المملكة تضع كافة إمكاناتها لمساندة قطر في حماية أمنها    أكد اتخاذ كافة الإجراءات القانونية لمواجهته.. رئيس وزراء قطر: العدوان الإسرائيلي «إرهاب دولة»    السعودية: ندعم الحكومة السورية في إجراءات تحقيق الاستقرار.. قصف إسرائيلي لمواقع في حمص واللاذقية ودمشق    رئيس موانئ يزور جازان للصناعات    نونو سانتو أول الراحلين في الموسم الجديد بإنجلترا    «براق» تحقق ثاني كؤوس مهرجان ولي العهد للهجن للسعودية    ولي العهد وملك الأردن يبحثان الهجوم الإسرائيلي الغاشم    مجلس الوزراء برئاسة ولي العهد: سلطات الاحتلال تمارس انتهاكات جسيمة ويجب محاسبتها    رقابة مشددة على نقل السكراب    التعثر الدراسي .. كلفة نفسية واقتصادية    إنتاج أول فيلم رسوم بالذكاء الاصطناعي    8 مشروعات فنية تدعم «منح العلا»    يسرا تستعد لعرض فيلم «الست لما»    اليابان.. استئجار المرعبين لحل المشاكل    ولي العهد لأمير قطر: نقف معكم ونضع إمكاناتنا لمساندكم في حماية أمنكم    إنفاذاً لأمر خادم الحرمين بناء على ما رفعه ولي العهد.. نائب أمير الرياض يسلم وسام الملك عبدالعزيز للدلبحي    نيابة عن خادم الحرمين الشريفين.. سمو ولي العهد يُلقي الخطاب الملكي السنوي لافتتاح أعمال السنة الثانية من الدورة التاسعة لمجلس الشورى غدًا الأربعاء    أهمية إدراج فحص المخدرات والأمراض النفسية قبل الزواج    ضبط 20882 مخالفًا للإقامة والعمل وأمن الحدود    الاتفاق يجهز ديبملي    رجوع المركبة للخلف أكثر من 20 مترًا مخالفة    القبض على مروّج للقات    تاريخ وتراث    فرنسا تهزم أيسلندا بعشرة لاعبين وتعزز حظوظها في بلوغ مونديال 2026    شراكة سعودية - صينية في صناعة المحتوى الإبداعي بين «مانجا» للإنتاج و«بيلي بيلي»    منح العلا    إدانة سعودية وولي العهد يهاتف أميرها.. الإرهاب الإسرائيلي يضرب قطر    نائب أمير تبوك يستقبل مساعد وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية للخدمات المشتركة    رسالة من رونالدو إلى أوتافيو بعد رحيله عن النصر    تعزيز الابتكار في خدمات الإعاشة لضيوف الرحمن    مجلس الوزراء: نتائج الاستثمار الأجنبي المباشر تخطت مستهدفات 4 سنوات متتالية    ‏أمير جازان يطّلع على التقرير السنوي لأعمال الجوازات بالمنطقة    أمير المدينة يفتتح ملتقى "جسور التواصل"    فييرا: "السعودية مركز عالمي للرياضات القتالية"    دواء جديد يعيد الأمل لمرضى سرطان الرئة    عندما يكون الاعتدال تهمة    يوم الوطن للمواطن والمقيم    إصبع القمر.. وضياع البصر في حضرة العدم    كيف تميز بين النصيحة المنقذة والمدمرة؟    صحن الطواف والهندسة الذكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العراق : خطوط انقسام قديمة - جديدة
نشر في الحياة يوم 05 - 12 - 2004

سجلت المفوضية العليا للانتخابات في العراق نحو مئتي "كيان سياسي"، يعتزم كل واحد منها خوض اول معركة انتخابية منذ نصف قرن. فآخر انتخابات تعددية شهدها العراق جرت عام 1954، في عز الحرب الباردة، اما بعدها فقد صامت الأمة عن القول طويلاً.
وبين 1954 و2005 اكثر من مفارقة تاريخية. انتخابات 1954 شهدت انفراجاً نسبياً حمل الى البرلمان 13 معارضاً من اصل 134 نائباً. توالت الضغوط من الغرب، وبخاصة الولايات المتحدة، لحل البرلمان الذي انطوى على 10 في المئة من تحالف معارض قوامه ائتلاف اليسار الشعبي وقوى الطبقة الوسطى الصاعدة، على ضعفها. واليوم ثمة ضغوط قاعدية لاجراء الانتخابات في الموعد المقرر، بلا إرجاء ولا ابطاء. وتأتي الضغوط من مؤسسات اجتماعية نافذة المرجعية وسواها، كما تأتي من الولايات المتحدة، القوة الرئيسة في احتلال العراق.
هاتان اللحظتان متنافرتان بكل المعاني. في الماضي بدت الديموقراطية، في حمأة الحرب الباردة، ترفاً. واليوم تقدم وكأنها الترياق الشافي. لا هذا ولا ذاك.
ليست الديموقراطية، منذ ابتكارها الاغريقي، ترفاً بازاء النظم الاوليغاركية حكم القلة، او النظم الاوتوقراطية حكم الواحد. فهي، بهذه المقارنة، واجبة الوجود. انها ترياق للفكاك من احتكار حق الحكم، وتجاوز الواحدية الفارغة الا من نفسها. غير ان الديموقراطية الحديثة ليست البلسم السحري للعلل الاجتماعية. بل ان احتدام هذه الاخيرة من شأنه ان يوقع امماً بأسرها في فخاخ "المستبد العادل" او "الديكتاتور المنقذ"، خصوصاً اذا وصل الاحتدام حد الحرب الاهلية.
ان الترتيب الديموقراطي في ذاته نظام اجرائي، قواعد لاختيار الحكم، والمساءلة، والتمحيص، وهو بهذا اداة لا غاية، وان تكن المطالبة به غاية بذاتها ان كان هذا النظام مغيّباً.
ويمكن للقواعد الديموقراطية ان تنفتح، في عراق الساعة، على خيار اسلامي - شعبوي، على الغرار الايراني، او تقود، في تطرف آخر مفترض، الى خيار ليبرالي، او تؤدي الى تسويات وسطية وخيارات معتدلة اسلامية - ليبرالية، تجمع مثلاً اقتصاد السوق بدولة الرفاه، وترسي احتراماً للشريعة الاسلامية مقرونة بانفتاح حداثي محدود. هذا المزيج يقدمه لنا تاريخ أوروبا التي جرّبت موديلات سياسية - اقتصادية متنافرة، قامت في حدها الاقصى على دولة رفاه بلا ديموقراطية، او دولة ديموقراطية بلا رفاه، فانتهى التجريب الى المزج بين الاثنين تحت يافطة الوسطية، التي طورتها الاشتراكية الديموقراطية.
الخيارات المذكورة آنفاً ما تزال كامنة في الحالة العراقية، وقد يتعسر خروجها. مرد ذلك ان الانتخابات المقبلة تقف في تضاد صارخ مع سلفها الخمسيني. فهي دستورية وليست برلمانية كالانتخابات الخمسينية، اي انها تشكل عودة الى 1925، تاريخ وضع أول دستور عراقي. ويمكن لنا ان نرى بعين الخيال الافتراضي ان مرحلة ما بعد الانتخابات، ستدور حول اربعة معالم اساسية، تكشف البعض منها خلال اشهر صياغة "نظام الادارة الانتقالي" مطلع هذا العام.
المعلم الاول هو الخلاف الدائر حول قوام الدولة وبناها. هل تقوم هذه الدولة على مبدأ الاغلبية البسيط الذي ارساه منظر الثورة الدستورية الانكليزية - المكناة ب"الثورة المجيدة" جون لوك في اواخر القرن السابع عشر ام تقوم على مبدأ التوافق، وهو صيغة تطورت في القرن العشرين في دول متعددة الاثنيات والاديان؟ ولا نغالي اذا قلنا ان حل هذه المسألة الآن او في المستقبل، هو احد مفاتيح تطور او انكفاء النظام السياسي.
اما المعلم الثاني في السجال الدستوري فهو الاختلاف على البنية الادارية للدولة، أتكون مركزية ام فيدرالية. وإن رسا القرار على الخيار الفيدرالي، فإن تحديد معنى الفيدرالية سيطل برأسه. ذلك ان للفيدرالية صيغتين، ومنشأين، المنشأ الأول سياسي، مفاده الموازنة بين صلاحيات المركز الحكومة المركزية او الفيدرالية وصلاحيات الاطراف الولايات، او الحكومات المحلية، ابتغاء درء التمركز الشديد للسلطة، ووضع قيود لاجمة لانفلاتها. هذا الشكل نما في المانيا على عهد بسمارك موحد الامة الالمانية، كما نما في الولايات المتحدة ابرز منظريه جيمس ماديسون، أحد أبرز مؤلفي "أوراق فيدرالية"، على اساس تقسيم اداري صرف.
والمنشأ الثاني للفيدرالية إثني قومي يقوم على الموازنة بين القوميات المؤلفة للكيان الفيدرالي الاتحادي، ويتخذ حدود الكيانات الاثنية اساساً. وهنا تمتزج الاثنية بالأرض الاقليم، الرقعة الجغرافية امتزاجاً متفجراً يربأ بأي مساس بالطابع الديموغرافي للرقعة قيد النزاع. وقد تبلور هذا النمط في سويسرا والاتحاد السوفياتي على عهد لينين. وثمة في عراق اليوم هذان الأسلوبان في فهم الفيدرالية، الفهم الاثني، وهو الاسبق عهداً، والفهم السياسي - الاداري، وهو حديث العهد نسبياً. ولعل الاندفاعة نحو الفيدرالية الادارية تبرز على اشدها في الجنوب، وبالذات في البصرة، معبرة عن احتجاج عميق الجذور على اهمال مستديم لرفاه الجنوب برمته.
المعلم الثالث للسجال الدستوري فقهي الطابع: هل يكون الاسلام، او بتحديد ادق الشريعة، المصدرالوحيد للتشريع، ام تكون مصدراً بين مصادر اخرى حسب منطوق الدستور الموافق.
الخلاف حول هذه النقطة ايديولوجي - ثقافي، يرجع في اصوله الى نزعة "الاصالة" الثقافية المزعومة، التي تجاهر بها قوى اسلامية شتى، تنقسم اصلاً حول تحديد مدى الشريعة، كما تختلف حول مصادر الشريعة وتخومها، بين مناطق ثبات ومناطق فراغ. هناك خيارات عديدة في هذا الشأن، فإما قاعدة دستورية على الغرار الايراني او الغرار السلفي، تقسم العراق مذهبياً، او قاعدة علمانية خالصة، يصعب تحققها في التوازنات الراهنة، او، ولعل هذا هو الارجح، نوع من اسلمة معتدلة هي والعلمانية المعتدلة سواء.
ثمة مشكلة في الخطاب الاسلامي ترى ان العلمانية نفي للدين واقصاء، بل تدمير والغاء. وهذه فكرة تخيلية عن العلمانية، مبنية على تأويل ايديولوجي مغلق. ولعل خير رد عليها دعوة رجل الدين التنويري اللبناني، حسن الأمين، داعية العلمانية المؤمنة. فالعلمانية عنده، كما عند مناشئها الاصلية، مستقاة من العالم ومن العلم. وهي ترى الى امور العالم مقسمة على الاختصاص، طباً، وهندسة، واقتصاداً، وملاحة، وتقنيات، وهلمجرا. فآجر الجوامع من هذا العالم، شأنه شأن ورق الكتابة والحبر مما تدوّن به النصوص المقدسة. ولا يعالج اقتصاد الأمم في المراقد المقدسة، بل في مكاتب التكنوقراط، شأنه شأن امور التكنولوجيا، حرباً أم سلماً.
اخيراً ثمة دائرة رابعة للخلاف على الأسس الاقتصادية للدولة والمجتمع، بين نزعة اقتصاد السوق المنفلتة، ونزعة الاقتصاد الأوامري. وهذه وغيرها من دوائر الخلاف والاختلاف مبدأ الاغلبية مقابل التوافقية، ومبدأ المركزية مقابل اللامركزية، ومبدأ الشريعة المطلقة مقابل العلمانية، واقتصاد السوق مقابل اقتصاد الدولة تدور اليوم في ظل تحول كامل في الحقل السياسي انتقل فيه جل الحركات من العمل والتنظيم على اساس ايديولوجيا الى اعتماد الهويات المحلية. وهذه الاخيرة شديدة التنوع، هويات تقوم على الدين، او الاثنية، او المذهب، او عصبية المدينة، او القبيلة، او حتى الأسرة، في تشظٍ لا سابق له.
كانت خطوط الانقسام المحلية هذه كامنة تحت السطح، مخفية بدثار سميك من التزييف الجمعي المنظم، غير انها تعمّقت بفعل الاحتكار الآحادي لسلطة دولة مشرهة تجمع الهيمنة الاقتصادية بالهيمنة السياسية والثقافية. ولعل وجود مئتي كيان يشي، بذاته، برغبة جامحة في الفكاك من أسر الدولة الاحتكارية، حتى لو كان ذلك على مستوى التخيّل المحض.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.