الاتحاد يرفع من وتيرة تحضيراته لكأس السوبر    سيمينيو ممتن لدعمه بعد تعرضه لإساءة عنصرية في أنفيلد    مدرب نيوكاسل يطالب بحل واضح بشأن مستقبل إيزاك    القبض على 4 إثيوبيين في جازان لتهريبهم (185) كجم "حشيش"    تعليم الرياض يعتمد توقيت الدوام في المدارس للعام الدراسي المقبل    مشاركو مسابقة الملك عبدالعزيز الدولية يغادرون إلى المدينة المنورة    أميركا: وقف إصدار جميع تأشيرات الزيارة للقادمين من غزة    وزير الصحة يلتقي نخبة من المبتعثين السعوديين بأستراليا    112 طفلا يدخلون دائرة سوء التغذية يوميا في غزة    العدل تطلق خدمات مركز الترجمة الموحد عبر منصة تقاضي    تحدي الذكاء الاصطناعي ″أنا وابني ابنتي نبتكر″ يختتم فعالياته    برشلونة يقيد جارسيا وراشفورد في قائمته    أمانة المدينة تطلق "أستوديو لبناء الشركات" لدعم الابتكار    فريق قوة عطاء التطوعي ينفذ مبادرة "احتواء 1″ بجازان    وزارة الصناعة تشارك في معرض البطاريات وتخزين الطاقة بالصين    "هجرس" أصغر صقار يخطف الأضواء في مزاد الصقور 2025    الرمان المحلّي يغمر أسواق المملكة بإنتاج يتجاوز (37) ألف طن    «التعليم» تنشر ضوابط الزي المدرسي والرياضي للطلاب والطالبات    "الكرملين" قمة بوتين وترامب في ألاسكا إيجابية    تجمع تبوك الصحي يطلق مشروعات تطويرية لطب الأسنان    «متحف طارق عبدالحكيم» يختتم المخيم الصيفي للأطفال    تراجع أسعار النفط بأكثر من 1% عند التسوية    الكرملين: انتهاء محادثات بوتين وترامب في ألاسكا    رسمياً .. النصر يعلن تعاقده مع الفرنسي"كومان"    نيوم يضم المالي "دوكوري"    ناشئو أخضر اليد بين كبار العالم.. ضمن أفضل 16 في مونديال مصر    ارتفاع ضحايا الأمطار والسيول في شمال باكستان إلى أكثر من 200 قتيل    قرار مفاجىء من إنزاغي بشأن البليهي    هيئة المياه تطالب بسرعة تحديث البيانات    إغلاق 84 منشأة في حي منفوحة بالرياض وضبط مخالفات جسيمة    أمير عسير يستقبل سفير بلجيكا    المملكة تعزي وتواسي باكستان في ضحايا الفيضانات والسيول    مستشفى جازان العام وجمعية التغذية العلاجية يحتفيان بأسبوع الرضاعة الطبيعية    الشيخ عبدالله البعيجان: استقبلوا العام الدراسي بالجد والعمل    الشيخ بندر بليلة: احذروا التذمر من الحر فهو اعتراض على قضاء الله    جامعة جازان تعلن نتائج القبول في برامج الدراسات العليا للفترة الثانية    أمين جازان يتفقد مشاريع التدخل الحضري ويشدّد على تسريع الإنجاز    المملكة تتوّج بالذهب في الأولمبياد الدولي للمواصفات 2025 بكوريا    الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنظم حلقة نقاش بعنوان: (تمكين الابتكار الرقمي في العمل التوعوي للرئاسة العامة)    محمد بن عبدالرحمن يعزي في وفاة الفريق سلطان المطيري    أحداث تاريخية في جيزان.. معركة أبوعريش    اليوم الدولي للشباب تحت شعار"شبابُنا أملٌ واعد" بمسرح مركز التنمية الاجتماعية بجازان    نائب أمير جازان يستقبل مدير مكتب تحقيق الرؤية بالإمارة    نائب أمير جازان يلتقي شباب وشابات المنطقة ويستعرض البرامج التنموية    زراعة أول نظام ذكي عالمي للقوقعة الصناعية بمدينة الملك سعود الطبية    استقرار معدل التضخم في السعودية عند 2.1% خلال شهر يوليو 2025    الصين تطلق إلى الفضاء مجموعة جديدة من الأقمار الصناعية للإنترنت    في إنجاز علمي بحثي.. خرائط جينية جديدة تُعزز دقة التشخيص والعلاج للأمراض الوراثية    رئيس الوزراء النيوزيلندي: نتنياهو فقد صوابه وضم غزة أمر مروع.. «الاحتلال» يصادق على الهجوم .. وتحرك دبلوماسي للتهدئة    موسكو تقلل من أهمية التحركات الأوروبية.. زيلينسكي في برلين لبحث القمة الأمريكية – الروسية    تمكين المدرسة من خلال تقليص المستويات الإدارية.. البنيان: 50 مليار ريال حجم الفرص الاستثمارية بقطاع التعليم    الشيباني: نواجه تدخلات خارجية هدفها الفتنة.. أنقرة تتهم تل أبيل بإشعال الفوضى في سوريا    انطلاق ملتقى النقد السينمائي في 21 أغسطس    «البصرية» تطلق «جسور الفن» في 4 دول    اطلع على أعمال قيادة القوات الخاصة للأمن البيئي.. وزير الداخلية يتابع سير العمل في وكالة الأحوال المدنية    استخراج هاتف من معدة مريض    أمير جازان يعزي في وفاة معافا    مباهاة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في موضوعة "التغيير" العربي ، الداخلي منه والخارجي
نشر في الحياة يوم 21 - 09 - 2003

منذ مأساة 11 أيلول سبتمبر، ولكن خصوصاً منذ حرب العراق، تكاثر الكلام، في بعض الأوساط العربية، عن "التغيير". وقد بدا، مؤخراً، كأن الموضوع مُختَصر في صوتين استبداليين: إما أن يتم التغيير هذا من الداخل، وهو ما تشدد عليه كثرة ليس واضحاً أي تغيير تريد، ولا ما إذا كانت تريده أصلاً، أو أن يأتي من الخارج، كما يتردد في أوساط محصورة من رجال الأعمال والمهنيين، يليهم بأشواط المثقفون. والحال أن طرح النقاش على هذا النحو لا يخلو من تبسيط: ففي عالمنا المعاصر، لم يعد الفصل ممكناً بين داخل وخارج. فحين تتداخل الشعوب على ما نعهده اليوم، في حياتها المادية كما في مثالاتها وصورها وأفكارها، تماثُلياً أو ضدياً، يغدو من المستحيل فرز تحول تاريخي في حجم "تغيير العالمين العربي والإسلامي" إلى ما هو داخلي وما هو خارجي.
والتداخل يرقى إلى ما قبل العولمة الراهنة، أي إلى فجر زمن الحداثة ونشوء عالمية العالم أو يونيفيرساليته. فتحولات أوروبا، مثلاً، لم يعد بالامكان درسها، منذ نابوليون، بمعزل عن حروبه. هكذا ولدت بواكير بعض القوميات، كالألمانية والاسبانية، رداً على فتوحه وعلى الجديد الذي طرحته على الأصعدة جميعاً. وجاءت نظم فكرية كاملة، ك"المحافظة" التي أسسها الانكليزي ادموند بيرك، بوصفها استجابة سلبية للثورة الفرنسية. وحتى قبل ذلك، كانت الثورة الأخيرة قد تأثّرت بالثورة الأميركية، ولم يتردد المتأثّرون، هذه المرة، في الإقرار بهذه الحقيقة وإعلانها صراحةً.
إذاً، نشأ التواصل بين "الداخلي" و"الخارجي" مع الحداثة وانحصر بعالمها، أكان تأثّراً ب"النموذج" كما في الحالة الأميركية-الفرنسية، أو تأثّراً مضاداً به كما في الحالة الفرنسية-الأوروبية.
لكن الوجهة هذه بدأت تتعمم مع عصر الامبريالية في موازاة انشداد الحداثة والرأسمالية وعالمهما إلى ما يتعدى مهدهما الجغرافي. غير ان التوسع لم يقتصر على الجغرافيا: فقد تعاظم استخدام العنف وطاقة النيران تماماً كما كبرت المسافة التي ينبغي على الكولونيالي أن يعبرها لأن "الآخرين"، هذه المرة، شعوب بعيدة، كلياً أو جزئياً، عن التقليد الأوروبي. وعموماً، لم يعد ثمة من تغيير كبير إلا داخلي الأسباب وخارجيّها في وقت واحد. فالثورة الروسية في 1917 لا يمكن فصل قيامها عن أسباب "خارجية" كالحرب العالمية الأولى، ناهيك عن البدايات الصناعية والعمالية التي راحت روسيا، منذ أواخر القرن التاسع عشر، "تستوردها" وتستدخلها فيها. ولئن كان انتصار الثورة الصينية في 1949 وثيق الصلة بنهايات الحرب العالمية الثانية، فقد شكلت الحرب الباردة سبباً وجيهاً في تأويل تطورات تغييرية لا تُحصى، امتدت من كوريا إلى كوبا.
وفي وقت مبكر تعرّض العرب لاشتغال هذه المعادلة، وربما تعرضوا لها أكثر من باقي الشعوب الآسيوية والأفريقية. فهم، بسبب قربهم من أوروبا، وعدم استجابة أكثرياتهم، بما فيها النُخب، لوفادة الغريب، لعب الخارجي في رسم سياقاتهم أكثر مما لعب الداخلي: فالحملة الفرنسية كانت ما فتح العرب والمسلمين على العالم الحديث، ثم كان الاحتلال البريطاني لمصر في 1882 الذي يؤرّخ به ل"النهضة" العربية. وفي الغضون هذه، ارتبط انفجار مشكلة الأقليات الدينية في المشرق، والذي أفضى إلى قيام حكم المتصرفية في جبل لبنان في ستينات القرن التاسع عشر، بتوازنات القوى الأوروبية كما بالعلاقات الأوروبية - العثمانية عهدذاك. وهذه وجهة بلغت أوجها مع انهيار السلطنة، مثله مثل انهيار الامبراطوريتين الهبسبورغية النمسوية - الهنغارية والقيصرية الروسية، مما اتصل بالحرب العالمية الأولى ومفاعيلها. والشيء نفسه يمكن قوله في تحولات كبرى ارتبطت، بدورها، بصراعات القوى العظمى ومنافساتها: من توحيد شبه الجزيرة العربية إلى تأميم قناة السويس أو قيام الثورة اليمنية.
على أن تشابك الداخل والخارج اكتسب مزيداً من الزخم مع العولمة والتوسع النسبي للفكرة الديموقراطية، بشعبيتها وشعبويتها في آن. هكذا رأينا الضغط الخارجي يواكب التطلب الداخلي في إحداث تغييرات بحجم إطاحة الديكتاتورية الفيليبينية لفرديناند ماركوس الذي حُمل على اجراء انتخابات في 1986، ثم تفكيك نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا مطالع التسعينات، لتتمثّل الملحمة الكبرى في سقوط الأنظمة التوتاليتارية لبلدان أوروبا الشرقية والوسطى.
وقصارى القول، إن ما بدأ يتحكم بالتغيير منذ قرابة ربع قرن هو التقاء عنصرين وتناغُمهما: تأزّمٌ، أو تعفّنٌ، داخلي مديد مرفق بوعي له ولرفضه، وضغط خارجي، إقتصادي وثقافي وسياسي، في الوجهة نفسها. غير أن المعادلة المذكورة لم تشتغل، في ربع القرن، في العالم العربي وبعض جواره الاسلامي نظراً الى تعطّل عنصر التغيير الداخلي، وهو ما استحكم في السنوات القليلة الماضية بفعل تعطّل العنصر الخارجي أيضاً. فعلى رغم هزائم لا حصر لها، لم يسقط أي من الأنظمة المعنية في منطقتنا. وعلى رغم التعاطف مع ياسر عرفات في محنته الراهنة، فهو عاصر، على رأس "نظام" الثورة فالسلطة الفلسطينيتين كلاً من ليفي أشكول وغولدا مائير واسحق رابين وشمعون بيريز ومناحيم بيغن واسحق شامير، ثم شامير ورابين وبيريز ثانيةً، فبنيامين نتانياهو وإيهود باراك وأرييل شارون. ونلاحظ، من ناحية أخرى، بالرجوع إلى تجارب أنظمة ديكتاتورية أوروبية جنوبية، كنظامي فرانكو الاسباني وكايتانو البرتغالي، أن وفاة الديكتاتور كانت تفتح الباب للتغيير: ذاك أن عناصر هذا التغيير كامنة في المجتمع لا يحول دون تفعيلها إلا الديكتاتور نفسه. وهذا ما لا يصحّ إطلاقاً في حالة بلد كسورية مثلاً، بعد رحيل حافظ الأسد، أو في مصر بعد رحيل جمال عبد الناصر. فحتى هناك، وعلى رغم تعديل التوجه السياسي جذرياً، أبقي على شرعية ثورة يوليو حتى بدا التعديل الساداتي كأنه "عملية اختطاف غادرة"، مشوبة ب"الخسّة" وقلة الأمانة للسلف الصالح.
وللبعض أن يروا في الموضوع الفلسطيني والاستغراق القومي الملازم له السبب في هذا الميل الراسخ. والمؤكد أن في وجهة النظر هذه قدراً كبيراً من الصحة الا أنها لا تكفي لتفسير عموم الظاهرة، خصوصاً حين ننظر الى ما يتعدى منطقة المشرق. فمع الثورة الايرانية لآية الله الخميني، في 1979، بدا كما لو أن منطقتنا، بالمعنى العريض للكلمة، تقترب من أن تكون استثناء عالمياً يحض على التفكير في أسباب استثنائيته.
فبمعنى ما، شكلت الثورة المذكورة استجابة تلك المنطقة للانتشار العالمي الذي راحت تحرزه الافكار الشعبية والشعبوية والديموقراطية على أنواعها. وكان من الدارج في وسائل الإعلام العالمية مقارنة ماركوس الفيليبيني بشاه إيران استبداداً وعجرفة وبذخاً مترفاً وفاسداً، وكذلك مقارنة التديّن الكاثوليكي الفيليبيني بالتديّن في العالم الاسلامي. مع هذا، فما شهدته إيران جاء مختلفاً تماماً إذ تبدّت الاستجابة دينيةً بالكامل، شاملةً الدولة والمجتمع في آن، ومعطّلةً كلياً كل حِراك ديموقراطي. فإيران التي لم يخترقها الاستعمار، يصعب ان تكون تجربتها مع انقلاب الجنرال زاهدي ووكالة المخابرات المركزية على محمد مصدّق في 1953 قد رضّتها أكثر مما رُضّت الفيليبين بنتيجة 48 سنة من الحكم الأميركي، بعد 333 سنة من الحكم الاسباني.
لكن بالمقارنة بين الثورتين الايرانية والبولندية المولودة في الوقت نفسه، يظهر الفارق النوعي الذي كشفه النظامان اللذان نجما عن الثورتين. وهذا علماً أن الدين والشعبوية القومية لعبا دوراً كبيراً في التحول البولندي ليس فقط بفعل بولندية سيد الفاتيكان، بل أيضاً بسبب تماهي الدين والوطنية في ذاك البلد الذي يؤرّخ لنشأته الوطنية بتاريخ اعتناقه الكاثوليكية. أما اذا اعتمدنا مقارنة مطلقة من النوع الذي لا يحبه الأنثربولوجيون، ممن يرفضون المقارنة ما لم تكن من داخل تقليد واحد، فسيتعذّر علينا تجنّب الشعور بالهلع. فما شهدته إيران حينذاك كان الحدث الوحيد في تاريخ الشرق الأوسط الحديث الذي يستحق تسمية "ثورة": ذاك ان الجماهير هي من نزل الى الشارع على نحو غير مسبوق ولا ملحوق، من دون ان تكل أمر إسقاط النظام الى شلة من العسكريين المغامرين او المتآمرين. مع هذا، وقياساً بالثورة الفرنسية التي سبقتها 190 عاماً، هدفت الثورة الايرانية الى اقامة نظام رجال الدين بدل تحرير السياسة من الدين، والى التوكيد على "الاسلامية" واعادة المرأة الى البيت بدل "الإخاء" والكونية الانسانية للتنوير، والى إنشاء مراتبية صارمة يعلوها الولي الفقيه الذي تتصل شرعيته بالمقدّس بدل "الحرية" و"المساواة".
والتاريخ الثقافي، ومن ثم السياسي-الاجتماعي، هذا لا يزال يضخّ آثاره بأشكال شتى يمكن أن نتبيّنها على أصعدة مختلفة. فإذا وضعنا ايران الحالية جانباً حيث اكتوت بنار "الحل الاسلامي"، وجدنا العالم العربي لا يزال بعيداً عن استشعار إلحاح "التغيير" في اتجاه يقود الى انسجام أكبر مع الحداثة، أو أن الذين يحسون هذه الحاجة القاهرة لا يتجاوزون أعداداً مبعثرة في دوائر رجال الأعمال والمهنيين، ومن بعدهم بين المثقفين. أما الذين يتحدثون عن "التغيير" بمعنى الرجوع الى ما غادرناه في الماضي، وبالتالي تكرار ما أوصلنا الى ما نحن فيه الآن، فمحيط لا حصر له من البشر. وما التعلق بصدام حسين مرة، وببن لادن مرة، والاعجاب الواسع بالعمليات الانتحارية، ناهيك عن توسّع بيئة الاصوليين وابتلاعهم شطراً واسعاً من سياسات المنطقة، غير تعبيرات عن هذه الميول التي يجتمع فيها اليأس والاحباط والتدمير والتدمير الذاتي مما لا تكفي العوامل السياسية لتفسيره. وهنا، والحق يقال، لم يخطىء الاستشراق كما لا يني يقول ذوو المعرفة الضعيفة بالاستشراق كما بمجتمعاتنا. فالذين أخطأوا هم تحديداً أولئك الرافضون لوجود تواريخ ثقافية ربما بالغ بعض المستشرقين، مهنياً، في توكيد خصوصياتها. الا أنهم، بالتأكيد، أكثر من لاحظها ودرسها ونبّه من خطورة القفز السياسوي فوقها على طريقة ثوريي اليسار واليمين سواء بسواء. وبالمعنى هذا، فكما ينطوي الكلام الأميركي الذي ينفي دور الموضوع الفلسطيني-الاسرائيلي في تأجيج العداء لأميركا على تبسيط واضح، فعلى التبسيط نفسه ينطوي الكلام العربي الذي يميط اللثام عن تاريخنا الثقافي ومشكلتنا مع الحداثة. فلأننا ساوينا بين الاستعمار ومحمولاته، عاملنا بقسوة وصدّ لافتين كل علامات ومرتكزات التقدم التي نشأت في ظل السيادة الغربية أو اصطبغت بالغرب: فما بين أنظمة عسكرية وحروب أهلية دُمّر الكثير من المؤسسات والإدارات التي بنتها الكولونيالية، وأطيحت كافة البرلمانات. ودائماً نُظر باحتقار واستضعاف الى إنجازات ضخمة، مادية وثقافية، كحفر قناة السويس وتأسيس الجامعة الأميركية في بيروت، ناهيك عن التجربة التعددية اللبنانية. فهذه التحولات لم تجد أبداً طريقها الى تاريخنا الاجتماعي والسياسي، أو أنها قبعت في زاوية هامشية ومركونة منه. وحتى الأمس القريب نظر مزاجنا العام بريبة لا حدود لها الى محاولات كعقد مؤتمر للأقليات أو آخر للمرأة مما للأطراف الغربية ضلع فيه، وانكفأ الذين أرادوا الاحتفال بالمئوية الثانية للحملة الفرنسية على مصر بصفتها مدخلاً إلى تنويرنا وربطنا بالعالم الخارجي.
فوق هذا اجتمعت الثقافة والسياسة، بالتقليدي منها والعسكري، على اختزال المجتمع بسلطته، واستنفاد القليل المتوافر من الشرعية لمنظومات حياتنا وأنظمتنا. بذا صارت "مرجعياتنا" السياسية، كما الأخلاقية، تتجنب التغيير لا خوفاً على مصالحها فحسب، بل أيضاً خوفاً من صندوق باندورا يعج بالشياطين. وفي الآن نفسه صار ذاك التغيير، على ما تخوّفت "المرجعيات" وابتزّت الآخرين بمخاوفها، صنو انقلاب من عيار جيولوجي. وهذا كله سابق على حكومة شارون وإدارة الرئيس جورج بوش. الا ان الاقتران بين هاتين الراديكاليتين على نحو غير معهود يوفّر أسخى الحجج للقائلين ب"مؤامرة" ينبغي حيالها أن ننغلق على أنفسنا ونصدّ شتى أوجه الحداثة عنا.
فإذا انطوى العنصر الخارجي، في ربع القرن الماضي، على ضغوط تدفع نظرياً في اتجاه تقدمي، الا ان الضغوط شيء والحروب شيء آخر. فكيف حين يكون السبب الفعلي للحروب متعلقاً بأمن الطرف الغربي، بحسب تأويل مهووس له، واسع الذمة وسخي الأكاذيب؟ وكيف حين يكون من يشن هذه الحروب محمّلاً بأفكار رؤيوية وخلاصية تعزز الأسوأ في شائع الوعي العربي، مصحوبة بعدم نزاهة كاملة في ما خص موضوعاً يملك الفعالية التي يملكها الموضوع الفلسطيني؟ فإذا صح أن تركيا أكثر تقدماً في جوانب عدة علينا في المشرق العربي، وأن أصولييها بالتالي أكثر تقدماً من أصوليينا، فالصحيح أيضاً ان الضغط الذي مارسته وتمارسه أوروبا على أنقرة يختلف كل الاختلاف عن المنطق الأميركي الحربي في تعاطيه مع منطقتنا. وحتى لو افترضنا أحسن النيّات في ما خص الديموقراطية و"الامبريالية الخيّرة" في العراق وجواره، بقي التساؤل وجيهاً حول الفرص العملية المتاحة اليوم، في ظل مستجدات يصعب ألاّ تُلحظ. فالكولونيالية القديمة نجحت في بناء هياكل وبُنى حديثة لم يكن مُرحّباً بها من غالبيات السكان، إلا أن القسر نفسه لم يعد ممكناً بعد شيوع الأفكار الديموقراطية والشعبوية، العولمية والمساواتية، التي اخترقت أبعد زوايا المعمورة، ولو ضجيجاً. كذلك، لم يعد الأمر نفسه ممكناً بعد التحولات الديموغرافية - السياسية التي أنتجت أكثريات سكانية في بلدان كالعراق وسورية وإيران لم تعرف إلا حكم البعث أو حكم آيات الله، ولا تملك أدنى فكرة عن السياسة والقانون. وتراكم كهذا الذي أحدثته الأنظمة التسلطية إنما يفتح الباب واسعاً لصعود الهويات التجمعية المكبوتة طويلاً، لكنه يوسّع، بالتالي، كل المسافات التي تفصل عن بناء الدولة والمجتمع الوطنيين. فكيف حين يرتبط هذا البناء بطرف خارجي يستبدل الداخل كلياً؟
وفي ظل الضعف الهائل للطبقات الوسطى في المنطقة، والتي لو وجدت لعدّلت المسار الجارف، نجحت أنظمة الاستبداد في تحويل الشعوب، وقد تسلّمتها مشاريع-شعوب، الى جماعات. كما نجحت في ردّ الوطنيات، وقد تسلّمتها أيضاً مشاريع-وطنيات، الى عداء محض للغريب. واذا كان واقع كهذا ما يجعل الكلام عن "مقاومات وطنية" نوعاً من هذر خطير لا يؤدي الا الى حروب أهلية، فإنه يملي التواضع البعيد والتدرجية البطيئة في العمل التحويلي للمنطقة باتجاه قدر من الحداثة وحكم القانون ولا نقول الديموقراطية.
أما ثوار اليمين الأميركي ممن يعلنون الرغبة في تغييرنا الكامل ما بين يوم إثنين ويوم ثلثاء، فلا يفعلون إلا سدّ الطريق في وجوهنا إلى أن يقضي الله أمراً، فيكتّلون"نا" "قومياً" و"دينياً" ضدهم تكتيلاً يخفي وراءه تفتتاً أهلياً واسعاً في ما "بيننا". وإذ نقارن هذه الرغبات الثورية بسائر المواقف الاجتماعية لإدارة بوش، وآخرها ما ظهر في كنكون بالمكسيك، مهدداً استمرار "منظمة التجارة العالمية" حرصاً على دعم كبار مزارعي القطن الأميركان، لا سيما عشية انتخابات رئاسية، تنعدم الحيرة: فهل يمكن إلا أن تكون راهبة العفاف في منطقتنا هي نفسها صاحبة الشبق البورنوغرافي إلى دم ملايين المزارعين الأفارقة والآسيويين؟
ثم، واعتباراً بتجارب الماضي الكبرى، يُستحسن الإقلاع عن حِكَم "إما أو..." و"الآن الآن وليس غداً". فالتجربة الأفغانية لا تملك إلا أن تطرح علينا سؤالاً يلوح طرحه هرطقة في واشنطن : أولم يكن من الأسلم عاقبة تجميد الاندفاعة الثورية الريغانية قليلاً وترك الاتحاد السوفياتي البريجنيفي يوغل أكثر فأكثر في تعفّنه، ولو استغرق سقوطه عشر سنوات أخرى، مما حصل فعلياً وتأدى عنه تأسيس الحكم الطالباني وانتشار الوعي الظلامي انطلاقاً من البؤرة الأفغانية، ومن ثم 11 أيلول نفسها؟ ولا تُنسى فيتنام التي كان المراد بحربها منع انهيار "أحجار الدومينو" في جنوب شرق آسيا. وفي النهاية لم تنهر تايلاندا وسنغافورة وماليزيا، بل ازدهرت وصارت مضرب مثل في التقدم خارج "المركز" الغربي، بينما انهارت فيتنام نفسها! كذلك لا تُنسى أميركا الوسطى حيث روّجت إدارة ريغان ووزير خارجيتها يومذاك 1982 ألكسندر هايغ أن "جبهة فارابوندو مارتي للتحرير" في السلفادور ترتبط عضوياً بالجبهة الساندينية في نيكاراغوا، ويرتبط الاثنان بهافانا ومنها بموسكو. وكان ما كان من دم في السلفادور ونيكاراغوا تصدياً لهذه الخطة الشيوعية الجهنمية، وبعد سنوات قليلة كانت فضيحة شهيرة خُصص ريعها ل"الكونتراس". لكنْ، في النهاية، انهارت شيوعيات أميركا الوسطى، وهي توالي انهيارها في كوبا، لأسباب أخرى تماماً تتصل بعجزها عن تلبية حاجات السكان في حياتهم وحرياتهم.
فحملة رمسفيلد وسائر الريغانيين غير حملة نابوليون، حتى لتصير ايجابيات بارزة كاقامة "مجلس حكم" عراقي واسع التمثيل وتسليم كردي وزارة الخارجية وانشاء وزارة لحقوق الانسان واطلاق حرية التظاهر والتعبير، محكومة بسياق أعرض يُحيلها تفاصيل. وما يُخشى هو أن يأخذ العرب حملة نابوليون بجريرة حملة رمسفيلد، وهم على أتم الاستعداد لذلك، فينعدم إذّاك ما تبقى من قوة المثال الذي يُفترض بالتغيير أن يقود الى الاقتراب منه.
فالنهج الأميركي الحالي لا يتركنا، والحال على ما هي عليه، إلا أمام تعطّل العامل الخارجي الذي ينضاف الى تعطّل الداخلي، فيكتمل انغلاق الدائرة على مأزق تاريخي نديره ونداوره.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.