في وقت كانت ليبيا تستعد لتنظيف الاتهامات التي علقت بسمعتها السياسية بسبب احداث لوكربي ويوتا وملهى لابيل، نبهتها ذكرى تغييب الإمام السيد موسى الصدر الى ان الازمة العالقة مع لبنان منذ ربع قرن، يستحيل انهاء تفاعلاتها بالتعويضات المالية. كرر هذه الحقيقة كل الذين تناوبوا على الكلام في الذكرى التي احيتها حركة "أمل"، بدءاً برئيس مجلس النواب نبيه بري وانتهاء بنائب رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان. ومع ان خطباء الحفل تعرضوا لمسائل محلية واقليمية ودولية، إلا ان مسألة اختفاء الإمام موسى الصدر، ظلت هي الموضوع المركزي الذي تحدث عنه نبيه بري في كلمته الموجهة الى النظام الليبي. قال: "اعترفت ايها النظام باعتداء 1988 يعني تاريخ تفجير لوكربي فلماذا قفزت فوق اعتداء 1978 يعني تاريخ اختفاء الصدر؟ لماذا الرضوخ للغريب وتناسي القريب؟ نحن لا نطالب بمال طالما عرض علينا منه الكثير ورفضنا. نريد ببساطة إقراراً بالمسؤولية وكشفاً للحقيقة". وبعد ان هاجم اللبنانيين المتعاونين مع ليبيا تجارياً واقتصادياً، انتقد الرئىس بري صمت الدولة، داعياً المسؤولين الى تبني هذا الموضوع الخطير. سائلاً: "اتوجه عبر وزير الخارجية الى رئاسة الدولة والحكومة على ان يصار فوراً الى تبني هذا الامر من دون مواربة او محاباة للكشف عن مصير ائمتنا وقادتنا ومواطنينا. وإلا تقديم مذكرة الى الأممالمتحدة ومجلس الامن والجامعة العربية والمؤتمر الاسلامي ولجنة حقوق الانسان كي نثبت للعالم كله ان الاعتداء على اي لبناني هو اعتداء على كل القيم اللبنانية". الحملة السياسية ضد نظام القذافي في لبنان، لم تقتصر على خطباء حركة "أمل" فقط، بل اتسعت لتشمل مختلف القيادات الشيعية بمن في ذلك السيد محمد حسين فضل الله والسيد حسن نصرالله. ففي تعليقه على البيان الذي اصدرته "اللجنة الشعبية العامة للعدل والأمن في ليبيا"، قال الأمين العام ل"حزب الله": "ان السفارة الليبية وزعت بياناً سخيفاً يعترف فيه نظام القذافي بأفعاله. فلماذا لا يعترف بقضية الإمام الصدر؟". وكان نصرالله يشير الى البيان الذي اصدره مكتب الاخوة الليبي، وفيه تكرار لما تضمنه بيان اللجنة الشعبية السنة الماضية. ويناشد البيان الليبي المنظمات والفصائل التي خاضت صراعات حادة في الفترة التي اختفى فيها الإمام موسى الصدر ورفيقاه، طالباً منها العون لتقديم ما لديها من معلومات تسهم في كشف الحقيقة وإجلاء الغموض عن هذه القضية. وينتقل البيان الى امتداح الإمام المغيب، فيقول: "لقد اكدنا وما زلنا نؤكد ان الإمام موسى الصدر كان ضيفاً كريماً جمعتنا معه روابط الاخوة والمحبة، وان اختفاءه خسارة لنا وفقدان لصديق عزيز ومناضل قومي صادق. وهو لغز نعتقد انه جزء من مؤامرة تستهدف بلادنا لدورها الفاعل والمؤثر في النضال القومي في تلك المرحلة. لذلك نؤكد مجدداً حرصنا على استمرار بذل الجهود ومواصلة التحقيقات في الداخل والخارج بشأن هذه القضية وظروفها وملابساتها". ويُستدل من طبيعة البيان وتوقيت صدوره ان النظام الليبي اراد الايحاء بأن الذين ارتكبوا هذه الجريمة هم من خارج البلاد، وانهم نفذوا فعلتهم كجزء من مؤامرة اساءت الى سمعة ليبيا في وقت كان القذافي يمثل ذروة الدور المؤثر والفاعل على جبهة النضال القومي. ويرى المحققون ان البيان الجديد يمثل تفسيراً مناقضاً للتفسير الرسمي السابق الذي ادعى ان الإمام غادر مع رفيقيه الى ايطاليا، وان مسؤولية جهاز الأمن الليبي تنتهي عند حدود المطار. علماً ان التحقيقات التي صدرت عن الأمن العام الايطالي ورجال الجمارك نفت نفياً قاطعاً ان يكون الإمام الصدر قد غادر ليبيا باتجاه ايطاليا. وهكذا تكون طرابلس الغرب اعترفت بعد مرور 23 سنة على حادث الاختفاء، ان العملية تمت في وقت كانت منظمات وفصائل تخوض صراعات حادة خارج وطنها. ويستنتج من هذه التعابير الغامضة ان هناك جهة غير ليبية نفذت هذه العملية لمصلحة جهة متآمرة على العقيد ونظامه. وترى القيادات الشيعية في لبنان ان المبرر الذي قدمته ليبيا لا يمنحها صك البراءة، وانما يحملها وزر المسؤولية للكشف عن الفاعل الحقيقي طالما ان البيان يدل اليه من دون ان يسميه، خصوصاً ان جميع الفصائل الغريبة كانت تستظل النظام وتحتمي بسلطته وتستفيد من الأمن الذي يوفره لها. لهذه الاسباب وسواها اتهمت الصحف اللبنانية النظام الليبي بأنه غطى على الفاعلين الحقيقيين، ما دام يتبرأ من قرار التغييب، وكل ما تطالب به الدولة اللبنانية هو اظهار ملابسات الحادث، واعلان موقف رسمي يخضع للمنطق لا لروايات خيالية تعوزها الواقعية. وهذا ما قاله وزير الخارجية جان عبيد لأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى عندما اتصل به عارضاً القيام بمسعى الوساطة، وأبلغه ان لبنان لا يمكن ان يقبل بأقل من جلاء الحقيقة وتحديد المسؤولية. وقال ايضاً انه من باب اولى ان تكون الدولة الليبية مهتمة بهذه القضية نظراً للمسؤولية الادبية والاخلاقية التي تتحملها، باعتبار ان عملية الاختفاء جرت فوق ارضها وليس خارجها كما جرى في الحالات الاخرى مثل احداث لوكربي ويوتا وملهى لابيل. يقول احد نواب جنوبلبنان ممن تابعوا مسألة اختفاء الإمام موسى الصدر مع قيادات شيعية بارزة مثل آية الله الخميني، ان العقيد القذافي لعب دوراً مهماً على الساحة اللبنانية، خصوصاً اثناء المرحلة الاولى من الاحتراب الداخلي ما بين 1975 و1978. واتهمته دمشق سنة 1976 بالتدخل مع منظمة التحرير الفلسطينية وزعماء الاحزاب اليسارية والحركة الوطنية من اجل نسف مشروع الوثيقة الدستورية. كما تدخل ايضاً بواسطة منظمات الرفض الفلسطينية لمنع الإمام موسى الصدر من تأسيس قوة شيعية مسلحة تمنع استخدام الجنوب قاعدة متقدمة لترسيخ دويلة "فتح". وأثارت عبارته الشهيرة "السلاح زينة الرجال" انتقاد الذين ترجموا حركته بأنها عملية وأد لمشروع الوطن البديل الذي كانت تحلم به القيادات الفلسطينية. ولم يكن جواب ياسر عرفات على سؤال اسحق رابين في اوسلو: "نعم، انا معتاد على الحكم لأنني حكمت لبنان في مرحلة معينة..." سوى تأكيد لما صرح به ابو اياد من ان "طريق فلسطين تمر في جونيه". وبما ان الاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت كان يدعم فكرة "الوطن البديل" لأسباب استراتيجية، فإن تغييب الإمام الصدر في ليبيا كان يمثل خطة التعطيل التي وصفها بيان اللجنة الشعبية الليبية ب"المؤامرة". صحيح ان الحوار التصادمي الذي جرى بين العقيد والإمام على شاشة التلفزيون كان الدافع لغضب القذافي المهزوم منطقياً وفكرياً... ولكن الصحيح ايضاً ان الاشارات التي اعطاها الرئىس الليبي لحراسه لم تكن كافية للانتقام منه ومن رفيقيه الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين. منذ سنة 1978 لم تظهر دلائل موثوقة تشير الى الجهة التي اقترحت على القذافي التبرؤ من مسؤولية اختفاء الصدر من طريق الادعاء بأنه غادر البلاد الى ايطاليا. وربما تصور ان اللبنانيين سيكتفون بهذا القدر من التبرير، خصوصاً ان قادة المنظمات الفلسطينية وزعماء الاحزاب الوطنية من الذين كان يحتضنهم ويدعمهم لاذوا بالصمت المطبق. وعليه تصور ان البليون دولار التي وزعها في لبنان بحسب اعترافه لأحد الصحافيين كانت كافية لتغطية عملية يزعم انه تورط في حمل عواقبها. ومع انه تظاهر دائماً بأن هذه المشكلة لن تؤثر على دوره القومي، إلا انه كان يدرك مدى الاذى الذي ألحقته بسمعته السياسية والشخصية. لذلك اقترح سنة 1982 اثناء زيارته لدولة الاماراتالمتحدة تقديم عشرة بلايين دولار لدعم صمود لبنان ومقاومته الباسلة. وقبل ان تدرس الحكومة اللبنانية الاقتراح هددت "أمل" بالانتقام من جميع المسؤولين الذين يتجرأون على قبول العرض. وهكذا اكتشف القذافي ان كل التسهيلات المادية التي قدمها لروجيه تمرز وأصحاب دور النشر ومصدري التفاح ومعاونيه في تأليف الروايات... كل هؤلاء لم يتجاسروا على مصالحته مع الطائفة الشيعية تحديداً. واكتفى منذ تغييب موسى الصدر باستئناف اتصالاته الخجولة مع صديقه الشيخ أمين الجميل وبعض قادة الاحزاب العقائدية، إضافة الى اربعة ادباء كان يستعين بهم لكتابة رواياته ومعلقاته السياسية. وليس سراً انه في ليلة تعرض خيمته لقصف الطائرات الاميركية 1986 كان يستضيف احد القياديين اليساريين اللبنانيين. في الذكرى الرابعة والثلاثين لثورة الفاتح، وجه العقيد معمر القذافي كلمة الى الشعب الليبي قال فيها ان قضية لوكربي اصبحت منتهية وان قضية طائرة "يوتا" ستنتهي قريباً. وأشار القذافي الى ان ملف "يوتا" كان مغلقاً بعد التعويض على عائلات الضحايا في العام 1999، لكن الحكومة الفرنسية تعرضت لضغوط متواصلة بعدما اتضح ان ضحايا عائلات طائرة "البانام" في لوكربي سيحصلون على تعويض اكبر 7،2 بليون دولار. وكان من الطبيعي ان يوظف الرئيس نبيه بري اعتراف العقيد القذافي بالمسؤولية المدنية عن ضحايا لوكربي والنيجر، لكي يعلن في مهرجان بعلبك ان اقفال الملفات العالقة مع واشنطنولندن وباريس لن تقفل ملف الإمام الصدر إلا اذا كشف النظام الليبي عما اخفاه من اسرار طوال ربع قرن. اي الاسرار المتعلقة بمصير الإمام ورفيقيه، خصوصاً بعد صدور بيان عن مكتب الاخوة الليبي في بيروت يناقض المزاعم السابقة ويطالب جهات معينة بتقديم ما لديها من معلومات. وتقول مصادر مطلعة ان القيادة في طرابلس الغرب مقسومة حول هذا الموضوع، وان نسيب العقيد السفير المتجول احمد قذاف الدم يدعو بإلحاح الى ضرورة تشكيل لجنة لبنانية - ليبية تحقق في مسألة اختفاء الإمام الصدر، فتكشف الحقيقة وتجلي الغموض عن عملية مضى على حدوثها 25 سنة. ويرى الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى ان وساطته قد تعيد فتح مكتب الاخوة السفارة في بيروت، ولكنها قطعاً لن تسكت قادة حركة "أمل" وجمهورها وأصدقاءها الكثر. ومعنى هذا ان الحملات السياسية والاعلامية ضد ليبيا ستتضاعف وتشتد ما لم تحصن موقفها باعلان المسؤولية والادانة عن الجهة التي غيَّبت الإمام. ويقول السيد محمد حسين فضل الله: "ان قطع العلاقات الديبلوماسية مع لبنان يمثل هروباً الى الأمام. كنا نأمل من خلال ما قامت به ليبيا عبر دفعها التعويضات المالية لضحايا لوكربي ويوتا ان تملك الشجاعة وتقدم تقريراً واضحاً عن مصير الإمام الصدر، خصوصاً انها تتحمل كل المسؤولية لكونه حلّ ضيفاً عليها". الملاحظ انه عقب فشل جميع مشاريع الاتحاد التي طرحها القذافي مع دول عربية وافريقية، يحاول الآن انهاء حال العداء مع الولاياتالمتحدة والافادة من وساطة لندن لرفع العقوبات التي فرضها مجلس الأمن. وفي رأي نائب وزير الخارجية الليبي حسونة الشاوش ان بلاده ستعالج كل المسائل العالقة مع واشنطن بالحوار والتفاهم، وان القذافي سينجح في إقامة علاقات متميزة مع اميركا كما نجح مع بريطانيا. يقول المراقبون ان ادارة بوش ستنتظر ستة اشهر قبل اعادة النظر بسياستها تجاه ليبيا المصنفة في قائمة "الدول المارقة". وهي تتوقع خلال هذه الفترة ان تكون قادرة على استكشاف موقعها النهائي داخل العراق. وفي تصورها ان فشل الرهان على استثمار الاحتياطات النفطية في العراق، سيمهد لها طريق التعاون مع ليبيا. علماً أن القذافي بدأ يفتح ابواب بلاده امام الشركات الاميركية واعداً بتطوير قطاع النفط. ولكن الانفتاح على الولاياتالمتحدة لن يساعده على الصمود ما لم يحسن موقعه داخل المجتمعات العربية. وهو يتذكر ماذا فعلت المغامرات السياسية التي قام بها رفاق دورته الثورية الثانية من امثال انور السادات كامب ديفيد وجعفر النميري ترحيل الفلاشا وصدام حسين احتلال الكويت. وفي هذا السياق ترى حركة "أمل" ان تغييب الإمام الصدر يمثل داخل النظام الليبي "كعب أخيل" وموقع الضعف في ثورة الفاتح من سبتمبر! * كاتب وصحافي لبناني.