من النافذة الضيّقة التي لا تتعدى حجم الوجه في البوابة الحديدية الضخمة، تعرفت سريعاً على وجه الطاهي. كان دائماً بشوشاً ولا يزال. كلماتُه الترحيبية أخذت تخفُتُ في أذني أمام المشاهد التي بدأت تتوالى أمامي: ملعبٌ واسعٌ ونظيف... مئاتُ الصور الفوتوغرافية معلّقة على لوحات خشبية ملأت الجدران... يبدو المساجين ضاحكين. يرقصون. يغنون. يفخرون بما صنعته أيديهم من أدوات خشبية كهذه الطاولات والكراسي الملوَّنة، أو بالأطباق الشهية التي أعدّوها بإشراف "الشيف". يبدو أنَّ أموراً كثيرةً تبدّلت منذ أن غادرت للمرة الأخيرة الفَرع الآخر لإصلاحية الأحداث في بعاصير قضاء الشوف. عملت هناك ثلاثة أشهر قبل أن أتفرغ للعمل الصحافي. الذكريات التي حملتها معي أشبه بكابوس. كان سجناً يسوده العنف والوحشية والظلم والجوع والحرمان من أدنى الحقوق. كان المساجينُ الأطفال والمراهقون يسمّونه، تهكّماً، "إخرابية" بدلاً من إصلاحية. لكنّ الأمر "يبدو" مختلفاً اليوم. فإصلاحيةُ بعاصير أُقفلت وتمّ توحيدُها مع معهد الفنار حيث كانت مفاجآتٌ أخرى تنتظرني. في الطابق الأول الأحداث يتناولون "المغربيّة". طعام فاخر لم يكن أحدٌ ليحلم به في بعاصير. وهناك بالقرب من غرفة الطعام صالةٌ للكومبيوتر. صالة للبيليارد. وأخرى لل "بيبي فوت". وعددٌ من قاعات الدراسة. لكن أبرز ما لفتني هو ذلك الرجل الخمسيني النشيط. يحمل كمّاً من الأوراق. يدخل غرفة ويخرج من أخرى. يعطي تعليماتٍ لكلِّ من يمرُّ بقربه. اسمُه جورج مطر وهو مدير معهد الفنار. "يبدو" الرجلُ لطيفاً، مُحِباً، ويعشق عملَه. كيف لا وهو يعمل منذ أربعين عاماً كمُرَبٍّ في مراكز الأحداث "المنحرفين". المديرُ تعجبُه التسمية الجديدة التي أطلقها القانون على هؤلاء الأحداث الذين لم يعودوا "منحرفين" بل "على خلاف مع القانون". تسميةٌ يحاول جورج الاعتياد عليها ولو أن لسانه يزلّ أحياناً نحو التسمية الأولى. إنّه رجلٌ إيجابي ومتفائل. يفتخر بتاريخ "الاتحاد لحماية الأحداث في لبنان" المعروف بUPEL وهي الجمعية التي تدير الإصلاحية بالتعاقد مع وزارة العدل بعد أن كانت تعمل مع وزارة العمل والشؤون الاجتماعية حتّى العام 2002. الأجواءُ في معهد الفنار بسيطة، هادئة، ومرحة أحياناً. المدير جورج مطر لا تهمه الأسباب التي أتت بأي من الأولاد إلى هنا. "هل سألتكم يوماً ما الذي اقترفتموه؟"، سأل مجموعةً منهم كانت تعمل في مصنع النشارة، "أبداً" أجاب الجميع. السؤال هو: "ما الذي نريد أن نفعله في المستقبل؟ فأنتم في معهد وليس في سجن" يضيف جورج موجِّهاً نظره إلي. المعهد يضمُّ عدداً من المصانع التي يديرها محترفون يعلّمون الأولاد. كثيرٌ من الناس يشترون أثاث منازلهم مما يصنعه هؤلاء الأحداث من طاولات وكراس وخزانات وسلالم وشبابيك الألمنيوم... كثيرون منهم أصبحوا محترفين في ما بعد، بعد أن منحتهم "المؤسسة الوطنية للاستخدام" شهادات في الحدادة أو النشارة أو الطهي أو الكهرباء أو الخياطة. "لكنّ المشكلة"، يقول مطر مازحاً، "أنّه مع القانون الجديد لم يعد الولد يمضي فترة طويلة هنا، فما إن يبدأ بالتطور في المهنة التي يتعلمها حتى يأتي أمر إخلاء سبيله!". جوّ الثقة واضح أيضاً. فهنا أنظمة الجمعية هي التي تسير، وليس أنظمة السجون. ومن دون أي مرافقة عسكرية، يقوم الأولاد برحلات خارج الإصلاحية. آخرها نزهة إلى البحر. وفي شهر رمضان المبارك الماضي مثلاً، كان هناك إفطار على شرفهم في فندق فينيسيا في بيروت. البعض منهم، وبحسب سلوكه، يحصل على إذنٍ بقضاء أيام في منزله. لا يخاف مطر أبداً من أن يهرب أي من الأولاد: "ضميري مرتاح والثقة هي أهم ما يحصلون عليه هنا إذا كنا فعلاً نريد مساعدتهم على إعادة الانخراط في المجتمع". وقد سبب الأمر انزعاج أحد القضاة، حين علم أن قاصراً متهماً بجريمة شرف سُمِح له بالخروج لزيارة أهله. وحين اتصل القاضي بمطر شرح له الأخير أهمية "الثقة" واستطاع إقناعه وانتهى الحديث من دون أي اعتراض. ويقول مطر: "هناك كثير من الشبان يعترفون بجرائم لم يرتكبوها لكي ينقذوا والدهم أو شقيقهم فيقضون العقوبة عنه!". "عملية إعادة التأهيل" تمر أيضاً بقاعات الدراسة. لكن هذه المسألة أكثر تعقيداً. فمعظم الداخلين أمّيون، وقلائل هم الذين وصلوا إلى مستوى علمي مقبول. تنسيق الدروس بين كل تلك الفئات المتفاوتة يطرح مشكلة، تزيد من حدتها حركة الدخول وإخلاء السبيل. لم يتسنَّ لي الاطلاع على المناهج، إذا كان هناك من مناهج أساساً. ولكن المدير قال لي إن البرنامج يشمل دروساً في "السلوك الأخلاقي"، وفي أدبيات المجتمع، إضافة إلى برامج "محو الأمية". الأمر يتطلب من دون شك اختصاصيين، وهذا ما ينص عليه قانون الاتحاد الداخلي. لكن المدير يعتقد أن "الشهادة هي الخبرة". الخبرة في دفعهم نفسياً إلى التعلم عبر ترغيبهم بالنتائج الإيجابية للقراءة والكتابة. إذاً يمكن أن يكون هناك أساتذة لم يدخلوا الجامعة يوماً ولكن لديهم "خبرة" في "ترغيب" الولد في التعلم! ربما يعود السبب في قلة الاختصاصيين إلى المشكلات المادية. مطر يقول إنّ موازنة الاتحاد لا تسمح بالقيام بكثير من الأمور. فالاتحاد يسعى إلى الحصول من وزارة العدل التي تعاقد معها منذ فترة، على 600 مليون ليرة، أي ما يوازي 400 ألف دولار أميركي، لا تكفي لأكثر من رواتب عشرة أساتذة، ومعاملات الضمان الاجتماعي، وإيجار المبنى، ومصاريف الأكل والتطبيب وأدوات التنظيف... نظرت إلى كل ذلك وكنت مسروراً. ليس لأن هذه الإصلاحية تؤمن كل ما يلزم لإعادة الأحداث بطريقة طبيعية إلى المجتمع بعد كل التوتر الذي تعرضوا له، بل لأنني كنت أقارن طوال الوقت بين ما أشاهده الآن وما كان يجري في إصلاحية بعاصير. حاولت التحدث مع المساجين، لكنّ المدير أصرّ على أن ذلك ممنوع معدِّداً لي الأسباب. وحين خرجت لأودعه رأيت تحقيقاً صحافياً معروضاً على لوح خشبي. اقتربت وكان مرتكزا إلى شهادات المساجين. ربما منعني لأنه وجد أنني مصرّ على "فتح ملف" بعاصير. وهو رفض الاعتراف بأنّ هناك مشكلة. فغادرت وأنا مدرك أنّ ما من صحافي يستطيع فعلاً أن يفهم حقيقةَ ما يجري داخل هذا العالم المغلق إلاّ إن عاش هناك، معهم وبينهم... كانت حقبة سوداء في تاريخ "الاتحاد لحماية الأحداث في لبنان". ومن المؤكد أن مؤسسيها من الشخصيات التي ارتبطت اسماؤها بتاريخ لبنان، لكانوا خجلوا منها. أربعون مراهقاً كانوا مسجونين فيها. هؤلاء الذين كانوا ينتظرون أهلهم حين تفتح البوابة الكبرى مرة في الأسبوع للزيارة، من دون جدوى...فلا أحد يزورهم أو يفكر بهم. هؤلاء الذين كانوا، وعلى رغم ذلك، يوشمون أجسادهم بعبارات "رضاك يا أمي" و"خذوا مني الكون كله ولا تروني دمعة أمي". أذكر قصصهم وحكاياتهم. هناك "الصوص" البالغ اثني عشر عاماً. كان لديه رعب دائم من أن ينام جائعاً. وكان يطلب "الزودة" وإن كان صحنه مملوءاً. معه حق. فكم مرة ظل محمود هو الآخر جائعا؟ والطعام لا يكفي أبداً. وأي طعام! الخبز مهترئ. اللحوم المعلبة سوداء اللون. أما المعكرونة فبالكاد تدخلها إلى فمك حتى تذوب وتتفتت من دون أي طعم. بعكس الحليب الذي لا يذوب أبداً. الدجاج لم يزر المكان يوماً. فقط هناك رز يفقد شكله حين يتكدس في الصحون. أي إنسان عادي كان ليتقيّأ. الأمر كان يقهر "الصوص"، هو الذي عاش من دون أم أو أب يطبخان له ما يشاء. وهناك علي المراهق الطويل والنحيف. خطأه الأكبر أنّه أغرم بفتاة كانت تسكن في المبنى المواجه للإصلاحية. هناك في الليل كان ينام وعيناه مسمّرتان نحوها من خلف القضبان. ذات يومٍ عبّر عن شعوره في رسالة حب شعرية نجح في إيصالها إلى الفتاة. فكان أن اكتشفها مدير الإصلاحية. أذكر مشهد العقاب جيدًا: كان المدير يمسك "علي" بشعره أمام رفاقه في الصف الذي كنت أعطيه ويضرب الزجاج به... حتّى تحطّم! رأيت علي مصادفة مراتٍ عدة بعد خروجه من السجن. لا يزال عاطلاً من العمل. وكلما يراني يطلب مني بضعة نقود. وذات مرة اتصل بي عند الرابعة فجراً من هاتف عام. مشاهد العنف كانت كثيرة. وهذه قصة حسين والأستاذ المسؤول عنه حين دار اشتباك الأيادي بينهما. لم يترك أحد الآخر قبل أن سال الدم من فم الاثنين. وبعد أن نعته الأستاذ بكل أنواع الحيوانات. شقيق حسين كان في الإصلاحية أيضاً والجميع يعرف أنّ خطيئته هي سرقة صندوق بوظة لإطعام أصدقائه. فارتأت والدته أن تتصل بالدرك وترسله إلى الإصلاحية لأن "اللي بيسرق بيضة بيسرق جمل!". شقيق حسين يحب النوم وكان في حينه صغيراً يكبر "الصوص" بسنة واحدة. كان يحب لعب "الداما" وهو شديد الذكاء ويفتخر بأنه يغلبني دائماً حين كنا نلعب سوياً عند الثالثة فجراً. فلا أحد يستطيع النوم هنا. البعوض ينهش أجساد الجميع. والحرارة قاتلة ولا وجود لوسائل التهوئة. المراحيض المجاورة لا باب لها، ويمكن أياً كان تخيل الرائحة التي تجتاح قاعة النوم ليلاً. والفرش مهترئة، عبارة عن قطعة إسفنج رقيقة وفوقها قماش ممزّق. يزيد من وحشية المكان قلة المياه وانعدامها أحياناً. وبعد قضاء فترة بعد الظهر بلعب كرة القدم، وبعد انغماس الأجساد في الوحل والعرق، الحمام لم يكن مسموحاً إلاّ كل يومين. ولم يكن هناك غسالة. والصابون نادر. فرائحة الأجساد غير المستحمة تنبعث طوال الليل. كانت هناك مرشدة اجتماعية تطالب بالتغيير وكان هناك مسؤول آخر يتمتع بثقافة تربوية عالية. هذا أمر لا يمكن نكرانه، لكن ماذا يستطيع اثنان أن يفعلاه وحدهما في وضع كهذا؟ وماذا يستطيع جوزيف أستاذ الرسم الذي كان يأتي إليهم مرة في الأسبوع، سوى الخروج بهم موقتاً من الجحيم الذي كانوا يعيشون فيه عبر الرسوم والألوان؟ ...أخبار الحزن واليأس لا نهاية لها في تلك الإصلاحية التي لحسن الحظ أقفلت أبوابها. لكنني التقيت بالكثير من الأحداث بعد خروجهم وهم الآن راشدون. أحدهم قال لي إنه اضطر للسرقة مرة أخرى كي ينطلق مجدداً في المجتمع. لكنه فعل ذلك مرة واحدة فقط. والثاني وهو كان المفضل لدي، زرته مرات عدة في سجن روميه بعدها، فهو لم يتوقف عن السرقة بعد خروجه حتى عاد وقبض عليه. عددٌ من هؤلاء "الراشدين" الآن يمضي وقته على رصيف "الروشة" في بيروت. وألتقي بهم دائماً لدى خروجي من عملي. يطلبون مني المال ليأكلوا. وأحدهم لا يزال يشمّ "التينير" كي يخرج من عالم الواقع. هذا لا يعني أن كلهم عادوا إلى الطريق التي كانوا يسلكونها من قبل، لا. فحسين وجد عملاً في أحد أكبر مطاعم جونيه. وخالد يعمل صبي "ديليفيري" في مطعم آخر في بيروت. الوضع في الفنار الآن يثير الكثير من الأمل، بعد إقفال إصلاحية بعاصير، على رغم أن المعهد لم يرتفع بعد إلى المستوى المطلوب لإعادة المساجين إلى مجتمعهم بطريقة سليمة. يزيد الأمل وجود أساتذة ومربين تبدو الطيبة عليهم... لكن هناك حقبة سوداء في تاريخ الإصلاحيات. لم يسمع ولم يكتب عنها. وقد أفرزت مراهقين لا يزالون في الشوارع كما كانوا من قبل.