أكدت لجنة مهمات شكلها صندوق النقد الدولي تزايد مخاطر انكماش الأسعار في العشرات من الاقتصادات الصناعية من ضمنها المانيا وسويسرا والسويد وكذلك في عدد من الاقتصادات الناشئة في منطقة شرق آسيا. وخلصت في دراسة تحليلية الى أن احتمال أن تتعرض الولاياتالمتحدة لهذه الآفة ذات الآثار الخطيرة على اقتصادات السوق يبدو ضئيلاً على رغم وجود كم كبير من الغموض في عناصر مهمة من الاقتصاد الأميركي. تعاني الصينوهونغ كونغ وتايوان من هبوط عام في الأسعار منذ أعوام، الا أن صندوق النقد لفت الى أن الآونة الأخيرة شهدت تزايداً واضحاً في القلق من احتمال تحول الهبوط الى انكماش حاد وانتشار المشكلة على نطاق واسع، على خلفية سلسلة من التحديات ذات الأبعاد الدولية وخصوصاً الخسائر الهائلة التي لحقت بأسواق المال في الأعوام الثلاثة الماضية وتكرار خيبة الأمل في وتيرة انتعاش الاقتصاد العالمي. وكان مجلس الاحتياط الفيديرالي المصرف المركزي الاميركي أعلن رسمياً في وقت سابق من الشهر الجاري، عبر بيان للجنة السوق المفتوحة، أن أميركا "تواجه احتمالاً ضئيلاً بحدوث انخفاض كبير غير مرغوب فيه في التضخم"، ما اعتبره اقتصاديون اقراراً بتعرض الاقتصاد الأميركي لخطر الوقوع في مصيدة انكماش الأسعار التي سبق أن وقعت فيها اليابان بعد انفجار فقاعة سوقها العقارية أواخر الثمانينات ولا تزال حبيسة جدرانها. ومن دون التقليل من خطورة التجربة اليابانية، أحدث اعلان مجلس الاحتياط الفيديرالي ضجة عالمية بعدما أعاد ذكريات "الكساد العظيم" الذي بدأ في أميركا بعد انفجار فقاعة الأسهم الأولى أواخر العشرينات، وكان من آثاره تسريح 25 في المئة من الموظفين والعمال وانخفاض الانتاج الصناعي الى النصف وانهيار النظام المصرفي، قبل أن ينتقل الى كل أنحاء العالم الصناعي مدمراً القدرات الشرائية للمستهلكين ودافعاً ملايين المدينين الى الافلاس. وميزت لجنة صندوق النقد بين نوعين رئيسيين من انكماش الأسعار، أولهما ينجم عن انهيار الطلب على السلع والخدمات من طريق صدمات تصيب القدرة الشرائية للمستهلكين وهو النوع الغالب والأشد خطورة، وثانيهما ينجم عن صدمات العرض مثل حدوث تضخم في المعروض من السلع والخدمات من دون وجود طاقة كامنة في الطلب لتحييد آثاره السلبية في الأسعار، وهو أقل خطورة من سابقه وينحصر انتشاره في الصين في الوقت الراهن. وذكرت اللجنة في دراسة مستفيضة من 74 صفحة نشرتها ليلة الأحد الماضي أن اليابان تتصدر لائحة الدول الأكثر عرضة لمخاطر انكماش الأسعار الناجم عن صدمات الطلب وتليها مباشرة هونغ كونغ وتايوان والمانيا، بينما تأتي أميركا في أسفل لائحة الدول التي تواجه قدراً ضئيلاً من المخاطر ويليها صعوداً 15 بلداً من ضمنها بريطانيا وهولندا والمكسيك وكوريا الجنوبية وفرنسا وايرلندا والصين وكندا والبرازيل والنمسا. وعلاوة على لائحتي اليابان وأميركا، أكدت اللجنة أن عشرات الدول الأخرى تواجه درجات متفاوتة من مخاطر انكماش الأسعار، إذ تضم لائحة الدول الأقل عرضة لهذه المخاطر ثمانية اقتصادات من ضمنها استراليا والدنمارك وماليزيا وروسيا وجنوب أفريقيا واسبانيا، بينما تواجه سبع دول هي بلجيكا وفنلندا والنروج والبرتغال وسنغافورة والسويد وسويسرا مخاطر متوسطة تقترب في حدها الأعلى من المخاطر القياسية التي تواجه اليابان. وأبدى الاقتصاديون في صندوق النقد تفهماً للقلق من احتمال انضمام الولاياتالمتحدة الى النادي الياباني تحت ضغط تحديات مالية ضخمة تواجهها بسبب هبوط أسواق المال والمستويات المرتفعة من المديونيات التي تراكمت على الشركات والمستهلكين في الأعوام الأخيرة من التسعينات، لكنهم أكدوا أن تفجر مشكلة مستدامة في انكماش الأسعار في أميركا يبدو احتمالاً بعيداً وان الاحتمال الذي لا يمكن استبعاده هو ما أعلنه مجلس الاحتياط، أي حدوث انكماش حاد في التضخم على مدى بضعة شهور. واعترفت لجنة المهمات بادئ ذي بدء بأن تقويم فرص وقوع أميركا في شبكة انكماش الأسعار يحتاج الى اتضاح أمور مهمة ما زالت تتسم بالغموض، وعلى رأسها مدى تأثر الطاقات الشرائية للمستهلك الأميركي بأي انخفاضات مستقبلية في أسعار الأسهم، كذلك مدى تأثر النشاط الاستثماري للشركات بمشاكل الطاقات الانتاجية الفائضة التي يعاني منها عدد من القطاعات الرئيسية مثل قطاع الاتصالات، وأخيراً الآثار السلبية للمخاوف الأمنية والمخاطر الجيوسياسية. وأوضحت أن مصادر الخطر التي يواجهها الاقتصاد الأميركي تتلخص في مسألتين اثنتين، أولاهما أن حاجة المستهلك لإعادة بناء ثروته التي التهمتها أسواق المال قد تضطره لخفض الانفاق، معرضاً بذلك الطلب المحلي لضغوط هي في الأساس عرضة للتفاقم بسبب تعاظم مشكلة البطالة وتلاشي أثر الحافز الضريبي الذي أقره الكونغرس عام 2001، وثانيتهما عدم بروز مؤشرات على استعادة النشاط الاستثماري للشركات كامل عافيته. لكنها لفتت الى أن الطلب المحلي تلقى في مدى العامين الأخيرين صدمات قوية شملت سلسلة الفضائح المحاسبية للشركات وهجمات أيلول سبتمبر عام 2001 وتداعيات المخاطر الجيوسياسية ومن ضمنها الحرب على العراق، علاوة على استمرار نزيف الخسائر في أسواق المال، الا أن ذلك كله لم يؤثر كثيراً في انفاق المستهلكين الذي استمر في النمو، معززاً، جزئيا على الأقل، بارتفاع أسعار العقار السكني. وتقدر خسائر فقاعة أسهم تقنية المعلومات بزهاء سبعة تريليونات دولار وبلغ نصيب المستثمرين الدوليين من هذه الخسائر الهائلة أزيد من تريليون دولار، بينما كان الباقي من نصيب الأسر الأميركية التي رفعت صافي ثروتها في ذروة أسواق المال الى 43.5 تريليون دولار، ما يعادل 6.3 ضعف صافي دخلها، إلا أن ثروتها لا تزيد اليوم كثيراً على 39 تريليون دولار، ما يعادل 4.9 ضعف صافي دخلها، وذلك على رغم ارتفاع قيمة عقاراتها السكنية بمقدار 1.5 تريليون دولار في العامين الأخيرين. وأوضحت لجنة صندوق النقد أن الخسائر الضخمة التي لحقت بالمستثمر الأميركي كان من شأنها، في الظروف العادية، أن تحدث انخفاضاً حاداً في الانفاق الاستهلاكي الذي يشكل زهاء ثلثي اجمالي الناتج المحلي، الا أن التوقيت السليم لمشروع الخفض الضريبي الذي اقترحته ادارة الرئيس جورج بوش وأقره الكونغرس عام 2001 ساهم في امتصاص الصدمة بقدر ما ساهمت الخفوضات التي أجراها مجلس الاحتياط على أسعار الفائدة الأساسية في دعم أسعار العقار السكني. واعتبرت اللجنة انكماش التضخم بمثابة نتيجة طبيعية لضخامة الطاقات الانتاجية الفائضة لدى الشركات الأميركية، مشيرة الى أن أسعار الجملة سجلت تراجعاً أعلى بكثير من أسعار المستهلك. وكان المعدل السنوي لنمو مؤشر أسعار المستهلك الأساسي باستثناء أسعار المواد الغذائية والطاقة تباطأ الى 1.75 في المئة في آذار مارس وكذلك في نيسان ابريل الماضيين مقارنة باثنين في المئة عام 2002 و2.75 في المئة عام 2001، بينما سجل المؤشر العام نمواً بمقدار ثلاثة في المئة على رغم انخفاض أسعار الطاقة بنسبة 4.5 في المئة. ولفتت لجنة صندوق النقد الى تأثر أداء الاقتصاد الأميركي بالطاقات الانتاجية المعطلة للشركات، موضحة أن تسارع انتاجية العامل الأميركي في النصف الثاني من التسعينات كان لا بد أن يعني أن طاقة النمو المحتملة للناتج المحلي ستكون أعلى بكثير من النمو القابل للتحقيق في الظروف الراهن^، وسينجم عن ذلك فجوة انتاجية بلغ مقدارها في الفصل الأول من السنة الجارية أزيد قليلاً من 2.5 في المئة وأدت الى اطلاق عوامل انكماش التضخم. لكنها أبدت تفاؤلاً في آفاق الاقتصاد الأميركي، معتبرة أن توافر اجراءات نقدية ومالية موائمة، ممثلة في المستويات المنخفضة لأسعار الفائدة وتسريع عملية تطبيق بنود منتخبة من مشروع الخفض الضريبي علاوة على استمرار مكاسب الانتاجية، يجعل من المتوقع أن يبدأ الناتج المحلي بتعزيز نموه في النصف الثاني من السنة الجارية، لا سيما مع تحقيق الشركات أرباحاً مشجعة في الفصل الأول وبروز مؤشرات على انتعاش ثقة المستهلكين وقطاع الأعمال.