مع بدء العمليات العسكرية، التي تم التحضير لها طويلاً، تكون الولاياتالمتحدة قد اطلقت النار على منظمة الأممالمتحدة، منهية بذلك اكثر من خمسين عاماً من نظام عالمي متعدد الأقطاب أعقب مؤتمر يالطا بعد الحرب العالمية الثانية. لقد تعدّت حسابات الحرب نطاق العراق والشرق الأوسط لتضع أسساً جديدة لنظام عالمي جديد تختلف فيه اشكال الصراعات والاستقطاب العالمية تماماً عن فترة الحرب الباردة ذات القطبين العظيمين. ويقودنا ذلك الى استشفاف فلسفة الصراع المقبل والنظام الذي سيحدد طبيعة العلاقات الدولية في العقود الأولى من القرن الحالي، فقبل الحرب واثناء محاولات استصدار قرار ثان من مجلس الأمن في شأن الوضع في العراق برز فرز جديد للقوى على الساحة الدولية، فمن جهة هناك الولاياتالمتحدة مدعومة من بعض الدول، يقابلها الاتحاد الأوروبي مدعوماً من روسيا الاتحادية، وتقف في اقصى الشرق الصين وبلدان كبيرة، كاليابان والهند، بمواقف غير محسومة تماماً. من تكوينات هذه التشكيلة من القوى الكبيرة والمؤثرة يمكن الخروج باستنتاج عن طبيعة الصراع المقبل والذي ربما يؤكد بعض النظريات التي ظهرت أخيراً في اطار هذا الصراع، وفي الوقت نفسه ينفي صحة نظريات اخرى. وتقف على رأس هذه النظريات اثنتان، يتزعم الأولى صموئيل هنتنغتون بشأن صراع الحضارات واعادة بناء النظام العالمي الجديد، وتكثر في هذا المجال الإشارة بصورة اساسية الى صراع الحضارة الغربية المسيحية والحضارة العربية الاسلامية. أما النظرية الأخرى فيتزعمها العالم الاقتصادي البارز ليستر ثورو، وهي تتعلق بالصراع المقبل بين الولاياتالمتحدة وأوروبا واليابان كممثلة لآسيا، باعتبارها اكبر قارات العالم مساحة وسكاناً. وبعيداً عن الآثار الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية التي ستنجم عن الحرب الدائرة، فإن هذه الحرب ربما تكون قد حسمت الخلاف بين النظريتين لمصلحة النظرية الثانية - مرحلياً - التي يتزعمها البروفسور ثورو، فصراع المصالح الاقتصادية والذي اكد عليه ثورو في كتابه المتناطحون "رأساً برأس" يشير الى ذلك بوضوح لا لبس فيه. انطلاقاً من هذه المصالح المتعارضة جرى الانقسام بين الولاياتالمتحدة وأوروبا والصين حول الحرب على العراق، ووقفت أوروبا المسيحية بحزم لم يسبق له مثيل ضد الحرب على دولة مسلمة يحتوي باطن أراضيها على ثروات طبيعية هائلة، تأتي الثروة النفطية في مقدمها، علماً بأن الحكومات الغربية التي أيدت الحرب لاقت معارضة قوية من شعوبها، والتي رأت مصالحها في الوقوف مع معسكر السلام، حيث ستضطر حكومات هذه الشعوب الى مراجعة مواقفها في المستقبل. ربما تنتهي الحرب بالسرعة التي خطط لها واضعوها، وربما تطول أو تقصر، إلا ان صراع المصالح بين الأطراف الكبيرة والمؤثرة سيستمر سنوات طويلة وستشكل منظومات عالمية تحدد طبيعة المصالح الاقتصادية، وليس الانتماء الاثني أو العرقي، ففي عصر العولمة والأسواق المفتوحة لن تكون لرأس المال أوطان صغيرة لا تستوعبها امكاناته وقدراته المالية الهائلة، فاليورو أزاح في فترة زمنية قصيرة عملات دول أوروبية عريقة ليقف موقف الند من الدولار الاميركي، مع كل ما يعنيه ذلك من انعكاسات اقتصادية وسياسية مهمة للغاية. هل يعني ذلك ان الحرب الاميركية على العراق خلقت شكوكاً جادة حول نظرية هنتنغتون الخاصة بصراع الحضارات واعطت دفعاً قوياً لنظرية ثورو حول صراع المصالح الاقتصادية؟ ربما يكون في هذا الاستنتاج الكثير من الصحة. فالعرب والمسلمون ليس في مصلحتهم تبني نظرية صراع الحضارات لما فيها من اقحام لهم في صراع عالمي تميل فيه موازين القوى بصورة خطيرة للجانب الآخر، علماً بأن الصراع العالمي على مرّ التاريخ يدور عادة بين طرفين متكافئين، علاوة على ان هذه النظرية تفتقد الى أبسط القيم الانسانية، فالهوية الاثنية أو الثقافية لشعب من الشعوب لا يمكن بأي حال من الاحوال ان تشكل سبباً للاساءة الى هذا الشعب أو ذاك، فالانجازات العلمية والثقافية التي يتمتع بها العالم في الوقت الحاضر هي في أبسط صورها تراكمات لإبداعات حضارات انسانية متعاقبة، بما فيها الحضارة العربية الاسلامية. أما تفاوت المصالح، فإنها حال ملازمة للتطور البشري منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها، وهو حاضر كذلك في نطاق المجتمع الواحد والدولة الواحدة، وفيما بين أقطاب الحضارة الواحدة ايضاً، كما تؤكد ذلك الأحداث التاريخية المتعاقبة. وفي هذا الصدد، يمكن الإشارة الى ان طبيعة وحدة صراع المصالح تختلف وتتفاوت بين مرحلة تاريخية واخرى، الحرب الدائرة حالياً تؤسس لمرحلة جديدة من صراع المصالح والذي ستبرز ملامحه مع انتهاء الحرب، فأوروبا واليابان والصين والهند سيزداد اعتمادها على امدادات النفط من الخليج في العقود المقبلة، في الوقت الذي سيكون فيه نفط العراق والذي سيصل انتاجه الى مستويات قياسية تقدر ب8 - 10 مليون برميل يومياً انتاج العراق الحالي يتراوح بين 2.25 مليون برميل يومياً سيكون تحت ادارة شركات اميركية ستسعى الى فرض شروطها وتدافع عن مصالحها، وبالأخص تلبية الاحتياجات المتزايدة لمصادر الطاقة في الولاياتالمتحدة الاميركية. ويشير معظم الدراسات والتقارير المتخصصة في الطاقة الى ان واردات الولاياتالمتحدة من النفط ستتضاعف مع نهاية العقد الحالي لتصل الى 15 مليون برميل يومياً، وهو ما يعادل اكثر من نصف اجمالي انتاج منظمة "أوبك" في الوقت الحاضر، وذلك، كنتيجة طبيعية لارتفاع استهلاك النفط وفي الوقت نفسه تراجع كمية انتاجه في الولاياتالمتحدة. هذه التطورات المرتقبة والخاصة بتناقض مصالح القوى الكبرى لا تؤيد البنية الهشة لنظرية هنتنغتون ذات الطابع المتعالي، بل ان منطق أحداث الحرب وما سبقها من خلافات يشيران بوضوح الى ان المصالح هي المصالح بغض النظر عن الانتماء الاثني أو العرقي، أو كما قال تشرشل قبل اكثر من نصف قرن انه لا يوجد أصدقاء دائمون، هناك مصالح دائمة. عواقب الحرب ستكون كبيرة وخطيرة وانعكاساتها لن تشمل الشرق الأوسط فحسب، وانما العالم بأجمعه، فهناك تغيير جذري في الخريطة النفطية للمنطقة وانتقال لمركز الثقل فيها وهناك تغيير في التقسيم الجيو - سياسي والاستراتيجي ضمن مشروع كامل للمنطقة، ربما يستغرق عقداً كاملاً من الزمن. وبالتأكيد، فإن لهذه الانعكاسات نتائج لا تقل أهمية وخطورة تتطلب حكمة كبيرة في التعامل معها للحفاظ على المكاسب والمصالح الخاصة بكل طرف. وإذا كانت غنائم الحرب قد وزعت قبل ان تبدأ هذه الحرب، فإن القضايا الأهم والخاصة بتحديد مصالح كل طرف ستبدأ فور انتهاء العمليات العسكرية في المنطقة، وهنا بالذات ستتأكد من جديد نظرية المصالح الاقتصادية والتي لا يمكن ان تحل محلها أي نظرية اخرى مهما كانت دوافعها الاثنية أو العقائدية. * خبير اقتصادي من البحرين.