عندما حذر سير جورج براون أميركا من الانفراد بالنفط العراقي بعد الحرب منبهاً إلى ضرورة احترام أصول اللعبة التنافسية أراد، ربما عن غير قصد، نبش التاريخ والتذكير بحملة إعلامية شديدة اللهجة شنتها الصحافة الأميركية بداية العشرينات من القرن الماضي على شركته "بريتيش بتروليوم" ونظيرتها الفرنسية "كومباني فرانسيز دي بترول" حين حاولت بريطانيا وحليفتها فرنسا فعل الشيء نفسه بعد نجاحهما في تمزيق الدولة العثمانية وتقاسم أوصالها وثرواتها وفي مقدمها نفط بلاد مابين النهرين. قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى التي قدمت لبريطانيا انتصاراً ساهم العرب في صنعه ليقعوا لاحقاً في "الخديعة الكبرى" لم يكن النفط العراقي الاهتمام الأول لشركة "بريتيش بتروليوم" التي كانت تأسست، تحت اسم "الشركة البريطانية - الفارسية" بعد سنة من اكتشاف وليم دارسي النفط في إيران عام 1908 بل لم يكن ضمن أولويات الحكومة البريطانية التي كانت قررت للتو تحويل اسطولها من الفحم إلى النفط وتملكت حصة غالبية في الشركة الغضة إلا أنها سمحت لحليفتها فرنسا، في اتفاقية "سايكس بيكو" السيئة الصيت بالحصول على جل المناطق الغنية بالنفط في شمال العراق. وذكر مراقبون يخشون أن يكون النفط الهدف الأساسي للحرب الجديدة على العراق، مثل جيمس بول من "منتدى السياسة العالمية" في نيويورك، أن بريطانيا دفعت بجنودها إلى العراق عام 1916 لا لضمان منفذ بري إلى أسواق الهند وحسب بل لإدراكها فداحة الخطأ الذي ارتكبته مع حليفتها في شأن شمال العراق إلا أن فرنسا عرفت كيف تضمن حصتها من ميراث الرجل المريض وقبل اكتشاف دارسي الشهير نفط كركوك عام 1927 كانت اسست شركتها الوطنية لمشاركة "بريتيش بتروليوم" في مشاريع النفط العراقي. كذلك نشرت الدورية المخضرمة "أتلانتيك"، التي تصدر في بوسطن منذ قرن ونصف القرن، ما يعتبر التحقيق الأكثر جرأة وشمولية وطولاً عن تبعات الحرب على العراق وخلصت إلى أن القضاء على النظام العراقي سيرتب على أميركا مسؤوليات أدبية ومادية جسام من شأنها أن تجعل العراق بمثابة الولاية الأميركية ال51 لكن عندما جاء الأمر للحديث عن الأمور الأخرى ذكرت بحقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى ولم تجد ما يدعو للشك في أن النفط العراقي سيكون مسؤولية شركات النفط. تقاسم النفط العراقي ووقع النفط العراقي تحت مسؤولية شركات النفط للمرة الأولى حال تأسست "شركة النفط التركية" عشية الحرب الكبرى كمشروع بريطاني - ألماني ومع خروج ألمانيا من اللعبة وانتقال ميراثها الى فرنسا نجحت الحملة الإعلامية الأميركية في فرض اتفاق أعاد تشكيل فريق اللاعبين الأساسيين ليشمل "رويال داتش شل" وكونسورتيوم من خمس شركات أميركية أهمها "ستاندرد أويل" إكسون موبيل علاوة على الشركتين البريطانية والفرنسية وحصل الشركاء على حصص متساوية بواقع 23.75 في المئة لكل منهم. وعكس الاتفاق الذي تم التوقيع عليه في تموز يوليو 1928 بداية تحول في تشكيلة القوى العظمى أكثر مما عكس من نجاح حملة إعلامية وإن كان ارتبط سريعاً بمصالح الشركات وتناقضاتها وعلى رغم حصول شركة النفط التركية التي تحول اسمها لاحقاً إلى "شركة نفط العراق" على امتياز مدته 75 عاماً اعتباراً من عام 1925 بدت غالبية الشركاء، بإستثناء الفرنسية المتعطشة للنفط، على غير عجلة من أمرها وتأخرت عملية تطوير الحقول العراقية نحو تسعة اعوام بعد اكتشافها. ومع انتهاء فترة التأخير وحل مشكلة النقل بمد خطي أنابيب إلى طرابلسلبنان وحيفا فلسطين منتصف الثلاثينات بدأت عمليات تصدير النفط العراقي إلى الأسواق الخارجية عام 1938 وبلغ متوسط الإنتاج العراقي آنذاك زهاء 82 ألف برميل يومياً وذلك قبل أن ينخفض بحدة بسبب ما جلبته الحرب العالمية الثانية من مخاطر إلى مياه البحر المتوسط ثم إغلاق خط حيفا الأول وخط ثان ضخم قيد الإنشاء غداة قيام إسرائيل عام 1948. وحمل مطلع الخمسينات تطورات بدأت بارتفاع إنتاج الحقول العراقية إلى أكثر من 400 ألف برميل يومياً ومد خطي أنابيب للتصدير عبر الفاو الخليج وبانياس سورية وتوجت باتخاذ العراق الخطوات الأولى لفرض سيطرته على صناعته النفطية بتملك مصفاة صغيرة في كركوك من شركة نفط العراق والتعاقد مع متعهد أميركي لبناء مصفاة جديدة قرب بغداد وكذلك حذوه حذو السعودية وفنزويلا بالحصول على ضريبة بواقع 50 في المئة من كل الأرباح المحققة لشركات النفط العاملة في العراق. لكن العراق لم ينعم طويلا بتضاعف دخله وفي سلسلة من التطورات التاريخية سجلتها مكتبة الكونغرس أقدمت شركات النفط عامي 1959 و1960على خفض سعر نفوط الشرق الأوسط في خطوة انفرادية أثارت غضب قادة "ثورة 1958" الذين لم يكونوا في الأصل راضين عن السياسة التي انتهجتها هذه الشركات بحصر عمليات التطوير والإنتاج في 5 في المئة فقط من مناطق الامتياز وفي ما يعتبر رد فعل على ذلك كله استضاف العراق مؤتمر أيلول سبتمبر 1960 الذي شهد ولادة منظمة الدول المصدرة للنفط أوبك. وتتالت الأحداث سريعاً وعلى رغم تأكيد شركات النفط مدى نفوذها وسطوتها في أحداث تأميم النفط الإيراني إلا أن العراق أصدر أواخر عام 1961 قانوناً يقضي بمصادرة مناطق الامتياز غير المستغلة وأتبعه أوائل عام 1964 بتأسيس شركة النفط العراقية التي أوكل إليها مهمة تطوير المناطق المصادرة ومنحها، بقوة القانون، حقاً حصرياً في تطوير الاحتياط العراقي مضافا إليه صلاحية دعوة شركات النفط ومن ضمنها شركة نفط العراق ل"المشاركة" في تطوير الإمتيازات القائمة. وبات من الحقائق المشهورة الآن أن شركات النفط سعت إلى تلقين العراق درساً قاسياً ليس على نمط السابقة الإيرانية وإنما عبر خفض أسعار نفطه ومعدلات إنتاجه مستغلة مسألة احتفاظها بحقوق الامتياز في حقل كركوك الضخم إضافة إلى مسؤولية نقل نفطه وتسويقه واعترفت هذه الشركات بمحاولاتها عندما وافقت لاحقاً على دفع مبلغ 350 مليون دولار كتعويض للعراق عن الخسائر لحقت به من جراء ممارساتها التسويقية. وسبق الاعتراف اقتراح من "شركة نفط العراق" بزيادة الإنتاج والأسعار مقابل الحصول على تعويض عن مناطق الإمتياز المصادرة وجاء رد العراق في قرار أعلنه في حزيران يونيو عام 1972 باستعادة المناطق الباقية من الامتياز، مطلقاً بذلك مساراً من المفاوضات الصعبة التي إنتهت مطلع العام التالي باتفاق اعترفت الشركة بموجبه بحق العراق في تأميم صناعته النفطية وكتعويض حصلت في المقابل على 112.350 مليون برميل من نفط كركوك بلغت قيمتها آنذاك 300 مليون دولار وتصل في الراهن إلى قرابة 3 بلايين دولار. لكن العراق، الذي استكمل فرض سيادته الكاملة على نفطه عام 1975 لم يغلق الباب أمام شركات النفط كأصحاب امتيازات إلا بعدما فتحه أمامها كشركاء ومتعهدين وابتداء من عام 1967 تعاقدت شركة النفط العراقية مع شركات فرنسية وروسية وإيطالية ويابانية وهندية وبرازيلية بموجب "اتفاقات خدمة" التي تختلف عن الامتيازات بحصر مهمة الشركة المتعاقدة بأعمال التنقيب والتطوير بينما يتحمل البلد المضيف كل النفقات والمخاطر ويلتزم كذلك ببيع النفط المكتشف لهذه الشركة بأسعار مخفضة. وأثمرت اتفاقات الخدمة مساعدات روسية ساهمت في تطوير حقل الرميلة الشمالي الذي بدأ الإنتاج عام 1972 بمعدل يناهز 80 ألف برميل يومياً وكذلك كشوفات جديدة حققتها "مؤسسة الأبحاث والنشاطات النفطية" أوراب وهي شركة تابعة للحكومة الفرنسية في قطاع كبير من جنوبالعراق وبدأت عمليات الإنتاج في القطاع المذكور عام 1976 التي شهدت عملية إعادة تنظيم شاملة لصناعة النفط العراقية.