مقولة أن أميركا دولة لا يمكن أن تعيش من دون عدو يبدو أنها فرضية يساندها التاريخ بدءاً بالهنود الحمر البدائيين ومروراً بالإنكليز المستعمرين والمكسيكيين المتخلفين والشيوعيين الملحدين وانتهاءً حتى إشعار آخر بالمسلمين المتطرفين وفق وجهة النظر الاميركية. اذ انتهجت بلاد العم سام خلال هذا التاريخ الوجيز من عمر الشعوب سياسة مطردة لإقصاء الآخر واضطهاده مدفوعة بالتهور والجلافة المشهورة للكاوبوي الأميركي المشهود له بالتعامل الهستيري مع الغريم مذ قام الرواد والمهاجرون الأوائل البروتستانت التطهيريون بدافع من تطبيقهم لحرفية الكتاب المقدس، وحتى إلقاء القنابل النووية على الشعب الياباني العدو. ولم تنته هستيريا الانتقام عند هذا الحد بل نالت كذلك من مواطنيها الأميركيين من أصل ياباني فزجّ بأكثر من 120 ألف من هؤلاء في مخيمات التجميع لمدة قاربت الثلاث سنوات كانوا فيها أشبه بسجناء حرب على أرض وطنهم التي لا يعرف غالبيتهم سواها. وكانت ردود الأفعال العنيفة هذه مدعومة ومباركة بواسطة رجال السياسة والصحافة والفكر وليس فقط جنرالات الجيش وأركان الحكومة. وعلى رغم رفع الولاياتالمتحدة شعارات الديموقراطية وحرية الفكر، إلا أنها في شواهد تاريخية عدة، لا تقل انغلاقاً وضيقاً بالرأي المخالف عن الدول التي تصمها بالرجعية والتخلف، ومن أبرز الشواهد على ذلك المكارثية التي انتهكت في الخمسينات حرية الآلاف من السياسيين والمفكرين والأدباء والفنانين بتهمة اعتناقهم الأفكار الشيوعية الهدامة. والقصد من هذه المقدمة ان العرب والمسلمين في الولاياتالمتحدة لن يكونوا بدعاً من الناس إذا ما لاقوا معاملة سيئة واتهامات سندها في الغالب الشبهة المحضة والريبة المسبقة. فإذا كان مصير الكثير من الأفراد المشهورين من الانكلوساكسون الملاحقة والتشهير وحتى السجن، فلا عجب في مصير مواطني الدرجة الثانية وأبناء "الشعوب المارقة"، والمبدأ الراسخ في هذا الباب أن الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا. شعار المكارثية الجديدة: أبرز بطاقتك وخلال العام المنصرم انداح حبرٌ كثير ليسوّد صفحات الصحف وانبحت أصوات المحللين في وسائل الإعلام المختلفة وهم يرصدون ذيول أحداث 11 أيلول سبتمبر وتأثيرها في الاوضاع السياسية والثقافية والاقتصادية للأمة الاسلامية. وما نريد الاشارة اليه هو الانتكاسات الكئيبة الظلال التي ستخيم على مناخ البحث العلمي. اذ لا شك في ان الكثير من الباحثين والعلماء والدارسين العرب في الولاياتالمتحدة سيتضررون كثيراً كنتيجة حتمية لسياسة "الأمن أولاً" التي تنتهجها الإدارة الأميركية. والمحتمل أن تخصصات علمية مثل بعض فروع التقنية الحيوية والفيزياء النووية والإشعاعية والكيمياء وعلوم وهندسة الطيران بل حتى الحاسب الآلي وشبكة الإنترنت، سيواجه العاملون والباحثون من أصول إسلامية فيها تحديات حقيقية. وبحكم التخصص نركز غالبية الأمثلة التالية على مجال الكيمياء والصناعات الكيماوية والبترولية التي تعتبر من أكثر المجالات العلمية التي تقضّ مضجع الحكومات والإدارات الغربية لاحتمال حصول تخريب أو اختراق لها من جانب من يوصفون ب"الإرهابيين" و"الأصوليين". ولفهم سبب هذا القلق لك نشير الى أن بعض التحذيرات المدعمة علمياً تؤكد أن اختراق أو تخريب محكم التنفيذ في بعض المصانع الكيماوية القريبة من المناطق المأهولة بالسكان قد يتسبب في مقتل وإصابة أكثر من 20 ألف شخص، وهو بالمناسبة ما حصل فعلاً في حادث تسرب مادة قاتلة من مجمع كيماوي في الهند عام 1984. لذا زادت بعد الأحداث الأخيرة في شكل ملحوظ الاحتياطات المتخذة لضمان أمن المصانع الكيماوية، اضافة الى الحراسة المشددة عند نقل المواد الكيماوية أو تخزينها. ومع ذلك لا يخفي المسؤولون في كل الصعد الحكومية والصناعية قلقهم من التعرض لهجوم محكم التخطيط يقوم به "انتحاريو النينجا" كما يسمونهم. ووصلت درجة الهلع حد حظر نصب لوحات إرشادية تدل على أماكن وجود المرافق الحساسة مثل مستودعات التخزين أو غرف التحكم، ووصل الأمر أن بعض خبراء الأمن نصحوا بعض المصانع بتغيير محتوى مواقعها على الإنترنت. وفي صورة مشابهة لجأت الجامعات ومراكز البحوث والمختبرات إلى اجراءات أمنية غير مسبوقة أحالتها إلى كيانات تقارب الثكنات العسكرية. ووضع بعض أقسام الكيمياء في الجامعات العريقة مثل جامعة هارفرد كاميرات مراقبة على مداخلها، وصدر قانون جديد يلزم الباحثين الذين يستخدمون بعض المواد الكيماوية السامة والخطرة بتسجيل أنفسهم مسبقاً لدى الحكومة الفيدرالية وألا يمانعوا من التفتيش على مختبراتهم في أي لحظة ومن دون إشعار مسبق. ويضاف إلى هذا وذاك أن كل الجامعات الأميركية أصبحت ملزمة بكتابة تقارير دورية عن طلابها الأجانب وفي كل التخصصات. وفي السنة المنصرمة تشددت جامعات غربية عدة في تطبيق قوانين الإقامة وحالت بين بعض الطلبة والباحثين وبين الدراسة في بعض المجالات الدراسية أو بعض المختبرات العلمية أو حتى الحصول على سكن جامعي. وغني عن القول ان آثار هذه المعوقات المتزايدة على الإنتاج العلمي للباحثين أو العاملين العرب ستكون ذات نتائج سلبية. ولا يحتاج المرء الى كثير فطنة ليدرك أن حزمة الأنظمة والقوانين والعراقيل لن تكون إلا كالعصي التي تعوق حركة عجلة التنمية. وكما هي الحال مع الإبداع الفكري والأدبي، فإن الإبداع العلمي يتطلب أجواء الحرية والانفتاح والشعور بالأمان والثقة. كلنا في نظر الأميركيين شرق يبدو أن الغرب يعتقد جازماً أن الأمة الإسلامية كيان واحد وجسم واحد، وهذا الإدراك السليم لحال الأمة دفعه الى التعامل بمبدأ الريبة والشك مع كل ما يمت الى الإسلام والعروبة بصلة أو نسب. ولهذا وضع علماء المسلمين وعامتهم في سلة واحدة ووزنهم بميزان واحد، يستوي في ذلك من يعيش في الغرب أو من يقيم في وطنه الأصلي. ولعل هذا يشرح وإن كان لا يبرر سبب المقاطعة والحصار العلمي الذي أقامه الغرب من جانب واحد على الإنتاج العلمي والتقني الذي يمكن أن تجود به القريحة العربية أو المسلمة. ولا تخفى علينا الأخبار المتزايدة التي بدأت تقلق المجتمع الأكاديمي والبحثي في بلداننا العربية والإسلامية من التضييق والمنع لأعداد متزايدة من طلبة الجامعات والباحثين والأكاديميين الذين يمموا مطيهم إلى الولاياتالمتحدة ومن دار في فلكها المتشدد والمتشكك. فحتى إشعار آخر ستزداد طولاً قائمة أسماء أبنائنا المرفوضين من بدء دراساتهم الجامعية أو العليا في الولاياتالمتحدة حتى وإن كان بعضهم حصل قبل الاحداث على قبول ممهور ومختوم بالتراحيب الحارة. أما أولئك الذين حظوا بهذا الشرف الذي لا يدانى منذ سنوات مضت فهم يعيشون اليوم على اعصابهم ويدعون الله مقلب القلوب ألا يغير عليهم ثقة مشرفيهم أو أقسامهم العلمية بهم وأن يرد كيد ال"أف بي آي" إلى نحورهم وأن يكف أيدي دوائر الهجرة والإقامة عنهم. وأصبحنا نسمع عن بعض طلاب الدراسات العليا الذين ترفضهم جامعاتهم حتى بعدما أكملوا كتابة أطروحاتهم ورسائلهم العلمية، ونسمع عن آ خرين لم يستطيعوا العودة الى معاهدهم بعدما قدموا الى بلدانهم الاصلية لقضاء اجازاتهم السنوية. أما من ابتلاه الله بالحاجة الماسة إلى مواد أو كواشف كيماوية أو حتى بعض قطع الأجهزة العلمية، فلا حيلة له إلا الانتظار الشهور الطوال ليتمكن من تأمين مفاتيح بحثه العلمي، هذا إن أرسلت هذه المواد أصلاً بعدما كانت توفر في بضعة أسابيع على الأكثر. وبالجملة، كل الدلائل تشير إلى أننا الوجه الجديد الذي أُلحق بالقائمة السوداء التي تحوي "الدول المارقة" التي تشرّع في أبنائها أنظمة يعود بعضها إلى عام 1993 تحظر على الجامعات البريطانية على سبيل المثال قبول أبناء هذه الدول في بعض التخصصات العلمية الحساسة. وفي صورة مشابهة ناقش الكونغرس الأميركي ومنذ عام 1996 حظر بعض الأفراد المشكوك فيهم من روسيا والصين من العمل أو البحث في مختبرات ومراكز الأبحاث المتقدمة بحجة الخوف من التجسس التقني. وبالتالي، فإن الخشية هي ان يكون الفيل الاميركي يسير على خطى الدب الروسي فتؤول أميركا إلى مصير الدول البوليسية الظلامية كما هي حال الاتحاد السوفياتي سابقاً وحال ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية. فبعد فترة ازدهار علمية في زمن لينين تدهور التقدم العلمي في الاتحاد السوفياتي في شكل مريع في زمن ستالين بسبب شكوكه المريضة في أن مجموعة من العلماء لها اتصالات مع دول أجنبية، ما نتج منه إقامته لعشرات المحاكمات الهزلية لعلماء ومهندسين بارزين سجن بعضهم ونفي وأعدم الكثير منهم. أما فاشية موسيليني فدفعت كوكبة من العلماء البارزين الى الهجرة عبر الأطلسي غرباً. في حين ان حماقة هتلر وتهوره أديا إلى حرق مئات الآلاف من الكتب الثقافية في الجامعات الألمانية وساقا المئات من العلماء اليهود والهنغاريين والبولنديين والشيوعيين إما الى الهجرة أو القتل. اذا كانت الولاياتالمتحدة لم تغتل حتى الآن عالماً مسلماً، فهذا لا ينفي أن الاحتمال الأكيد أنها ستغتال المستقبل العلمي والأكاديمي للمئات بل الآلاف منهم، ولهذا يحق لهم أن يرفعوا شعار الرأسمالية العتيق وأن يخاطبوا أميركا باللغة التي تفهمها، فما عليهم الا ان يرفعوا عقيرتهم صارخين ومحتجين وهم يهتفون: دعونا نبحث، دعونا نمر. * قسم الكيمياء في جامعة الملك سعود.