مصيبة وحلّت. ولا تريد أن ترحل. والشعوب لا تحب اجترار المصائب. قد تبقى متأثرة ولكنها تستعجل النسيان بالمغفرة أو بغيرها. ما زال الشعب الأميركي متأثراً، وهذا أمر واضح ولا شك فيه. فجرح الكرامة يهز الشموخ أكثر من أي جرح آخر. ولكنه كغيره من الشعوب يريد أن ترحل المصيبة ليستعيد السلام مع نفسه. ويرى بعض صانعي الرأي في أميركا ويعرف أن قوى معينة لا تريد للمصيبة أن ترحل، وأن لدى هذه القوى أسبابها ودوافعها. وفي ظني أنها لن تترك 11/ 9 يرحل، فرحيله يعني رحيلها. ما تخليت يوماً أنني بعد هزيمة مصر في 1967، سأكون شاهداً مرة أخرى على مصيبة تتمسك باستمرارها إلى يومنا هذا قوى سياسية في مصر وفي خارج مصر تستمد منها شرعية لوجودها وضرورة لتنفيذ أهدافها. تعددت قبل 11/ 9 الأفكار والخطط لدى جماعات في الحكم وخارجه في الولاياتالمتحدة واجهت صعوبات في التنفيذ . كانت العراقيل البيروقراطية حائلاً في بعض الحالات. ووقفت جماعات الضغوط تعاند بشراسة تنفيذ حالات أخرى. وفي الخارج كانت الخلافات الدولية تتجمع وتنذر بمرحلة توتر. وكانت معظم الفرص لفرض الإرادة الأحادية والهيمنة على النظام الدولي تكتنفها صعوبات ليست بسيطة كما تصورنا وتصور آخرون. ولذلك أعتقد أنه عندما يأتي يوم يؤرخ فيه المؤرخون عما خلفه 11/ 9 سيكتشفون أن ما فعله السياسيون الأميركيون بالكارثة كان أشد عنفاً وخلف آثاراً أكثر عدداً وأشد تأثيراً مما سببه 11/ 9 من دمار مباشر وعواقب نفسية واجتماعية وضحايا بشرية. لن يغفل مؤرخ موضوعي ومتحضر وحشية الذين خططوا لوقوع الكارثة. ولن يقلل من وقع الضربة وضخامة عدد الضحايا وعمق الجرح الذي أصاب الجسد الأميركي. ولكن ستقابله في نفس الوقت ممارسات وأعمال قامت بها حكومة أميركا خلال العام التالي للواقعة ما كان يمكن أن تقوم بها بهذه السرعة وبهذا الحجم قبل 11/ 9. لا يعني هذا الكلام أن النخبة الحاكمة في واشنطن كانت تتوقع أن يقع 11/ 9 في اليوم الذي وقع فيه، أو بالكيفية التي حدث بها. ولكنه يعني بالدقة أن هذه النخبة كان لديها أفكار وخطط جاهزة تنتظر الفرصة المناسبة لوضعها موضع التنفيذ. لقد جاءت حكومة الجمهوريين برئاسة الرئيس بوش الابن بينما نذر الأزمة الاقتصادية تتجمع مهددة الاقتصاد العالمي والرأسمالية الأميركية كنموذج وحيد مطروح على العالم بأسره. وفي الشهور السابقة على 11/ 9 كانت معظم مؤشرات الاقتصاد الأميركي تتجه نحو الانحدار. كانت الإشاعات تحوم حول شركات عملاقة ما كان يمكن قبل 11/ 9 المساس بها خوفاً على سمعة المشروع الأميركي. كانت الفضيحة - فضيحة "إنرون" وصاحباتها - إن وقعت في ذلك الحين، كفيلة بأن تحطم كافة طموحات المجموعة الحاكمة في واشنطن. حاولت تصور لو أن فضائح السقوط المتتالي والرهيب لهذه القلاع المتقدمة في الاقتصاد الأميركي انفجرت قبل انفجارات 11/ 9، تصورت رد فعل الرأي العام والانكماش الشديد الذي كان سيصيب الاقتصاد الأميركي خاصة، والاضطراب الشديد في وول ستريت ومنها إلى الأسواق المالية الأخرى. كان يمكن أن تصدر عن انفجار هذه الفضائح موجات من الانفجارات تصل إلى داخل دوائر البنتاغون وشركات سلاح عظمى، فتفسد خططاً عسكرية مهمة ومعدة لسنوات طوال، وتقضي على خطط بناء نظم صاروخية مخصصة للقرن الحادي والعشرين. بمعنى آخر كان يمكن أن يتعطل مشوار أميركا نحو استكمال بناء الهيمنة الإمبراطورية على العالم. ولكن جاءت 11/ 9 فأطلقت وبقوة فائقة طاقة "الوطنية" الأميركية، وهي الطاقة التي استطاعت ربما وحدها فرض التغيير، وأجبرت البيت الأبيض على أن يتدخل وبسرعة بمشروعات قوانين لتطهير هذا القطاع الخطير في نظام الاقتصاد الجديد، وهو قطاع الشركات العملاقة. وهو القطاع الذي ينتمي إليه بالشراكة أو الاستثمار أو الانتفاع أو تمويل العملية الانتخابية أو العمالة عدد لا بأس من أعضاء نخبة الحكم في واشنطن. وأظن أنها كانت فترة مؤلمة، فترة إعداد وإصدار هذه التشريعات التطهيرية. أضف إلى هذا الواقع المتخيل أو الخائلي حقيقة أن حكومة الحزب الجمهوري جاءت إلى الحكم بأغلبية بسيطة للغاية وفي ظروف عطلت لفترة من الزمن اكتمال الشرعية "الواقعية" لهذه الإدارة الجديدة . بدأت الإدارة كحكومة ضعيفة فاقدة التنسيق والقيادة. كان الجهاز الذي أتى به الرئيس بوش الابن، وبحق، جهازاً يصلح نظرياً وبالخبرة الشخصية لكل عضو فيه، لقيادة إمبراطورية وليس فقط دولة عظمى أو الدولة الأعظم. جاءت الجماعة إلى واشنطن مزودة بأفكار عملاقة واستعداد غير مسبوق من جانب "العسكر" لتحقيق أهداف خارجية كبيرة، إذا وجدت الظروف المناسبة. ومع ذلك شهدت الأسابيع التي سبقت 11/ 9 شعوراً عاماً في داخل أميركا وخارجها بخيبة الأمل. إذ لم تفلح الإدارة "المرشحة ذاتياً" لقيادة العالم في تحقيق نجاح واحد رئيسي في العلاقات الدولية. فشلت في مفاوضاتها حول الاتفاقات الدولية الجديدة المثيرة للجدل فلم تكسب أصدقاء بل وخسرت حلفاء. وأثبتت أمام العالم أن قرارها الذي جاءت به ويقضي بالابتعاد عن مشكلة الشرق الأوسط لم يكن قراراً حكيماً وإن كان مفروضاً من الجماعة الصهيونية المسيطرة على السياسة الداخلية في أميركا، بل كان القرار الذي دفع أميركا نحو التدخل بفشل ثم فشل وبعده فشل في سلسلة تدخلات فاشلة وغير مسبوقة من أي حكومة أميركية. كذلك كان فشلاً غير مسبوق بمعنى آخر. فقد جاء التدخل في شكل تورط، لا أقول من دون حكمة كافية، ولكن بالتأكيد باندفاع إن لم يكن بتهور مدهش. هنا، كما في موضوع التنكر للاتفاقات الدولية والانفراد بقرارات في الشؤون الدولية بغير تشاور، شعرت الدول الأوربية وبخاصة الدول الأقرب إلي الولاياتالمتحدة فكراً وارتباطا بأن الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن صارت تشكل خطورة. ما لم يقدره قادة أوروبا ولا قادة الدول العربية التقدير الصحيح هو أن في أميركا نمطاً جديداً في القيادة في الشؤون الخارجية لم يعرفوه أو يتعاملوا معه من قبل. لم يعرفوا وقتذاك أن الإدارة الجديدة تستعد بكل طاقتها للتوسع في تطبيقات هذا النمط، ولكن الطاقة العادية التي أتيحت لها لم تكن كافية لهذه الانطلاقة الإمبراطورية. وفجأة وقع 11/ 9. ومن قلب الانفجار الهائل تولدت طاقة أيضاً هائلة فتحركت الآلة بل آلات كثيرة لتنقذ الأهداف العملاقة. وتسارعت التطورات إلى حد كشف عن الكثير مما كانت تخفيه الجماعة الحاكمة في واشنطن عن حلفاء أميركا في أوروبا وعن هؤلاء القادة في الدول العربية الذين عقدوا العزم منذ عقود على علاقة صداقة "أبدية" مع الولاياتالمتحدة، لن يضعفها أو يبدلها من حال إلى ضده أي متغير طارئ مهما بلغ من الأهمية والخطورة. لم تكن جديدة سياسات التعامل مع الدول المارقة. كانت موجودة في عهد كلينتون. وفهمنا وقتها، أو على الأقل حاولنا فهم، المنطق وراء هذه السياسات. نعم، من حق كل دولة أعظم أن توجد، أو تبقي على، دول معاكسة، أو مشاكسة، أو دول "عضاضة"، تعض أو تقرص العملاق وتجري فلا يلحق بها، ولكنه لن يغفر لها وللدول المتمردة فعلاً وحقيقة، مروقها. وجاءت إدارة الرئيس بوش الصغير، بفيالقه المتعطشة للانتقام فرفعت شعار لا صبر بعد اليوم مع الدول المارقة. وكانت الخطط جاهزة تؤكد نفاذ الصبر. إلا أن السياق الدولي لم يكن مستعداً لهذا النوع من نفاذ الصبر. ففي أوروبا ساد مزاج، وصفه الكاتب الأميركي روبرت كاغان بأنه مزاج سلام ومحبة وصفاء، يختلف جذرياً عن المزاج الذي يتحكم في السياسة الخارجية الأميركية، مزاج أقرب إلى تفضيل استخدام العنف على كافة مستوياته ومنها الحرب بكافة أنواع الأسلحة. أميركا صارت أقرب إلى المزاج الإسرائيلي منها إلى المزاج الأوروبي. وبهذا المعنى تكون القارة الغربية قد انقسمت فعلياً إلى قسمين: حضارة أميركية - إسرائيلية، وأقصد تماماً أنها إسرائيلية أي قطاع من اليهود يميل ميلاً شديداً نحو العنف والانتقام ويحمل مشاعر عنصرية ضد العرب، وحضارة أوروبية متعاطفة مع اليهودية ولكنها اليهودية بغير عنف ومتعاطفة مع أميركا بغير التهور وتخريف اليمين المتطرف. لم يحدث هذا الانقسام بسبب 11/ 9. ولكن 11/ 9 أدى إلى وقوعه قبل أوانه. ليست جديدة الخلافات الأوروبية الأميركية حول العديد من المسائل، وكانت تدار وتسوى أو تتصاعد داخل غرف اجتماعات في بروكسيل أو قاعات الاجتماعات الدورية لحلف الأطلسي وغيره من المؤتمرات الغربية. كنا نعرف شيئاً أو أكثر عن خلاف أو أكثر. ولكن لم نعرف بالدقة الكاملة أن الخلاف وصل إلى هذه الدرجة من "الانقسام الحضاري" إلا بعد 11/ 9. ويبدو أن هانتنغتون لم يتصور أن حدثاً على مستوى 11/ 9 سيقع وأن يكون بالدرجة التي تهز قواعد وأسس الحضارة الغربية الواحدة وتفضح حقيقة الخلافات الأوروبية الأميركية، والحقيقة أنه لم ينكر وجودها ولكنه أيضا لم يتصور أن تحدث كارثة تسرع بتفاقم هذه الخلاقات إلى حد تهديد وحدة الحضارة "الأعظم" في التاريخ المعاصر. بمعنى آخر نشعر هنا في منطقتنا بأن العلاقات الأميركية العربية ويشعرون في أوروبا بأن العلاقات الأميركية الأوروبية أصابها تدهور شديد. أشعر بنفس الشعور ولكني اختلف مع الذين يتصورون أن ما أصاب علاقات أميركا مع أوروبا ومع معظم الدول العربية من ضرر جاء أغلبه في أعقاب 911. أقول أن العلاقات أصيبت بالسوء قبل 11/ 9 ولكنها تدهورت وبشدة وبسرعة بعد 11/ 9. أي أن طرفاً أو آخر، وفي الغالب هذا الطرف هو الطرف الأميركي استغل 11/ 9 ليعيد رسم علاقاته الخارجية وتشكيلها بما يتناسب مع أهداف النخبة الحاكمة الجديدة في واشنطن وأهداف ومصالح القوى التي تمثلها وبخاصة القوى الصاعدة في المؤسسة العسكرية الأميركية. لم يحدث انقلاباً في السياسة الخارجية الأميركية في أعقاب 11/ 9. ما حدث هو تطور تأخر تنفيذه ، وجاء 911 ليلعب دور "المسراع" أي أداة "التسريع" لهذا التطور الخطير في السياسة الخارجية. 11/ 9 لم يبدع جديداً في النظام الدولي ولم ينشئ شيئاً جديداً في السياسة الخارجية الأميركية. 11/ 9 لعب دور أداة "التسريع" في تطور الأمور. لم يبدأ مع 11/ 9 قرار زيادة الإنفاق العسكري، وانما الاقتراح سابق لهذا التاريخ. كذلك لم يبدأ مع 11/ 9 مهمة تجديد مؤسسات الأمن القومي الأميركي. فمنذ شهور كانت لجان، أو لجنة معينة، في الكونغرس تدرس ظاهرة كثرة الأخطاء ومظاهر التقصير في ممارسات وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ووكالة التحقيقات الفيدرالية وغيرها من أجهزة التخابر والتجسس وتضارب اختصاصاتها وتقطع الاتصالات بينها. ومنذ سنوات ترفع تقارير تشكو من أن القضاء يقف عقبة في وجه متابعة تحركات المشتبه فيهم من الأجانب المقيمين والأميركيين المنشقين . حدث هذا في أعقاب مذبحة واكو التي راح ضحيتها عشرات من المتدينين المتطرفين الذين تحصنوا داخل مزرعة من مزارعهم، وهي المذبحة التي استخدمت الشرطة الفيدرالية أقصى درجات العنف للقضاء عليهم . ثم زاد الاهتمام بقضايا التجسس الداخلي والمشكلات القانونية المرتبطة بها بعد انفجار مبنى الأجهزة الفيدرالية في مدينة أوكلاهوما وراح ضحيته مئات الأشخاص . كانت بعض الدراسات جاهزة أو في طريقها للتنفيذ عندما وقع الحدث. كانت كارثة 11/ 9 فرصة نادرة سمحت لأصحاب المصلحة في دعم أجهزة الأمن وتطهيرها من عملاء الدول الأجنبية والتخلص من بعض الأجهزة التي جمعت معلومات عن تيارات معينة في اليمين المتطرف الأميركي وفي قطاع الأعمال الكبرى . 11/ 9 أسرعت بتحقيق هدف عارضته جهات متعددة في قطاعات العدالة والقضاء وجماعات حقوق الإنسان . وبعد 11/ 9 وبسرعة مذهلة أعيد بناء الصرح القانوني الأميركي لصالح التصور الموجود لدى النخبة الحاكمة في واشنطن عن الأشرار في الداخل والخارج، وعن حاجة واشنطن إلى إعداد قواعد هيكل قيادة إمبراطورية الخير والأخيار، وإلى شبكة أمن قومي منضبطة وأكثر انسجاماً مع المزاج الوطني المتطرف السائد في كل أميركا . لن أناقش قضية فشل أو نجاح المتطرفين الذين صنعوا انفجارات 11/ 9. ولن أناقش فشل أو نجاح حكومة واشنطن في رد العدوان والاستعداد لعالم جديد. ولكني أجد نفسي قلقاً بسب الرأي الذي يتسع انتشارا في المنطقة، ويقول إن 11/ 9 أصبحت نداء "للجهاد" بين عدد أكبر من "الإسلاميين" والشباب المتطرف في كافة أنحاء العالم الإسلامي. وفي رأيي أن السبب في هذه الحماسة غير المتوقعة هو أن رد الفعل الأميركي خرج عن سياق الحادث وسياق المقبول. يؤلمني أن أعرف أن محنة ضحايا 11/ 9 وأهاليهم، بل ومحنة كل الشعب الأميركي، أصبحت وظيفة لتوليد مشاعر وطنية دافقة يستخدمونها وقوداً "لتسريع" تحقيق أهداف يتضح يوماً بعد يوم أنها ليست لمصلحة السلام العالمي، أو مصلحة الشعب الأميركي. كاتب مصري.