المشروع الأميركي في أزمة، هكذا توحي حزمة المشكلات التي تكاد تنوء بحملها هذه الدولة الأعظم، ويقف العالم امامها مشدوداً بالإشفاق احياناً وبالإعجاب احياناً اخرى ولكن ايضاً بالخوف في كل الاحيان، ففي شهر واحد وقع في أميركا من التطورات واتخذ من القرارات ما جعل الانظار تتخلى عما كان يمتعها او يشقيها لتركز على ما يبهرها ولا يوجد ما يتفوق على أميركا في القدرة على إبهار الآخرين. هذا التفوق الأميركي الذي يثير انبهار الآخرين هو نفسه الذي يثير خوفهم، فالقوة الاعظم القادرة على اقناع اطراف نزاع ما بتسوية خلافاتهم سلمياً، هي ايضا القوة الاعظم القادرة على وضع ضوابط اخلاقية وايديولوجية وفرضها على عدد كبير من الدول، وهي نفسها القوة الرائدة في مجال خرق الاتفاقات الدولية ورفض احترام القانون الدولي، وهي الوحيدة التي تعلن عن عزمها استخدام كل الاساليب المشروعة وغير المشروعة لمناهضة أي محاولة تقوم بها دولة او مجموعة من الدول لتحقيق مستوى من القوة يساوي القوة الأميركية أو يقترب من مستواها. صحيح ان بعض السياسيين والمحلليين الاوروبيين يعتبر مواقف الولاياتالمتحدة من اتفاقات كيوتو وتحريم زرع الالغام ومحكمة الجنايات وغيرها تعبيراً عن ازمة في نظام السياسة الخارجية الأميركية، لكنه صحيح ايضاً ان هذه المواقف السلبية لا تمس جوهر النظام الأميركي. وبمعنى آخر لا تتنافى مع المشروع النهضوي الأميركي او تتناقض معه، فقد قامت الولاياتالمتحدة الأميركية على مبادئ التوسع على حساب جاراتها ولم تأيه كثيراً لقواعد القانون الدولي، وتعددت في مرحلة النشأة الأميركية الاتفاقات الثنائية المفروضة قسراً او غير المتوازنة عدالة وحقوقاً، ثم أننا باعتبارنا من الآخرين، لم تعد تدهشنا مواقف أميركية من هذا النوع، ان ترفض واشنطن التوقيع على معاهدة لعبت هي نفسها في صياغتها وتحريرها دوراً اساسياً لم يعد يثير أكثر من رأي متعاطف او في الغالب رأي مستنكر وأن يتفهم في بعض الحالات. يختلف الامر عندما تتناقض المواقف مع صلب المشروع الأميركي، هنا قد لا يأخذ الصدى عند الآخر شكل الرأي، وإنما يأخذ اشكالا اخرى ليس من صفاتها نعومة الخلاف بين الرأي والرأي الآخر، لا يستطيع احد وإن كان أميركياً من قلب النظام والسلالة الرأسمالية النقية، ان ينكر ان السقوط المدوي، والمتفاقم للشركات الأميركية الاعظم خلال شهور قليلة، هو في حد ذاته تعبير يجسد في اوضح صورة ممكنة حال الازمة في المشروع الأميركي. واعترف بأنني انبهرت بالسرعة الفائقة التي تعامل بها الرئيس بوش والكونغرس مع هذه القضية لمنع استفحالها، رغم ان عدداً كبيراً من شخصيات الطبقة الحاكمة في أميركا كان من المنتفعين من فساد هذه الشركات. اعترف بهذه الكفاءة واشيد بها ولكني توقعت ان تعلن واشنطن عن اجراءات اخرى تصحح بها المسار الاقتصادي كله. فالانحراف الذي انكشف، له جذوره الممتدة الى عمق بعيد في "الاقتصاد الجديد" الذي بشرت به الولاياتالمتحدة، وعبأت لتأييده في العالم اكفأ خبراتها الاعلامية، ووظفت من اجله ما اصطلحوا على تسميته بأيديولوجية العولمة المالية والاقتصادية، وجعلته ركيزة مشروعها الحضاري الجديد. والغريب أن تطورات وقعت في دول اخرى، قيل في تفسيرها في وقتها الكثير، وكثير من هذا الكثير انكشف زيفه هذه الايام، ففي اقل من عشر سنوات، هي تقريباً نصف عمر العولمة في ثوبها الجديد، سقطت اقتصاديات اندونيسيا وتايلاند وكوريا الجنوبية والمكسيك والارجنتين والاورغواي والباراغواي وفنزويلا وبيرو والبرازيل، وبقيت "ساقطة" اقتصادات دول اكثر عدداً في الشرق الاوسط وافريقيا. وفي معظم هذه الحالات وقع تعتيم اعلامي، او شاعت تفسيرات خاطئة، وكان التفاؤل أمراً وقسراً في وقت كانت الاقتصادات مستمرة في التدهور. يقول احد كبار المشاركين في الإعداد لمؤتمر جوهانسبرغ الذي سينعقد نهاية هذا الشهر، أن 80 دولة انخفض دخلها بالنسبة للفرد عن معدل عام 1992، ويقول آخر ان العالم النامي شهد في ظل هذا "الاقتصاد الجديد" اسوأ عشرين عاماً مرت عليه منذ الكساد العظيم. ولم يفلت من انهيار معدلات نمو الدخل بالنسبة للفرد إلا اقتصاد الصين واقتصاد فيتنام وكلاهما رفض تطبيق نموذج الاقتصاد الجديد الذي حاولت أميركا فرضه على العالم بأسره، وفي قمة جوايا كيل التي عقدت في الإكوادور قبل اسابيع قليلة وضمت عشرة من رؤساء دول أميركا الجنوبية، عبرت هذه الدول بصراحة عن مسؤولية "الوصفة" الأميركية في الازمة التي تكاد تطيح باقتصاداتها، ولم تحظ هذه القمة مثل غيرها من التطورات البائسة بإعلام واسع، إلا أن تطور الاحداث في الارجنتين وامتداداتها الى الاورغواي والبرازيل فرض اهتمام الاعلام بالاحوال المتردية للرأسمالية الجديدة، فاضطرت ادارة الرئيس بوش الى تغيير سياساتها حين قرر اونيل وزير الخزانة، صاحب العبارة المشهورة عن نية رفض تقديم اي دعم لدولة نامية تمر في ازمة، أن يسافر الى أميركا اللاتينية ومعه ثلاثون بليون دولار لاخراج البرازيل من ورطتها ومنع انفجار الموقف فيها بخاصة وهي مقبلة على انتخابات رئاسية ساخنة، ومعه ايضا بليون ونصف بليون دولار للاورغواي تعبيرآً عن اعجاب واشنطن "بنزاهة السياسيين" فيها والمقصود بهذه العبارة تحميل الارجنتين مسؤولية الازمة الاقتصادية بسبب فساد حكامها، وليس بسبب فشل وصفة صندوق النقد الدولي وهروب استثمارات المخاطر الدنيا والمضاربات المالية. لم تحسب حجم البلايين التي انفقت لتعويم الاقتصادات الساقطة خلال العقد الاخير لنقارنها ببلايين انفقت في عصر مشروع أميركي آخر في اعقاب الحرب العالمية الثانية، ولم نقارن النتائج. ولكن لا يصح تقويم المشروع الأميركي الجديد بالاقتصاد وحده، فالازمة التي ضربت هذا المشروع لها أذرع متعددة. لم تكن قضية إفلاس قمة نظام الشركات الأميركية وفسادها المسألة الوحيدة التي لوثت سمعة المشروع الأميركي خلال هذه الشهور الاخيرة اذ حدث ان انتبه الآخر، الذي تسعى أميركا الى تحسين صورتها لديه، الى القوانين والقواعد الجديدة التي صدرت بهدف حماية أميركا ضد الارهاب. هذا الآخر لم يفته التناقض الشديد بين كل ما بشرت به أميركا من قيم ومبادئ دستورية وحقوق انسان وديموقراطية وبين نصوص هذه القوانين. النتيجة ان صورة أميركا في الخارج اصبحت ترى فيها حرية بقيود، فقد انشأت الدولة - او تزمع انشاء - وكالة خاصة تصنع الاخبار وتقوم بصياغتها وتترجمها الى لغات اجنبية وتسلمها الى مخبرين او محررين او رؤساء تحرير صحف في افريقيا والشرق الاوسط واوروبا لتنشر باسمائهم، للايحاء بأن هذه الصحافي او ذاك قام بالجهد كله في البحث والتقصي والكتابة. والحقيقة ليست كذلك والنتيجة ستكون حقاً طريفة وان كانت مؤسفة، فالقارئ من بيننا حاكماً كان أم مواطناً عادياً ام صانع رأي، لن يميز بين الخبر الصادق والخبر المصنوع محلياً بأوامر او نصائح أميركية، بعض هذه الاخبار قد يثير بلبلة وارتباكاً، والبعض منها، وهو الأخطر، قد يصنع تراكما فيشكل اتجاهاً او قطاعاً في الرأي العام، وقد يتسبب في اتخاذ قرارات اكثر تهوراً وتقييداً للحريات من تلك التي تتخذ في أميركا، يعرف بعضنا من خبرته في العمل السياسي أو الإعلامي ان هذا العمل يحدث على كل حال، ولكن نعرف جميعاً انه لم يكن وراءه هذا الجهاز العملاق الجاري انشاؤه ليصنع الاخبار ويحللها ويبثها الى العالم، وفي مقدوره ايضا صناعة الاحداث او تلفيقها. ماذا دهى الأميركيين حين يسمحون لحكومتهم بالتفكير في انشاء نظام تجسس على المواطن الأميركي فيتحولون الى امة من الجواسيس، إذ أنه طبقاً لهذا النظام الجديد المعروف باسم تيبس Tips سوف يخضع الأميركي العادي لرقابة ساعي البريد وجامع القمامة ومهندس الهاتف والسباك وسائق السيارة العمومية، وكلهم مكلفون بكتابة تقارير عنه إن هم اشتبهوا في تحركاته ورسائله وضيوفه وعلاقته الشخصية، ألم تكن لهذه الخصوصية قدسية خاصة عند الأميركيين، ومنها انتقلت حلماً يراود كل انصار النهضة والتقدم والديموقراطية في انحاء العالم كافة؟ كلهم - اي كل الآخرين - تمنوا لو جاء يوم تمتعوا فيه بالحرية التي يتمتع بها المواطن الأميركي ونعموا بقدسية حياته الشخصية؟ كثيرون هنا في الشرق الاوسط، وفي مصر بخاصة، مازالوا غير مصدقين ان أميركا ممكن ان تتدهور الى هذا الحد وفي اتجاه ان تتحول الى دولة بوليسية. ماذا حدث للنموذج الأميركي؟ وبمن ستقتدي شعوب الدنيا بعد اليوم حين تحلم؟ كل شيء عدا الحريات والأخلاق والمبادئ الدستورية، كان يخضع لتفسيرات وتبريرات لم تفسد الحلم، كان يقال في تخبطات السياسة الخارجية الأميركية قلة حنكة وصراعات قوة وغطرسة افراد، او كان يقال في النخبة الحاكمة انها جماعة تسيرها اقلية او اخرى هيمنت عليها او اشترتها بأموال الانتخابات او خدعتها. ليس سهلاً او مطلوباً تجاهل هذا السقوط المروع للسياسة الخارجية الأميركية وعدم السعي من اجل فهم اسبابه. هل جائز ان نردد مع آخرين القول إن 11/9 أو 9/11 كما يعرفه الأميركيون دفع أميركا الى وضع لم تلجأ اليه عندما كانت تحارب الألمان والايطاليين واليابانيين في آن واحد وفي كل الجبهات؟ هل يعقل ان افراداً قد لا يزيد عددهم عن مئة او الف او عشرة آلاف استطاعوا "هزيمة" القدوة أو النموذج، ثم نتوقف جميعاً ونراقب السقوط النهائي لهذه القدوة او ذاك النموذج؟ اخشى ان يأتي يوم، ولعله أتى فعلا، فيصبح هؤلاء الافراد ارهابيين ويصبح الارهاب رصيداً واداة وليس عدوا حقيقياً وكياناً ملموساً، هل صحيح ان أميركا في حاجة الى هذا العدو متضخماً ومتربصاً ومنتشراً كما تعدو اجهزة جديدة مهمتها نشر الحقيقة مع الكذب في آن واحد، لا اظن ان واشنطن في حاجة اليه الآن للتغطية على ازماتها واخطائها الاقتصادية، ولا اظن انها في حاجة اليها او الى العراق لتكسب انتخابات تشرين الثاني نوفمبر ولكن لا استبعد ان يستمر البعض في استغلال هذا العدو وتضخيم خطره وعدده. نعرف ان "القاعدة" حقيقية وموجودة في مكان، ولكن معظم من تعمقوا في دراسة التنظيم منذ بداياته لا يصدقون انه مازال يمثل تهديداً يستدعي بأي حال كل هذه الإجراءات والقوانين، واخطاره المتوقعة إن صحت التوقعات لا تساوي سقوط القدوة وانحسار المكانة. إن كل ما نعرفه يؤكد هذا الشك الشائع في الرأي العام خارج الولاياتالمتحدة، وبخاصة في الشرق الاوسط، وهو انه ليس كل من اعترض على السلطة الشرعية او سرقها او قاومها مستخدماً سلاحاً هو شخص إرهابي. لقد تردد في الصحافة الأميركية "الموجهة" احياناً وعلى السنة مسؤولين أن الإرهابيين في الفليبين على صلة بالإرهابيين في جزيرة آتشيه ومتصلون بتنظيم "القاعدة"، ثم جاء تقرير المنظمة التي يرأسها ايفانز غاريث يؤكد أنه لا صلة بين هؤلاء وأولئك، وانه لا ارهاب يذكر في اندونيسيا وغيرها، ثم لماذا نذهب بعيداً الى اقصى جنوب اسيا، فالمقاومة الفلسطينية اصبحت ارهاباً، واموال التعاطف مع فقراء فلسطين والمسلمين صارت أرصدة ارهابية. والغريب، ولعله ليس غريباً، ان بعض اعلامنا يفعل الشيء ذاته. شيء ما في واشنطن يقلق المسؤولين وصانعي الرأي في دول كثيرة. ويضيف الى هذا القلق الإصرار الأميركي على نشر صورة متفائلة، يقول مؤرخون واقتصاديون أميركيون، في مثل هذه الايام في عقد العشرينات من القرن الماضي، وقبل الكساد مباشرة، لم تكن التصرفات الأميركية مختلفة، وخصوصاً ما يتعلق بنشر تفاؤل كاذب، ولا اظن ان حلولا تجميلية عن طريق إقامة اذاعة أميركية تختص بالشباب تبث اخبارا "مصنوعة" سريعة واغاني جديدة بهدف تحسين الصورة الأميركية. كما لا اظن ان اجراءات بوليسية او حتى عزل المسؤولين الكبار عن الازمة الاقتصادية، اي عزل بول اونيل ولوريس لندسي وميتشيل دانيلز، او حملة اعلامية سخيفة المحتوى ضد السعودية ومصر ودول اوروبا الغربية، لا اظن ان شيئاً من هذا سيعيد أميركا قدوة ونموذجاً، او يصلح ما انكسر في المشروع النهضوي الأميركي. * كاتب مصري.