عرضت القناة الأولى في "التلفزيون العربي السوري" مسلسل "الرحيل إلى الوجه الآخر" الذي انتهى عرض آخر حلقاته قبل فترة. والعمل من إخراج غزوان بريجان وتأليف وسيناريو عبدالله عباسي، وتدور أحداثه حول شخصية مثالية الى درجة عالية هي شخصية "خالد" الذي لعب دوره الفنان مازن الناطور الذي يكون في بداية العمل مطارداً بسبب قضية ثأر في العائلة، وكان قبل ذلك كما فهمنا من سير الأحداث يعمل في سلك الشرطة. وتتحرك الأحداث في المسلسل لتلتقي شخصياته مع بعضها، اذ يصادف خالد رجلاً في سيارة وقد أصيب بنوبة قلبية، ويجد الى جانبه مبلغاً كبيراً من المال فيأخذه إلى المستشفى ويسلم النقود للشرطة. ويتبين ان هذا الرجل يدعى "عامر الدباس" وانه رجل غني له الكثير من الأعداء الذين يريدون موته، وحتى إخوته يتآمرون للاستيلاء على أمواله. لكن بطلنا المثالي يقف إلى جانبه بعد أن ينال ثقته التامة بسبب إنقاذه له. وتبدأ هنا أحداث العمل بالتعقيد بتسارع، وتبدأ التداعيات الإجرامية تظهر على الجميع بعد أن يقتل "عامر الدباس" وتسرق أمواله. النقطة المهمة في هذا العمل هي طرح شكل من أشكال الجريمة المعقدة المتعددة الأطراف، اذ يظهر في النهاية أن معظم الأشخاص في العمل حاولوا بطريقة ما أن يقتلوا "عامر الدباس". وتتكشف الخيوط الواحد تلو الآخر حتى يفاجئنا الكاتب في نهاية العمل بمجرم لم يكن متوقعاً هو "عمران الجنائني" الذي لعب دوره الفنان حسام تحسين بك. ويظهر الكاتب في العمل إلى أين يمكن أن يصل الجشع بالإنسان، حتى إلى حد وحشي أو حيواني من دون مراعاة أي حرمة. ومن جانب آخر يرينا العمل الطرف الآخر المضيء وذلك عبر شخصية خالد الذي كان بإمكانه أن يأخذ الكثير وأن يحصل على كل شيء من دون خطيئة، لكنه رفض أن يمتلك شيئاً هو من حق غيره. ويتطرق العمل في البداية كذلك إلى عادة الثأر التي ما زالت موجودة إلى أيامنا هذه في بعض مناطق الريف والتي غالباً ما تأخذ خيرة الشبان في نارها المحرقة ويمثلهم هنا "خالد" الذي لا ذنب له إلا كونه أفضل شبان العائلة. والآن بعد انتهاء عرض هذا العمل نستطيع أن نلحظ الكثير من المشكلات الفنية والأدبية والأدائية التي عاناها. فالشخصية الخيرة التي قدمها العمل ليست في الحقيقة إلا محض خيال وغير واقعية على الإطلاق، اذ لا يمكن أن نجد مثلها في الواقع. وعلى العموم فإن وجدت هذه الشخصية فهي نادرة واستثنائية. وعلى العمل الفني أو الإبداعي أن يقدم الشخصيات الواقعية التي من الممكن تقمصها فعلاً وبخاصة أننا في عصر لم يعد يستوعب الحالات الطوباوية التي كانت لها أمجادها في العصور السالفة. كما أن القائمين على العمل قالوا انها شخصية نادرة ومتطرفة إيجاباً، لكن أين يمكن أن نجد في التطرف، مهما كان نوعه، اليقين المطلق؟ فكل منا يمكن أن يرى نفسه يمثل الصواب المطلق، فهل علينا أن نحارب الكل من أجل هذا الصواب الذي نعتقده فينا؟ ثم ما هو المصدر الذي استوحينا منه أن شخصية خالد هي من الأخيار سوى أن الكاتب أراد لنا أن نفهم هذا. فمن الممكن أن يكون ابن أخ الضحية عماد هو الصواب أو غيره، ولكن الكاتب وجهنا منذ البداية إلى أن خالد هو الأفضل. ثم إن في الشكل الآخر في هذا العمل وهو الجانب السلبي، كان الكاتب متطرفاً أيضاً في طرحه كشرٍ مطلق. والشخصيات الشريرة هي شريرة بالمطلق وهذا أيضاً غير موجود في الواقع. ان فكرة مثل هذه لم تعد مقبولة درامياً أو فنياً إلا إذا طرحت بشكل فوق العادة وهذا ما تقوم به السينما الأميركية. فحين يريدون طرح موضوع قديم مرة جديدة فإنهم يقدمونه بشكل فني مذهل يغطي كل عيوب القصة حيث ان تكرارها نفسه يصبح مقبولاً. أنا لا أريد هنا أن أقارن الدراما السورية بالقدرات الأميركية في الإنتاج والإخراج وغير ذلك، لكن الطلب أبسط من ذلك: ما هو مبرر طرح فكرة على هذا المستوى من القدم والاستهلاك إن لم يكن الفن هو الدافع؟ إضافة إلى أن الدراما السورية نفسها تجاوزت هذا الشكل منذ فترة طويلة فلماذا العودة إليه من دون تجديد في الأدوات الفنية؟ ثم ان العمل من نوع القصص البوليسية التي عادة ما تشد الجمهور البسيط إليها إلا إذا كانت قصة غاية في التعقيد، لكن قصتنا هذه لم تكن بهذا المستوى المعقد والمطلوب لمثل هذا النوع من الأعمال. لقد أراد الكاتب أن يكتب قصة تأتي على نمط أعمال أغاثا كريستي، لكنه فشل في ذلك. فالجريمة التي عولجت في هذا العمل كانت تحتوي على خطأ تقني كتابي وهو أنه من الممكن أن تحدث جرائم قتل ويكون هناك أكثر من طرف يريدها أن تقع أو يسعى لتحقيقها في الوقت نفسه ولكن بوسائل مختلفة كلياً، أما في هذا العمل فقد كانت هناك وسيلة واحدة استخدمت من طرفين مختلفين وهي إطلاق النار على الضحية. فلا يمكن إذاً، إلا أن يتنبه المجرم الآخر إلى أن ضحيته قد انتهى أمرها وبالتالي فلن يقدم على جريمته، أو أنه في هذه الحال ليس هناك جريمة قتل، بل اعتداء على حرمة الموتى فقط... كان الأجدر بالكاتب هنا أن يبتكر وسائل مختلفة للقتل. وإذا ما انتقلنا إلى المسألة الفنية في العمل فإننا نجد أن هناك ثغرات كثيرة في الإخراج وفي السيناريو وفي أداء الفنانين المشاركين وهذه نقطة أخرى تسجل ضد العمل... وطبعاً هناك الكثير من الأمثلة على هذه الثغرات التي لا يبررها أي سبب، فهي أخطاء بالجملة، حتى أنها من الأخطاء القديمة التي كانت تقع فيها الدراما السورية عند بداياتها، فالعمل هنا قديم من حيث القصة والأدوات والفكرة وحتى قديم في أخطائه.. ومن هذه الأمثلة: اختلاط الذاكرة مع الواقع بالنسبة الى خالد في الحلقة الأولى، من دون قصد طبعاً من المخرج، أي أنها ليست حركة فنية ولم يستطع المشاهد أن يميز الخيال عن الحقيقة إلا في نهاية الحلقة. مشهد المكاسرة التي حصلت في القرية والجريمة التي تبعتها من أكثر المشاهد ضعفاً وركاكة في العمل، وهذا من المشاهد الأولى التي يجب فنياً على الأقل أن تشد المشاهد إليها إضافة الى أن عناصر الكومبارس في هذا المشهد كانوا من أسوأ ما يكون الكومبارس وكان واضحاً جداً انهم ينتظرون دورهم للقيام بما عليهم فعله... مشهد فلاحة الأرض في الحلقات الأخيرة، الذي بدأ عندما وضع الجرار المحراث في الأرض، وكان بإمكان المخرج أن يبدأ المشهد بعد بدء الفلاحة، ثم أن الرجال الأربعة الذين كانوا يسيرون وراء الجرار لإزالة الحجارة شكلوا إضافة الى العمل، فالفلاح عادة لا يفرغ الأرض من الحجارة حيث ان الحجارة لا تؤثر في الزراعة بشيء، خصوصاً اذا كانت قليلة... انفعالات الفنانين في مشاهد الضغط والتحقيق والمؤامرة كانت غير مقنعة على الإطلاق، مثل انفعال زوجة عامر الدباس عندما طلقها، وانفعال خالد وتوتره عندما وجد جثة عامر الدباس، وانفعال سعيد بيك في أثناء نقاشه مع نائب عامر الدباس حول إمكان تصوير خالد للوثائق التي بحوزته، اذ جاء الانفعال هنا بعد أن أنهى النائب حديثه بالكامل وسأله بلهفة وخوف: هل يمكن أن يفعل خالد هكذا؟ خوف خالد على عامر الدباس غير مبرر وغير مقنع وكذلك محبته له. فالرجل في النهاية لم يكن سوى تاجر كبير نجح في الصعود على أكتاف الآخرين وله الكثير من السيئات. فلماذا هذه المحبة وهذا الخوف؟ قد نستطيع استيعاب محبة عامر لخالد فهي مبررة لأن خالداً كان صادقاً ونظيفاً معه وكذلك ثقته. أما العكس فغير صحيح.. ثم أن القاتل في النهاية كان الجنائني ولا نعرف لماذا كان خالد يرى فيه أنه يمثل دور البلاهة علماً أنه حتى اكتشاف القصة وبعدها لم يكن سوى إنسان بسيط فيه القليل من البلاهة، وهذه الشخصية أعطت للدور نكهة مختلفة قليلاً عن التزمت الملحوظ في بقية الشخصيات. والحال ان هناك الكثير من الأمثلة عن هذه الثغرات التي من المحرج أن تذكر جميعها، فنحن في النهاية نتحدث عن عمل فني يخصنا، ولكن علينا أولاً أن نحترم فننا ونحترم مشاهدنا العربي الذي يجب أن نقدم له أفضل ما لدينا وليس قصص قبل النوم من أجل المزيد من النوم...