يفتقر وجداننا الى ما ينهض بالصداقة. نساؤنا ورثن علاقات الحريم وقواعد المنافسة من اجل الرجل. فراجت بينهن حكايات التواطوء أو الغيرة، و غابت الصداقة تقريبا عن عالمهن. ورجالنا ورثوا شكلا من اللقاء بينهم، أشبه بالاخويات الذكورية. فاستقروا على حلقات ضيقة ومغلقة، يتقاسمون في داخلها الآلام والملذات والرموز والاسرار، ويختارون منها صداقات مليئة بقصص التفاني والتضحيات. وهذا الصنف الاخير من الصداقة، هو الاكثر تداولا بين الناس، فيما الصداقة بين النساء محصورة وطارئة، وليس في الوجدان تاريخ أو صور تغذي مسارها وتدعم شرعيتها ونموها. أما الصداقة بين الجنسين، فهي الاكثر تضرّّراً من هذا الإرث نفسه: تشوبها جدّة الاختلاط بين الجنسين وإلتباس في فهم الدوافع اليه. وبدل ان يتبدد الالتباس مع الوقت، تحوّل الى لعبة مسلية وسط الضجر العارم الذي تعاني منه الآن العلاقات بين الجنسين. فتعسّّّرت ولادة صداقتهما. والصداقة من المفترض انها علاقة حرة مع الآخرين، قوامها مجال متخيّل يخلقه الاصدقاء في ما بينهم منذ اول اتصالهم، يتناغمون في داخله، ويتكاشفون لو رغبوا، وينصتون الى وثْبات روحهم ووجدانهم. وهم لا يشبهون بعضهم بالضرورة... بل ربما أفقرهم تشابههم اكثر مما أغناهم. والارجح ان الناس ليست كلها على نفس مستوى الاستعداد الى الصداقة. فالحافز العميق للصداقة هو البحث عن هذا المجال بالذات، حيث القلب والعقل يتجلّّيان، وحيث يتبادل الاصدقاء في وسطه اشواق روحهم و حيرتهم ويقينهم وضعفهم وقوتهم... فضلا عن سوالفهم ونميمتهم وضحكهم. لذلك فإن الذين لا يقصدون اطلاقا ما يقولون او ما يعبرون، ليسوا من الذين لديهم الاستعداد النفسي للصداقة. فهم مثلما يستطيعون ان يكذبوا، يستطيعون كذلك ان يخونوا، فيخرقوا بذلك مرتين القاعدة الفكرية والأخلاقية الذهبية للصداقة. فالصديق صادق، وإلا انتفى المجال المتخيّّل الحر والصافي، وضاع الصديق في متاهات التخمين والغموض والألغاز وتأتأة انصاف الحقائق، فضلا عن موازين القوى والاعتبارات. هذا لا يعني أن الاصدقاء الحقيقيين هم أشباه الانبياء، وأنهم معصومون أو وعاظ أو عابسون. وقد يكونون اشقياء وقد تكون رذائلهم، فضلا عن الكذب، عديدة. لكنهم لا يستطيعون ان يكذبوا طويلا في مجال الحرية هذا الذي اختاروه بأنفسهم وسموه صداقة، و إلا سلكوا دروبا اخرى غير الصداقة، تشبهها الى حد بعيد. وهذه الدروب الاخرى الشبيهة هي: علاقات القِدَم و الاعجاب، او العلاقات المهنية والسياسية والمصالح، الكبيرة والصغيرة، وعلاقات التعاقد، الحر او الإلزامي، فضلاً عن علاقات القربى والجيرة. فالواحد داخل هذه العلاقات يمكن ان يكون زميلا او أنيساً او رفيقاً للآخر، مما يشيع الألفة والاعتياد في وسطهما. ثم ان هذه العلاقات أمامنا، هنا، وجدت قبلنا وقبل ان نسعى اليها. ويصعب علينا ان نغرف صداقات من مجالات اخرى. انها مثل مجال الضرورة. فهي موجودة، ولها قوانينها واعتباراتها المختلفة. والذي يحصل بالتالي للصداقة في هذا المجال انه تنشأ في داخله اوضاع او متطلبات خارجة عن ارادة او رغبة الاصدقاء. فيحصل التضارب بينهما وبين مجال الحرية الذي كانوا يشرعون في بنائه. وما ان يحصل هذا التضارب بين الحرية والضرورة، حتى يبدأ الكذب، الملح الذي يُفسد الصداقة. فيسود العتاب، ومن بعده الهمس والتستر على الحقائق، وربما ايضا المراوغة والتلفيق، وتدخل الصداقة نفق الضرورة المملّّ و الأقنعة من كل صنف ولون، والشد والارخاء، والحزن والندم و... التكدّّر. هذه العلاقات التي يصادفها المرء في حياته ليست بالصداقة، وإن كانت ودية واليفة وحميمة، بل تشهد احياناً في داخلها الكثير من الصداقات المديدة. لكن فشل محاولات الصداقة في داخلها لا يجب ان يبعدنا عن الصداقة ويحرمنا من نِعمها. فعلى الفشل ان يضاعف دأبنا على البحث عن هذه النِِعمة خارج هدي هذه العلاقات وداخلها في آن. وكأننا في رحلات مكوكية نتنقل بين الدفء و البَراح. فالصداقة تستأهل السعي من اجلها، وربما على نفس قدر السعي من اجل المهنة والعائلة، لأنها مخزون عظيم من الطاقة والفرح، تُخرج جمالنا من مخائبه فنقترب بذلك من ذواتنا... ونكفّّ عن معاملتها كأنها بائسة.