حساب المواطن يودع 3 مليارات ريال لمستفيدي دفعة شهر سبتمبر    أحلام تبدأ بروفاتها المكثفة استعدادًا لحفلها في موسم جدة    كود الطرق السعودي يضع اشتراطات لتعزيز السلامة في مناطق الأعمال    الاتحاد الأوروبي يدين الهجوم الإسرائيلي على قطر    بلدية الظهران تباشر تنفيذ مشروع تطوير طريق الأمير سلطان بن عبد العزيز    الإحصاء: ارتفاع الرقم القياسي للإنتاج الصناعي بنسبة 6.5% في يوليو 2025    المواقيت ومساجد الحل.. خدمات متجددة وتجربة ميسرة للحجاج    ارتفاع أسعار الذهب    نيابة عن خادم الحرمين.. ولي العهد يُلقي الخطاب الملكي السنوي لافتتاح أعمال الشورى في الدور التشريغي 9 اليوم    إسرائيل تشرِّع الفوضى المُقنَّعة    جلسة طارئة لمجلس الأمن اليوم    أمير المدينة المنورة يتسلّم التقرير الختامي لتوصيات الحلقة النقاشية والمناقشات العلمية حول المزارع الوقفية    أمير منطقة القصيم يزور المعرض التفاعلي "روايتنا السعودية"    كأس العالم للرياضات الإلكترونية 2025 يسجّل أرقاما قياسية ويستقطب ملايين المشاهدين حول العالم    المختبر المتنقل.. نقلة نوعية لتعزيز أعمال التشجير ومكافحة التصحر    محمية الإمام تركي تُشارك في معرض كتارا الدولي    ولي العهد للشيخ تميم: نساند قطر وإجراءاتها لحماية أمنها    "التخصصي" يفتتح جناح الأعصاب الذكي    "الملك سعود الطبية" تطلق خدمة تخطيط القلب لمرضى الرعاية المنزلية    عيادة متنقلة بالذكاء الاصطناعي للكشف عن اعتلال الشبكية الناتج عن السكري    السعودية: ندعم الحكومة السورية في إجراءات تحقيق الاستقرار.. قصف إسرائيلي لمواقع في حمص واللاذقية ودمشق    إطلاق خدمة «بلاغ بيئي» بتطبيق توكلنا    نونو سانتو أول الراحلين في الموسم الجديد بإنجلترا    «براق» تحقق ثاني كؤوس مهرجان ولي العهد للهجن للسعودية    ولي العهد وملك الأردن يبحثان الهجوم الإسرائيلي الغاشم    مجلس الوزراء برئاسة ولي العهد: سلطات الاحتلال تمارس انتهاكات جسيمة ويجب محاسبتها    رقابة مشددة على نقل السكراب    التعثر الدراسي .. كلفة نفسية واقتصادية    رئيس موانئ يزور جازان للصناعات    إنتاج أول فيلم رسوم بالذكاء الاصطناعي    8 مشروعات فنية تدعم «منح العلا»    يسرا تستعد لعرض فيلم «الست لما»    إنفاذاً لأمر خادم الحرمين بناء على ما رفعه ولي العهد.. نائب أمير الرياض يسلم وسام الملك عبدالعزيز للدلبحي    نيابة عن خادم الحرمين الشريفين.. سمو ولي العهد يُلقي الخطاب الملكي السنوي لافتتاح أعمال السنة الثانية من الدورة التاسعة لمجلس الشورى غدًا الأربعاء    ولي العهد لأمير قطر: نقف معكم ونضع إمكاناتنا لمساندكم في حماية أمنكم    المملكة تدين وتستنكر الاعتداء الغاشم والانتهاك السافر لسيادة قطر.. إسرائيل تستهدف وفد حماس في الدوحة    أكد اتخاذ كافة الإجراءات القانونية لمواجهته.. رئيس وزراء قطر: العدوان الإسرائيلي «إرهاب دولة»    أهمية إدراج فحص المخدرات والأمراض النفسية قبل الزواج    ضبط 20882 مخالفًا للإقامة والعمل وأمن الحدود    الاتفاق يجهز ديبملي    قطر تبلغ مجلس الأمن الدولي بأنها لن تتسامح مع «السلوك الإسرائيلي المتهور»    رجوع المركبة للخلف أكثر من 20 مترًا مخالفة    القبض على مروّج للقات    تاريخ وتراث    فرنسا تهزم أيسلندا بعشرة لاعبين وتعزز حظوظها في بلوغ مونديال 2026    شراكة سعودية - صينية في صناعة المحتوى الإبداعي بين «مانجا» للإنتاج و«بيلي بيلي»    إدانة سعودية وولي العهد يهاتف أميرها.. الإرهاب الإسرائيلي يضرب قطر    منح العلا    نائب أمير تبوك يستقبل مساعد وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية للخدمات المشتركة    رسالة من رونالدو إلى أوتافيو بعد رحيله عن النصر    تعزيز الابتكار في خدمات الإعاشة لضيوف الرحمن    مجلس الوزراء: نتائج الاستثمار الأجنبي المباشر تخطت مستهدفات 4 سنوات متتالية    ‏أمير جازان يطّلع على التقرير السنوي لأعمال الجوازات بالمنطقة    أمير المدينة يفتتح ملتقى "جسور التواصل"    فييرا: "السعودية مركز عالمي للرياضات القتالية"    دواء جديد يعيد الأمل لمرضى سرطان الرئة    عندما يكون الاعتدال تهمة    صحن الطواف والهندسة الذكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوجه الآخر للصومال : "بونت لاند" و "صومالي لاند" ... دولتا الامر الواقع في القرن الافريقي ؟ . دويلات صومالية ولدت في قلب الحرب الاهلية ... وتصارع للبقاء 1من 6
نشر في الحياة يوم 17 - 02 - 2002

ليست كل الاخبار عن الصومال سيئة او أنها كلها حروب ومجاعات وامراض. بل ثمة تطورات ايجابية ونشاطات اقتصادية مزدهرة في هذا البلد، لا علاقة لها بأمراء الحرب وقبائلهم المتنازعة، او بما تردد اخيراً عن تنظيم "القاعدة" وانصاره من "حركة الاتحاد الاسلامي" الصومالية. لكن تلك التطورات الايجابية تكاد تكون مجهولة وقلما تُسجلها وسائل الاعلام العربية والاجنبية عموماً، ربما لان دوي المدافع اعلى واكثر إثارة من اصوات آلات المصانع.
ومثلما يحدث في كل الحروب، فان اقلية تستفيد من استمرار الحرب في الصومال. لكن غالبية شعب هذا البلد تصر على البناء والعمل بالامكانات المحدودة المتوافرة، بعدما اعتادت العيش في قلب الحروب القبلية المستمرة منذ 11 عاماً. وتعمل هذه الغالبية من الصوماليين في ظروف قاسية وصعبة متحدية فوضى الحرب وأمراءها، فأنشأت اخيراً جامعات في مدن عدة لم تكن موجودة عندما كانت في الصومال دولة وحكومة مركزية. واطلقت شركات طيران تنظم رحلات دولية مباشرة من مدن خارج العاصمة، في حين كانت الرحلات الدولية في عهد الحكومة الاخيرة تقتصر على العاصمة مقديشو. وأسست هذه الغالبية ما يمكن تسميته ب"اقتصاد الحرب" وادارته بمهارة جعلت البلد يستمر رغماً عن الميليشيات التي تحاول قتله، وأنشأت مؤسسات تتلاءم وواقع الحرب وتتعايش معها وفي ظلها. فعندما انهارت الحكومة المركزية العام 1991، اعلنت بعض الاقاليم حكوماتها الاقليمية لتدير شؤونها الذاتية موقتاً، وقال زعماؤها: "نحل حكوماتنا عندما تنشأ حكومة مركزية قوية". وعندما انهار المصرف المركزي واقفل ابوابه، تأسست عشرات المصارف و"مراكز الحوالة" المحلية لتضمن تحويل العملات الصعبة من الصوماليين المهاجرين في شتى انحاء العالم الى اهاليهم في كل المدن الصومالية، ولتسهيل العمليات التجارية لرجال الاعمال. كذلك عندما انهارت شبكة الاتصالات المركزية، تأسست شركات اتصالات عدة لتفك عزلة البلد وتبقي اهله على اتصال بالعالم الخارجي. وبدلاً من شبكة تلفزيون وطني يتيمة واصبح للصوماليين فضائية تلفزيونية ومحطات خاصة في معظم المدن الرئيسية.
لذلك، لم أفاجأ كثيراً عندما قال لي صديقي الصومالي عمر الحاج علي ان مصنعاً لتعليب سمك الطون بدأ تصدير انتاجه قبل اشهر في شمال شرقي الصومال، وان مصنعاً آخر لدباغة الجلود وتصديرها على وشك البدء في عملية الانتاج. واضاف ان حركة سفن الشحن العملاقة لا تهدأ تصديراً واستيراداً في ميناء بوصاصو المطل على خليج عدن، والذي كان مقفراً إلا من المسلحين عندما زرته قبل ثماني سنوات.
واضاف مقترحاً ان ازور مجدداً هذه المنطقة التي صار اسمها "بونت لاند" او "بلاد بونت" التي تنعم حالياً بحكم ذاتي. وزاد الى اقتراحه ان ازور "جمهورية صومالي لاند" او "ارض الصومال" شمال غربي الصومال المجاورة ل"بلاد بونت". وكنت زرت تلك المنطقة ايضاً بعد اشهر قليلة من انفصالها عن الصومال واعلانها دولة مستقلة قبل عشر سنوات. وكان اهل عاصمتها هرغيسا يطلقون عليها آنذاك لقب "هيروشيما" بسبب كثرة القذائف التي اسقطتها مقاتلات نظام الرئيس السابق محمد سياد بري في وسطها. وهي اليوم تنبض بالحياة ويعيش اهلها في امن لا تشهد مثله عواصم غربية عدة.
الى ذلك، زادت أخيراً اسئلة سمعتها من زملاء واصدقاء عن هذا البلد: كيف يعيش اهله وهم في حرب اهلية منذ 11 عاماً، وهل للصومال سفارات تمنح تأشيرات دخول، بل هل هناك طائرات تجارية تصل الى هذا البلد الذي توقفت شركة طيرانه الوطنية عن العمل منذ عقد، واين يهبط المسافر ومطار العاصمة مقديشو مغلق منذ 1995؟ ويتساءلون ايضاً في حشرية لمعرفة كيف يتصل اهل هذا البلد بالعالم الخارجي، ومن يمنحهم جوازات سفر في ظل غياب حكومة مركزية أو مؤسسات حكومية قائمة او مصرف مركزي؟ وبالتالي اي عملة يستخدمون وما قيمتها ومن يعترف بها خارج هذا البلد؟
حملت حقائبي وتوجهت الى "بلاد بونت" و"صومالي لاند" لمعرفة كيف تدير الاولى شؤون حكمها الذاتي، والثانية "جمهوريتها" المستقلة من دون اعتراف دولي بها.
وهنا الحلقة الاولى عن "بلاد بونت"، وتعرض نبذة تاريخية عن هذه البلاد منذ عبور المصريين القدماء البحر الاحمر للوصول الى ارضها. وتتناول ايضاً قضية شركات الطيران الصومالية الخاصة التي ظهرت خلال فترة الحرب الاهلية، وكيف استطاعت فكّ عزلة الصومال وربطه بالعالم آنذاك، الى جانب مساهمتها في الابقاء على دورة اقتصادية متحركة وسط الحرب الاهلية المستمرة منذ 11 عاماً.
كركند بحري وحليب نوق... رفاق السفر في رحلات تتبدل وجهاتها . طائر الرخ... بل طائر الفينيق:
الطيران الصومالي الأكثر مرونة في العالم
الرحلات على متن شركات الطيران الصومالية الخاصة اكثر غرابة واثارة وتشويقاً من رحلات السندباد على ظهر طائر الرخ الخيالي. فبعض هذه الشركات ربما كان الاكثر مرونة في العالم، والاكثر تلبية لحاجات الركاب واصحاب بضائع الشحن على السواء. إذ يمكن لرحلة بوصاصو - دبي في طائرة ال"اليوشن -18" الروسية المخصصة للركاب ان تتحول فوراً الى طائرة شحن لعشرة اطنان من الكركند البحري لوبستر الى جانب عشرة اطنان اخرى من الركاب!
لكن لسبب ما لا يعرفه الركاب في حينه، تهبط تلك الرحلة في جيبوتي قبل وصولها الى دبي، ومن دون سابق انذار للمسافرين... فتفرغ شحنة الكركند التي تذهب في طائرة اخرى الى باريس، فيما يصعد مكانها على متن الرحلة ذاتها ركاب من جيبوتي كانوا ينتظرون رحلة الى بوصاصو في اليوم التالي، لكنهم أُخطروا بموعدها على عجل والتحق بها من استطاع... وفي الطائرة يفاجأ ركاب جيبوتي بأن الرحلة متوجهة الى دبي قبل ان تغادر في اليوم التالي الى هرغيسا فبوصاصو.
الديموقراطية الصومالية
وهكذا تقرر بعض شركات الطيران الصومالية الخاصة برنامج سير رحلاتها بحسب حجوزات غالبية الركاب الذين يفرضون وجهتها بديموقراطية صومالية لا جدال فيها... أليسوا هم غالبية؟ لكن للشاحنين اولوية في تقرير وجهة الرحلة ايضاً، خصوصاً إذا كانت الشحنة من السمك. فالركاب يمكن ان يتحملوا رحلة طويلة في محطات عدة قبل الوصول الى مقصدهم، لكن السمك يمكن ان يتعرض للاهتراء والتلف إذا بقي خارج الثلاجات الضخمة لفترة طويلة.
رحلتي الى شمال الصومال لم تختلف كثيراً عن تلك الرحلات التي بات الصوماليون يتوقعون ان يحصل خلالها كل شيء غير متوقع وغير مسجل على تذاكر سفرهم. فقد كانت تذكرة سفري تشير الى مواعيد رحلاتي بوضوح وهي: دبي - بوصاصو - هرغيسا - دبي. واقلعت رحلتي من دبي بعد انتظار سبع ساعات لتهبط فجأة في هرغيسا لفترة ساعتين. ولو كنت اعلم ان الطائرة ستتوقف فيها لكنت بدأت رحلتي هناك قبل التوجه الى بوصاصو، حيث وصلت بأمان وامضيت ثلاثة ايام أنهيت خلالها مهماتي. ثم توجهت الى مطار بوصاصو مجدداً لاستكمال رحلتي الى هرغيسا عاصمة "جمهورية ارض الصومال" حيث كان يفترض ان امضي ثلاثة ايام اخرى قبل العودة الى دبي. لكن غير المتوقع حصل في ذلك اليوم، إذ قررت شركة الطيران ان رحلتها ستتوجه الى دبي وليس الى هرغيسا. وكانت اول رحلة تليها الى هرغيسا مقررة بعد اسبوع، فرضخت للامر الواقع وغادرت في اليوم نفسه مع شحنة سمك الى دبي حيث كانت هناك رحلة مقررة الى هرغيسا تقلع بعد ثلاثة ايام من وصولي الى دبي.
القات يُنسي متاعب الرحلة
ذلك كان مختصر سير الرحلة، اما ما يحصل على متن الطائرة فتلك قصة اخرى تبدأ بعدم وجود ارقام للمقاعد، فالذي يصعد اولاً الى متن الطائرة يختار اي مقعد يرغب بالجلوس فيه، ويوضب حقائبه وحاويات حليب النوق التي يحملها كما يشاء. قائد الطائرة لا يرحب طبعاً بالركاب ولا يعلن وجهة الطائرة او اين ستتوقف او فترة توقفها ولماذا، وربما كان ذلك مبرراً، فهو روسي لا يتحدث الصومالية او العربية. لكن يوجد عدد من المضيفين الصوماليين يتولون الشرح لضيوفهم في حال طلب احدهم توضيحاً. لكن بدا لي ان غالبية الركاب الصوماليين لا يأبهون حتى لو استغرقت رحلتهم ثلاثة ايام، اذ ربما يعرفون انهم سيصلون في نهاية المطاف الى مقصدهم. لكنني اكتشفت لدى مغادرتي الطائرة ان سبب ارتياحهم هذا هو كميات القات الكبيرة التي يمضغونها خلال الرحلة، ما يجعلهم لا يشعرون خلالها بمرور الوقت او بأي شيء آخر يحصل في الطائرة. فقد كانت معظم مقاعد الطائرة مغطاة بكميات من اغصان القات الخضراء التي مُضغت اوراقها، لدرجة خلت معها بأن وضع تلك الاغصان على المقاعد تقليد متبع في الرحلات الجوية الصومالية.
حليب النوق
وحركة المضيفين في الطائرة لا تهدأ، احدهم كان يسير مسرعاً بين صفي مقاعد الركاب يوزع عليهم فوطاً ورقية وهم يتصببون عرقاً قبل الاقلاع والهبوط وخلالهما لأن المكيفات لا تعمل خلال تلك المرحلة. ومضيف آخر مهمته مراقبة اي شخص يدخل المرحاض الوحيد في الطائرة، وعند خروج ذلك الشخص يباشر المضيف برش مزيل للروائح بدءاً من المرحاض وحتى قمرة القيادة. المضيف الثالث كان يقدم قناني المياه للركاب، فاعترضت امرأة عجوز، قيل لي ان سنها يتجاوز المئة عام، وطلبت بدل الماء حليب ناقة! ودار جدل طويل حاول المضيف خلاله اقناعها، من دون جدوى، بأن الشركة لا تقدم غير الماء في هذه الرحلة. وقرر مسافر يجلس في مقعد امامها ان يحسم الجدل، فطلب من المضيف ان يُحضر كوباً فارغة ليملأها من حاويته حليباً. وبينما هو يفعل ذلك، دخلت الطائرة في مطب هوائي من دون انذار طبعاً، فانقلب الكوب والحاوية كلها لينتشر حليب النوق تحت ارجل كل الركاب، وربما كان وصل الى شحنة السمك التي ترافقنا.
ليست كل رحلات شركات الطيران الصومالية غير منتظمة، ولا كلها تشهد حوادث كالتي شهدتها في رحلتي المتقطعة. لكن المؤكد ان هذه الشركات الخاصة تأسست في أوضاع أشبه بالمعجزة، وهي تقدم اكبر خدمات ممكنة للصوماليين ولبلدهم في اوضاع حرب غير طبيعية. ولا شك في ان تسيير طائرة لتهبط وتقلع في الصومال يعتبر عملاً بطولياً وجريئاً، إذ لم تجر اي صيانة لمدرجات مطارات هذا البلد منذ اكثر من عشر سنوات، وهي تستقبل الرحلات من دون وجود ابراج مراقبة ترشد قائد الطائرة لدى هبوط طائرته واقلاعها. وفي اماكن عدة من الصومال، غالباً ما تهبط الطائرات في رحلات عادية على مدرجات رملية وسط عشرات من المسلحين الذين ينتظرون شحنات قات او لفرض ضريبة "وصول" على ركاب الطائرة. وتعتبر تلك من اخطر الرحلات، خصوصاً إذا كانت المنطقة تشهد توتراً مسلحاً حيث لا يستبعد قائد الطائرة احتمال تعرضها لرصاصة عشوائية تكفي لاشتعالها وتدميرها.
ومنذ اندلاع الحرب الاهلية مطلع 1991، توقفت شركة الطيران الوطنية الوحيدة في هذا البلد، ونقل ملاحون طائراتها القليلة العدد الى نيروبي وجيبوتي المجاورتين، ولم تعد تلك الطائرات صالحة للطيران.
اربع شركات
وفي السنوات الثلاث الاولى من الحرب كان الصومال واهله في شبه عزلة تامة عن العالم، إلا من خلال طائرات الاغاثة الدولية التي كانت تهبط وتقلع بسرعة في بعض المدرجات الآمنة نسبياً. وكانت تلك الطائرات لا تنقل من الصوماليين سوى المرضى في حال الخطر الى نيروبي للمعالجة. واعتدت السفر الى الصومال على متن تلك الرحلات آنذاك. لكن هذه المنظمات الدولية انكفأت عن نقل ركاب، خصوصاً في العام 1995 بعد اقفال مطار مقديشو الدولي، الذي لا يزال مقفلاً بسبب موقعه في مرمى مدفعية فصيل معارض للحكومة الموقتة في المدينة. ومنذ بداية الحرب في العام 1991، منعت كل دول العالم طائراتها المدنية من الهبوط في المطارات الصومالية باعتبارها مناطق حرب. لكن شركات الطيران الصومالية الخاصة ظهرت من نار الحرب وكأنها طائر الفينيق الاسطوري. وصار لكل تجمع قبلي كبير شركة طيران تخدم خصوصاً منطقته. فأسس رجال اعمال من قبيلة الاسحاق الشمالية شركة "دالو"، فيما أسس آخرون ينتمون الى الداروود شركة "دامال". واسس رجال اعمال من قبائل اخرى شركتي "ستار"، وحديثاً "الخطوط الجوية الصومالية". وهذه هي الشركات الخاصة الاربع الوحيدة العاملة حالياً في كل انحاء الصومال تقريباً.
كانت أول شركة طيران صومالية هي "دالو" التي أسسها عدد قليل من رجال الاعمال الصوماليين في جيبوتي نهاية العام 1992. واستأجرت آنذاك طائرة روسية صغيرة سيرتها على خط واحد من جيبوتي الى هرغيسا المنطقة الوحيدة المستقرة في الصومال وقتذاك. وتطورت "دالو" بسرعة وصار لديها حديثاً طائرة من طراز "بوينغ-727" تنظم رحلات من والى جيبوتي وجدة وباريس. لكنها لا تخاطر بها، إذ لا توجد تسهيلات لهبوطها على اي من المدرجات الصومالية. لذلك تستخدم هذه الشركة ايضاً طائرات من طراز "اي.تي.يو-15" و "توبوليف-154" و "اليوشن-18" و "انتونوف-فوكر-24".
وفي العام 1995، اجتمعت مجموعة من رجال الاعمال الصوماليين كان ابرزهم عثمان عبدي وعبدالنور آدم وخليفة عيسى ويوسف هيبي في دبي وأسسوا بالشراكة مع رجل اعمال قطري "شركة طيران البحر الاحمر"، وكانت تسير رحلات بين مقديشو واديس ابابا وجيبوتي. وعملت هذه الشركة لسنة واحدة ثم انفصل عثمان عبدي ليؤسس شركة "ستار" في العام 1997. اما عبدالنور آدم وخليفة عيسى ويوسف هيبي فاطلقوا شركة "دامال" في العام 1996. ويقول عبدالنور آدم المدير العام لشركة "دامال" في دبي :"لدينا طائرتان روسيتان، الاولى من طراز اليوشن-18 للركاب، والثانية من طراز انتونوف-12 للشحن. ويمكن ان تهبط الطائرتان على المدرجات الصومالية اياً كان نوعها. ونُسيّر رحلاتنا الاساسية للشحن وللركاب بين دبي وبوصاصو وهرغيسا. ولدينا حافلات لنقل الركاب من البلدات والقرى القريبة من بوصاصو الى المطار يومي الاثنين والخميس من كل اسبوع".
ويضيف عبدالنور: "من بين المشاكل الاساسية التي نواجهها اننا لا نستطيع خدمة عدد كبير من الرعايا الصوماليين، خصوصاً في كل من كينيا واليمن. وذلك لأن كل طائراتنا روسية الصنع، وسلطات الملاحة الكينية لا تسمح بهبوط الطائرات الروسية في مطاراتها. وكذلك اليمن لا يسمح لطائراتنا بالهبوط في مطاراته. الى جانب ذلك نواجه مشكلة حادة في نفقات عملياتنا عموماً والتي تكاد تصل الى حافة الخسارة. ولا اقول هنا اننا نخسر، لكننا لا نربح من تسيير الطائرات. والسبب الرئيسي في ذلك هو المنافسة بين الشركات الاربع العاملة حالياً في الصومال، وعندما تكون هناك منافسة عالية فلا يمكن ان تعمل وتربح. وعلى سبيل المثال، فإن سعر تذكرة السفر من دبي الى بوصاصو ذهاباً واياباً كان في السابق يعادل 800 دولار، وانخفض اليوم الى 300 دولار بسبب المنافسة. ونحاول حل هذه المشكلة عبر تأسيس جمعية لشركات الطيران الصومالية كي نوحد الاسعار ونوقف المضاربة. وفي الوقت نفسه تكون هذه الجمعية نواة لاول شركات طيران خاصة في الصومال بعد انتهاء الازمة وتشكيل حكومة مركزية لكل البلاد. لذلك فإننا نكافح من اجل البقاء اليوم والاستمرار في المستقبل".
سجل نظيف في السلامة
ويفخر عبدالنور بسجل السلامة لدى شركات الطيران الصومالية الخاصة، ويقول انه لم تسجل اي حادثة طيران منذ تأسيس هذه الشركات خلال السنوات العشر الماضية، وذلك على رغم الظروف الصعبة التي يعمل فيها الطيارون في الصومال. ويضيف: "ان الخدمات التي تقدمها الشركات الخاصة اليوم افضل بكثير من الخدمات التي كانت تقدمها شركة الطيران الوطنية ايام حكم سياد بري، إذ كانت الرحلات الدولية تقلع من مطار مقديشو فقط. لكننا حالياً نسيّر رحلات دولية من معظم المدن الصومالية الكبيرة. ونفخر بأننا أخرجنا الصومال وأهله من عزلتهم، ونساهم في الدورة الاقتصادية عبر نقل المغتربين الى مواطنهم الاصلية لقضاء فترة العطل وإنفاق عملات صعبة في البلاد".
وتدفع شركات الطيران الاربع الخاصة ضرائب هبوط تتباين بين مدرج وآخر، إذ يفرض مطارهرغيسا دفع الف دولار رسوم هبوط، فيما تطلب سلطات مطار بوصاصو 350 دولاراً، ومدرجات مقديشو الرملية 750 دولاراً. ولا توجد تسهيلات للهبوط والاقلاع، بل عندما يتعرض أي مُدرج في هذه المطارات الى اضرار مثل نتوءات وحفر، فإن شركات الطيران هي التي تتولى دفع نفقات صيانة المدرجات وإصلاح الاعطال.
وأياً كانت المشاكل الحالية التي يواجهها المسافرون على أي من الخطوط الصومالية، فإن اصحاب هذه الخطوط يؤدون خدمة جليلة لشعبهم وبلدهم لا بد ان تُسجّل لدى كتابة تاريخ الحرب الاهلية الصومالية. فهم يساهمون في ابراز وجه آخر للصومال غير الحرب، ويساعدون في تسهيل الاعمال التجارية بين بلدهم والعالم، وابقاء الدورة الاقتصادية متحركة مهما كان حجمها.
غداً : ميناء بوصاصو...
من سلطة الميليشيات
الى الحكم الذاتي، والدور
الاميركي في الصومال
تُشّكل رأس القرن الافريقي الذي يشطر الماء ويفصل بين المحيط والخليج . بلاد بونت... ارض البخور واللبان والعطور
يبدو ان "بونت" هو أقدم اسم معروف للصومال واطلقه المصريون القدماء اولاً على المناطق الواقعة على الساحل الشمالي لهذا البلد، وهي التي تشكل حالياً رأس ما اصطلح على تسميته ب"القرن الافريقي". ويعتبر رأس غواردافوي قمة هذا "القرن" الناتئ من اليابسة. فهو يشق الماء شطرين ويفصل بين السواحل المطلة على المحيط الهندي وبين تلك المطلة على خليج عدن، البوابة الجنوبية للبحر الاحمر التي كانت تعبرها سفن المصريين القدماء نحو المناطق المحيطة بهذا الرأس.
موطن الاشباح
قدماء المصريين كانوا يعتقدون بان "بلاد بونت" هي "موطن الآلهة" ووراءها كان "موطن الأشباح"، وكان رعمسيس الثالث اول من بنى اسطولاً في البحر الاحمر لارتياد "بونت" قبل خمسة آلاف سنة. وكانت سفنه تعود محملة سلعاً غالية الثمن كالعطور واللبان والراتينج والصمغ وعود البخور والقرفة والذهب وجلد الفهد وتروس السلاحف البحرية واعشاب نادرة تستخدم في التحنيط.
وبعد رعمسيس الثالث، ارسلت الملكة المصرية حتشبسوت حملتها التجارية الشهيرة الى "بلاد بونت". وسُجلت رحلتها في نقوش على معابد الاقصر والدير البحري وفي الاسكندرية. وكان الفينيقيون يعرفون "بلاد بونت" على انها بلاد البخور، فيما اطلق عليها الرومان اسم "تيرا أراماتيكو" ارض العطور.
الحدود
وفي التاريخ الحديث، كانت "بونت" جزءاً من "الصومال الايطالي" راجع الخريطة في هذه الصفحة الذي يمتد من وادي قو على بعد 20 كلم من بوصاصو على خليج عدن ويلتف حول رأس غواردافوي ليشمل المناطق المطلة على المحيط الهندي بما فيها مقديشو، وحتى اقصى الجنوب في رأس كيامبوني جنوب كيسمايو. واستقل هذا الجزء عن ايطاليا في الاول من تموز يوليو 1960.
والمناطق المتاخمة لبونت كانت تعرف ب"الصومال البريطاني" وتمتد من وادي قو قرب بوصاصو على الساحل الشمالي وحتى قرية لويعدو على الحدود مع جيبوتي قرب زيلع. واستقل هذا الجزء من الصومال عن بريطانيا في 26 حزيران يونيو 1960، واتحد مع "الصومال الايطالي" الذي استقل بعد ستة ايام ليشكلا جمهورية الصومال الحديثة في الاول من تموز 1960 برئاسة آدم عبدالله عثمان.
انقلاب بري
وبعد نحو تسع سنوات في 21 تشرين الاول اكتوبر 1969، استولى القائد الاعلى للجيش العقيد محمد سياد بري على السلطة بانقلاب عسكري واستمر في الحكم 22 سنة حتى اطاحته في 27 كانون الثاني يناير 1991. لكن الفصائل القبلية المسلحة التي اطاحته لم تنجح في الاتفاق على تقاسم السلطة، فدفعت بالبلاد الى حرب اهلية ما زالت مستمرة حتى اليوم.
وقرر الجزء الشمالي الغربي من الصومال المعروف سابقاً ب"الصومال البريطاني" العودة الى وضعه السابق الذي كان يتمتع به قبل الوحدة، فاعلن في 18 ايار مايو 1991 استقلاله تحت اسم "جمهورية ارض الصومال"، ولدى هذه "الجمهورية" عاصمتها هرغيسا رئيس وحكومة وبرلمان وجيش وقضاء.
اما "بلاد بونت" فاعلنت حكماً ذاتياً في الاول من آب اغسطس 1998 عقب سلسلة اجتماعات لمجلس اعيانها. وانتخب المجلس رئيساً وبرلماناً، وشكل محكمة عليا. وتعتبر حكومة مقاطعة "بلاد بونت" ان المقاطعة تضم خمسة اقاليم هي مُدق ونوغال وباري وصول وسناج. لكن "جمهورية ارض الصومال" المجاورة تعتبر الاقليمين الاخيرين جزءاً من أراضيها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.