نشرت "الحياة" في صفحتها الأولى الثلثاء 26 تشرين الثاني نوفمبر الماضي خبراً عن دعوى نادرة إذ سيقاضي شيخ عشيرة العجمان كاتباً في جريدة "الاتحاد" الظبيانية على مقال وصف فيه زعيم قبيلة العجمان التاريخي راكان بن حثلين بأوصاف مهينة مفادها ان راكان ليس بطلاً اسطورياً بل قاطع طرق. هنا مقالة عن راكان بن حثلين كتبها حامل اسمه نقيب الصحافيين الأردنيين السابق راكان المجالي: الخبر عن راكان بن حثلين اشجاني وأعاد صوراً من طفولتي وهيج ذكريات وحكايات وتساؤلات وتداعيات عبر مسيرة العمر المشحون بالآمال والخيبات. وقد اقتحم راكان بن حثلين حياتي منذ الطفولة فكانت أبياته الشعرية التي يتحدث فيها عن نفسه ترنيمة من أمي تهدهدني لأنام، أما والدي فلا أظن انه مر عليه يوم في حضوري أو غيابي لم يكن يردد فيه اشعار راكان بن حثلين الذي ارتبطت باسمه عند الولادة، وسترافقني صورته حتى نهاية العمر. والدي كان من أوائل الذين دخلوا سلاح البادية في الأردن، لم يستمر طويلاً الا ان قصص البطولة في البادية العربية كانت زوادة الجندي في الصحراء، وقد فتن والدي بشخصية راكان بن حثلين، وسمى نفسه أبو راكان قبل سنوات من زواجه، وقد اكتشفت ان الجيل الذي سبق جيل والدي يحفظ قصة بن حثلين وعشرات القصص المتداولة على ألسنة الناس، ومع الزمن أدركت ان هذه القصص مألوفة في الخليج وبلاد الشام والعراق. قد تكون هنالك مبالغات في قصة راكان بن حثلين ولكن، في المقابل، هنالك حقائق، أولها تسميته إبن حثلين إشارة الى الكرم، إذ كان بيته يعرف بما حوله من حثل القهوة وحثل الشاي بارتفاع تلّتين، والأمر الآخر انه كان زعيم عشيرة العجمان المنتشرة في أنحاء الجزيرة العربية وشواطئ الخليج، والحدث الاستثنائي في حياته انه عمل على شراء السلاح وتجميعه وحاول ايصاله الى قبيلته والقبائل الاخرى للقيام بثورة ضد الاتراك وطردهم من بلاد العرب، لكن الامبراطورية كانت عند منتصف القرن التاسع عشر قوية فأحبطت خطته واعتقلته وسجنته في اسطنبول. في السجن حيث كانت وقائع حرب البلقان تتلى على السجناء فكان يتهيج ويقوم بحركات كأنه في ساحة القتال، فوصلت اخبار حماسته الى السلطان الذي أمر ان يعطى راكان بن حثلين فرساً وسلاحاً وان يفرج عنه للقتال، وقد أبلى بلاءً حسناً بحسب الروايات التركية، وبعد انتهاء الحرب قرر السلطان الافراج عنه، وأرسله الى والي دمشق وأمره ان يعطيه كل ما يطلب، فاكتفى ب"ذلول، اي ناقة تحمله وزوادة. ومن الامور الثابتة انه عندما سجن خضع للتعذيب على يد جلاد مشهور بالقسوة، لكن الدمعة نفرت من عين الجلاد بعدما كلّت يداه وراكان لا يقول أخ. وعبر هذا الفارس عن احداث حياته بقصائد من اجمل ما كتب في الشعر النبطي حيث التميز بالفروسية يرافقه تميز بالشعر، ومن ذلك قصائد في زوجته عن العشق وعن الفراق اذ تزوجت ولم تنتظر عودته، فكتب عن غدرها قصيدة رائعة خصوصاً انه لم يتردد ان يدفع لها مهراً ثميناً من قطعان الإبل وشلايا من الغنم وحتى أغلى ما يملك فرسه الكحيلة. ولهذا الفرس قصة اخرى حيث أصر على ان تكفن فرسه وتدفن بعد موتها. أذكر أنني أوائل السبعينات زرت الكويت والتقيت الشيخ جابر العلي رحمه الله احد أعمدة آل الصباح، وبادرني عند السلام عليه: عاش من سماك هذا الاسم فقلت له: والدي، وأوضحت له السر وهو ان والدي كان مسحوراً بالفارس راكان بن حثلين فبهت للمفاجأة وقال بتأثر: إن راكان بن حثلين هو من أخوالي وكان ذلك بداية مودة واستذكار لتاريخ غني بالرجال الكبار. والقصة الثانية كانت في الكويت ايضاً ففي العام 1987 وكنت أحضر مؤتمراً لاتحاد الصحافيين العرب بصفتي نقيباً للصحافيين الأردنيين ونائباً لاتحاد الصحافيين العرب آنذاك. وفي احدى الأمسيات كنت أزور جريدة "الوطن" الكويتية فلقيت الصديق الدكتور احمد الربعي يخرج مسرعاً فدعاني برفقته لحضور مناسبة في البادية، فاعتذرت بحجة الارتباط ودوافع الكسل الا ان الدكتور الربعي من دون ان يقصد أكمل قائلاً انه ذاهب عند عشيرة العجمان لمناسبة تخص احد أحفاد راكان بن حثلين، فقلت: بل نذهب حالاً. هناك التقينا أقارب راكان وذويه، وفوجئت بأنهم يمتلكون صورة فوتوغرافية جميلة له وبعض آثار ذلك الفارس الذي هو رمز العشيرة التاريخي. وخارج الحديث العاطفي استطيع القول إن هذا البطل الشجاع والشاعر الملهم والذي يمثل القيم العظيمة من كرم وفروسية وحلم وشعر، ليس زعيماً فقط بما وهبه الله من كريزما ومقومات شخصية للقيادة. ذلك ان أمثال هذا البطل هم أكبر من حال فردية فكل منهم يعبر عن مزايا عشيرة وخصائص مجتمع. وما أريد ان أصل اليه هو جهل جيلنا والأجيال المقبلة بالتاريخ القريب في نطاق المجتمعات المحلية أو في الاطار المشرقي أو في النطاق العربي الواسع، وكما هو معروف فإن الجيل الذي سبقنا كان يمتلك إطلالة على الاحداث والوقائع خلال قرن أو نصف القرن اما الاجيال التي سبقت فقد كانت تتناقل عبر الذاكرة الشعبية كل الوقائع، ويعيش الناس تفاصيل الاحداث ويستحضرون الرموز والحروب والعشق وشيم البطولة. ومناسبة كتابة الموضوع ليست عاطفية فقط ذلك ان هنالك قضية ظلّت تؤرقني منذ ربع قرن، وتحديداً عندما زرت عدداً من الجامعات الكبيرة ومراكز البحث في الولاياتالمتحدة الأميركية واكتشفت ان لديهم اهتماماً كبيراً بنشاط فكري وتراثي اسمه سجل التاريخ الشفوي، ولاحظت ان هنالك بعض القصص العادية في مجتمعات محلية يجرى توثيقها بينما تهمل في بلادنا ملاحم أسطورية. فلا بديل على المستوى العربي عن التعرف ابتداء على وقائع تطور الحياة خلال القرن الماضي والإحاطة بالتاريخ الاجتماعي من جوانبه كافة وفي القطاعات كافة. وإحدى المآسي ان التاريخ العربي القديم والحديث هو تاريخ الحكام أو الطاقم السياسي المتقدم في أحسن الأحوال. والمفارقة اننا نخلق فجوة بيننا وبين تاريخنا القريب بمكوناته الثقافية من تراث وتفاعل اجتماعي وتطور التجارب المحلية والوطنية. هذه الفجوة خطيرة لأنها اتصلت بالماضي فإنها تتصل بهوة سحيقة عمرها على الأقل 500 سنة هي عمر الغيبوية في تاريخ أمتنا. وهكذا نجد الأجيال الجديدة تعرف عن الخلفاء الراشدين وخالد بن الوليد ومعاوية ابن أبي سفيان والمعتصم والمنصور اكثر مما يعرف الواحد منهم أو منا عن جده الذي توفي قبل خمسين عاماً أو أجداده أو أبناء بلدته أو وطنه الذين عاشوا قبل مئة عام. * كاتب أردني، نقيب سابق للصحافيين الأردنيين.