ماكرون: "السيناريو الأسوأ" يتمثل بخروج إيران من معاهدة حظر الانتشار النووي    رئاسة الشؤون الدينية تُطلق خطة موسم العمرة لعام 1447ه    ترمب يصعّد معركته ضد باول.. حرب الفائدة تربك الأسواق الأميركية    الأمونيا الصديقة للبيئة ووقود الطيران المستدام يسرعان معدلات النمو للصناعات النظيفة    جامعة الملك سعود و"جمعية المنتجين" تعززان تعاونهما الفني والثقاقي    أخلاقيات متجذرة    الأسيرة الفلسطينية.. حكاية الألم    دول أوروبية بلا حدود داخلية    انتصار كاسح لسيتي على يوفنتوس في «مونديال الأندية»    كرة القدم الحديثة.. عقل بلا قلب    القادسية.. موسم ذهبي وأرقام قياسية في موسم مثالي    القبض على وافدين اعتديا على امرأة في الرياض    د. علي الدّفاع.. عبقري الرياضيات    في إلهامات الرؤية الوطنية    ثورة أدب    استمتع بالطبيعة.. وتقيد بالشروط    اختتام فعاليات المؤتمر العلمي الثاني لجمعية التوعية بأضرار المخدرات    البدء بتطبيق"التأمينات الاجتماعية" على الرياضيين السعوديين ابتداءً من الشهر المقبل    رسميًا.. رونالدو مستمر مع النصر حتى 2027    انطلاق صيف منطقة عسير 2025 "أبرد وأقرب" برعاية سمو أمير المنطقة    نجران ترسم مستقبلها الإستثماري بنجاح مبهر في منتدى 2025    القبض على (31) إثيوبياً في عسير لتهريبهم (465) كجم "قات"    اللواء الودعاني: حرس الحدود يواصل أداء واجباته في مكافحة تهريب المخدرات عبر الحدود    أمير جازان يستقبل رئيس محكمة الاستئناف بالمنطقة    أمير الشرقية يُكرِّم "مجموعة مستشفيات المانع" لرعايتها الطبية منتدى الصناعة السعودي 2025    ليفربول يواصل تعاقداته الصيفية بضم لاعب جديد    موعد الظهور الأول لكيليان مبابي في مونديال الأندية    شبكة القطيف الصحية تطلق مبادرة "توازن وعطاء" لتعزيز الصحة النفسية في بيئة العمل    الأمير تركي الفيصل : عام جديد    تدخل طبي عاجل ينقذ حياة سبعيني بمستشفى الرس العام    مفوض الإفتاء بمنطقة جازان يشارك في افتتاح المؤتمر العلمي الثاني    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي، ويناقش تحسين الخدمات والمشاريع التنموية    ترامب يحث الكونغرس على "قتل" إذاعة (صوت أمريكا)    لوحات تستلهم جمال الطبيعة الصينية لفنان صيني بمعرض بالرياض واميرات سعوديات يثنين    الخط العربي بأسلوب الثلث يزدان على كسوة الكعبة المشرفة    مجلس الشورى" يطالب "السعودية" بخفض تذاكر كبار السن والجنود المرابطين    بحضور مسؤولين وقناصل.. آل عيد وآل الشاعر يحتفلون بعقد قران سلمان    غروسي: عودة المفتشين لمنشآت إيران النووية ضرورية    في ربع نهائي الكأس الذهبية.. الأخضر يواصل تحضيراته لمواجهة نظيره المكسيكي    هنأت رؤساء موزمبيق وكرواتيا وسلوفينيا بالاستقلال واليوم والوطني لبلدانهم.. القيادة تهنئ أمير قطر بذكرى توليه مهام الحكم    تحسن أسعار النفط والذهب    حامد مطاوع..رئيس تحرير الندوة في عصرها الذهبي..    تخريج أول دفعة من "برنامج التصحيح اللغوي"    "الغذاء " تعلق تعيين جهة تقويم مطابقة لعدم التزامها بالأنظمة    وزير الداخلية يعزي الشريف في وفاة والدته    الخارجية الإيرانية: منشآتنا النووية تعرضت لأضرار جسيمة    تصاعد المعارك بين الجيش و«الدعم».. السودان.. مناطق إستراتيجية تتحول لبؤر اشتباك    أسرة الزواوي تستقبل التعازي في فقيدتهم مريم    الجوازات: جاهزية تامة لاستقبال المعتمرين    استشاري: المورينجا لا تعالج الضغط ولا الكوليسترول    "التخصصات الصحية": إعلان نتائج برامج البورد السعودي    مرور العام    أمير تبوك يستقبل مدير فرع وزارة الصحة بالمنطقة والمدير التنفيذي لهيئة الصحة العامة بالقطاع الشمالي    نائب أمير منطقة مكة يستقبل القنصل البريطاني    من أعلام جازان.. الشيخ الدكتور علي بن محمد عطيف    أقوى كاميرا تكتشف الكون    الهيئة الملكية تطلق حملة "مكة إرث حي" لإبراز القيمة الحضارية والتاريخية للعاصمة المقدسة    الرواشين.. ملامح من الإرث المدني وفن العمارة السعودية الأصيلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المواطنة والانتماء . أبعاد جديدة للوطن في عصر العولمة وتخوف من عزلتي السعيد والشقي 3 من 3
نشر في الحياة يوم 31 - 01 - 2002

تناول الكاتب في الحلقتين السابقتين مفهوم المواطنة وتاريخ تحققه ووقائعه في الحضارة الأوروبية والغربية وبحث في مسألة الوطن والمواطن كما عالجتها المرجعيات العربية القديمة والحديثة. ويتابع هنا في حلقة ثالثة اخيرة.
الحديث عن مرجعيتين للديموقراطية والمواطنة، لا يستدعي الفصل بين الحضارات بحجة اختلاف البنى والأنساق، بل على العكس، ان الدراسة التاريخية التي تجمع بين مفهوم البنية ومفهوم التاريخية من شأنها ان تبرز حالات التفاعل والسيرورة والتحولات في التواريخ، باتجاه القول بمنهج التاريخ العالمي القائم على التعدد المنفتح.
وعليه فإننا نسوق الملاحظات التالية:
أولاً: ان المرجعية اليونانية لم تكن مرجعية للحضارة الأوروبية الحديثة وحدها، فالحضارة العربية تعاملت مع هذه الأخيرة كإحدى المرجعيات العالمية آنذاك، جنباً الى جنب المرجعيات الفارسية والهندية، وبصيغة انها كانت اي الحضارة العربية المشروع الحضاري العالمي الحديث المستوعب آنذاك لعملية التلاقح، والتثاقف، والتواصل. ان مفهوم المدينة ومفاهيم السياسة العقلية والوضعية للحكم، مفاهيم نجدها بغزارة في الفكر الفلسفي والفقهي العربي الوسيط.
ثانياً: ان الدراسات الحديثة للحضارات القديمة - ما قبل اليونانية والهلينية، بدأت تبحث فرضية جدية وتبرهنها، وهي ان الحضارة اليونانية لم تكن أماً للحضارات الإنسانية او معجزة فريدة، بل هي نتاج لتأثيرات حضارية متنوعة تمركزت في حوض المتوسط.
ثالثا: ان عملية الانقطاع في التطور التاريخي العربي والإسلامي والتي بدأ المؤرخون المعاصرون يدرسونها بمنهج المقارنة التاريخية لمعرفة اسباب التجاوز الذي حصل في اوروبا بدءاً من القرنين الخامس عشر والسادس عشر وأسباب الجمود الذي عاشت فيها مجتمعاتنا، هي عملية تاريخية معقدة ومركبة تفترض دراسة عناصرها من زوايا عدة.
رابعاً: إن تأسيس الدولة السلطانية على مفهوم العصبية وعلاقة هذه الأخيرة بالدعوة الدينية كوسيلة استقواء وفقاً لتعبير ابن خلدون، وممارسة الحكم السلطاني في مجتمع "رعية" وعبر وسائط من السلطات الأهلية: كالأخويات والحرف في المدينة، والعصبيات العائلية الفلاحية والبدوية في الأرياف، وسلطات البطريركيات للملل غير الإسلامية، كل هذا كان بمثابة مؤسسات نشأت في التاريخ وانبنت تلبية لحاجات اقتصاد الجباية، والخراج، ومواصلات القوافل في التجارة البعيدة، والإنتاج الحرفي المنتظم في تنظيمات اجتماعية أشبه بالفرق الدينية السرية وطرق الصوفية. إنها اذاً مرحلة تاريخية وليست قدراً مؤبداً في ثقافة ثابتة.
خامساً: عندما تحدث الطهطاوي وبقية النهضويين العرب والمسلمين عن وطنية ووطن وأبناء الوطن في غضون القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين فإنما كانوا ينقلون مفهوم الدولة/ الأمة ومفهوم المواطن عضواً في هيئة اجتماعية سياسية هي هيئة المدينة التي نسيت من التراث العربي المتأثر باليونانية، لتحل محلها ثقافة الدولة السلطانية وفقهها وصوفية اوليائها، كما كانوا يستجيبون لحاجات في التطوير الاقتصادي والتحديث الإداري والتنظيمي كان يحفز إليه الاطلاع على التجارب الأوروبية، وصولاً الى تبني مفهوم الدستور والمواطنة في مطلع القرن العشرين.
على أن هذا النقل لم يكن تقليداً اعمى، كان مقصوداً بفعل قناعات ترى أن الاقتباس شرط من شروط الترقي والتقدم والنهوض وبمنطق لا يرى حرجاً من عملية التثاقف وتحميل المفردات والمصطلحات معاني جديدة من تاريخ آخر. هكذا مثلاً تعامل رشيد رضا مع مصطلح الشورى ومصطلح الحكم الدستوري والبرلماني، فرأى ذلك استجابة لتنبيه اوروبي مذكّر بوجود مبدأ الشورى في الإسلام بعد ان نسيه الفقهاء المسلمون طوال عصور الدولة السلطانية. وهكذا تعامل ايضاً حسين نائيني مع مفهوم البرلمانية والجمعية التمثيلية في المشروطة الإيرانية عام 1909 الدستور الإيراني، إنها في رأيه من إبداع الفكر الإنساني لتحديد سلطة الحاكم الفرد، وهي في اجتهاده الإسلامي اعادة الولاية الى "الأمة" باعتبارها جماعة مواطنين، لا رعايا سلطان.
هذه المظاهر لثقافة وطنية ودستورية حديثة نجدها ايضاً في الكثير من الأقطار العربية، وبأشكال قد تتفاوت بالزمن ولكنها تتواتر في نمط الاستجابات الواحدة على مسألتين: تأكيد السيادة الوطنية في مواجهة المحتل، وتأكيد المشاركة السياسية عبر مجالس تمثيلية.
الخلاصة ان دروس التجربة التاريخية الغربية تسمح بالاستنتاجات التالية:
لقد وعى فقهاء إصلاحيون وكتاب وناشطون في العمل السياسي في مجتمعات الدول السلطانية وفي مجتمعات خضعت للاحتلالات الأجنبية سبل نهوض الدولة ومجتمعها في غضون القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وأهم هذه السبل: إشراك الأمة في الحكم من طريق الانتخاب والاقتراع العام والعمل من اجل السيادة الوطنية وتقييد الحاكم بدستور للبلاد. كان هذا بداية التأسيس لمفهوم المواطن وحقوقه في ظل دولة تقوم على الدستور.
لكن البداية، عادت فتعثرت. وتعثرها جاء من ابواب عدة:
- من باب السياسات الغربية التوسعية التي اظهرت للشعوب ايديولوجياتها العنصرية والقمعية والتخريبية وحدها، فبهتت في الوعي المقارن المحلي لدى النخب صورة الفكر التنويري العالمي وسادت صورة "التعصب الغربي" لا سيما بعد احتلال فلسطين والمصائب والكوارث التي تداعت بفعل السياسة العدوانية الإسرائيلية ودعم السياسات الغربية لها.
- ومن باب سياسات الأعيان المحليين الذين فضّلوا استمرار النظام القديم فحافظوا على العلاقات الرعوية وأدخلوها في منطقهم على حساب بلورة فكرة المواطنية وحقوقها وواجباتها، مستثمرين الديموقراطية التمثيلية والبرلمانية لحسابهم ومصالحهم، خالطين بين التمثيل الوطني والتمثيل الرعوي.
- ومن باب ردود الفعل المحلية على هذه وتلك، كانت صورة "التاريخ العالمي" تتقلّص وتتجزأ الى صور تستحضر فيها الذاكرة التاريخية وحدها، فيبحث عبرها عن "هوية" مقطوعة الصلة بالآخر، وعن ماض غني يكون معوضاً لخسران الحاضر.
ونتيجة لكل هذا، كان رد الفعل على الديموقراطية التمثيلية وفكرة المواطنة في الكثير من الأقطار العربية التي نما فيها التيار القومي العربي في الخمسينات مصر، سورية، العراق... رد فعل سلبياً.
فصل آخر من فصول التاريخ العربي المعاصر، قطع عن سابقه الذي بدأت فيه ارهاصات الحياة السياسية عبر مبدأ التمثيل والاقتراع، والعمل الحزبي. وها نحن امام زمن ثالث يعاد فيه تأسيس المجتمعات السياسية العربية، من خلال اعادة اكتشاف لأهمية المسألة الديموقراطية، والتي تقوم على ركيزتين أضحتا مفهومين عالميين:
- المجتمع السياسي المستمد من مفهوم "المدينة" ومفهوم الوطن بحمولته دلالات المعاني الجديدة.
- فكرة المواطن التي تحيل الى البعد المدني civilitژ والبعد الوطني لهوية المجتمع السياسي الذي ينتمي إليه الفرد nationalitژ.
لكن إعادة الاكتشاف وإعادة التأسيس والتي نلاحظها بدينامية في الكثير من المجتمعات العربية، تتمان بظروف صعبة وقاسية: عولمة تنحو عبر قوى عالمية كبرى متسلطة، الى تنميط الحياة الثقافية واختزال الحياة السياسية بقرارات مركزية مستقوية بالقوة العسكرية والمالية الممركزة، وردود فعل عليها طرفية تنحو نحو التقوقع في هويات صغرى دفاعية وأصولية متقهقرة وأحياناً مدمرة للذات وقاتلة كما يرى بحق الكاتب اللبناني امين معلوف في كتابه "الهويات القاتلة".
مع ذلك، فإن فسحة للعمل كبيرة تكمن بين حيز الحدين وتتحداهما، حيث يستفاد أولاً من دروس التجربة التاريخية ويستفاد ايضاً من العالمية الجديدة، أو العولمة بوجهها ووسائلها الإيجابية...
فإذا كانت تجربتنا التاريخية العربية، ابانت عقم النظرة الأحادية للديموقراطية حيث لم ير الأعيان العرب والرأسماليون العرب إلا وجهها الليبرالي الوظائفي فاستثمروها في تثبيت سلطات وراثية وتضخيم ثروات فردية في مرحلة اولى، وحيث لم تر الطبقة العسكرية والتكنوقراطية والنخب الثورية الجديدة إلا وجهها "الرجعي" في مرحلة ثانية فاقترحت إلغاء المواطنة وما تتطلبه من استقلالية في الرأي والنقد والمحاسبة لمصلحة مركزية القرار بحجة "الهام القائد" و"حكمته" و"عصمته"، فإن إعادة اكتشاف الديموقراطية اليوم يعيدنا اولاً الى اعادة اكتشاف مفهوم المواطن من خلال استحضار مجموعة من الأبعاد التي يحيل إليها هذا المفهوم.
1- البعد الإنساني: فالمواطن ليس فرداً فحسب، وليس رجلاً فحسب، وليس عمراً محدداً، او مهنة معينة، انه المواطن - الإنسان، فالمفهوم الحقوقي يحيلنا بالضرورة الى مفهوم اوسع: مفهوم "حقوق الإنسان" المفهوم القابل دائماً للتجريد والتعميم وبالتالي للتطوير كلما برزت عقبة في وجه المساواة والعدالة في مجتمع من المجتمعات.
هذا البعد الإنساني، يتطلب نظرة ثقافية وتربوية تقوم بشكل اساس على التسامح وتعلم قبول الآخر والتعامل معه بذهنية اخوة المواطنة وأخوة الإنسانية معاً.
لكن مبدأ التسامح ليس منة من فوق، يمنحها القوي كمنحة "العفو"، انه موقف خلقي آدمي وجزء من اخلاقيات واجبة على الإنسان وفقاً لمبدأ التحسين والتقبيح المشهور عند المعتزلة، ومبدأ الحقوق الطبيعية عند الفلاسفة. ولكي يستدخل هذا الخلق في مسلكيات المواطن، تبرز اهمية شروط التنشئة الوطنية الإنسانية التي تفترض استيعاب المناهج النقدية في الدراسات الإنسانية: نقد العنصرية والتمييز على اختلاف اشكاله، ونقد العقلية الخرافية، وتفسير المسلكيات اللاعقلانية... الخ. والسؤال هل اخذنا في الاعتبار هذا التوجه في مناهجنا التربوية والتثقيفية في مدارسنا وجامعاتنا ومؤسساتنا؟
2- البعد التنموي البشري: راوحت تجربتنا التاريخية بين اعتماد صيغة الليبرالية الاقتصادية والتي ادت الى مزيد من التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية والجنسية، على مستوى المناطق، والجماعات، وبالتالي على مستوى المواطنين، الأمر الذي أدى بدوره الى نوع من التمايزات الطبقية والمناطقية التي فاقمت حدة الانقسامات الطائفية والمذهبية في مجتمعاتنا وأدت الى خلل خطير في فكرة المواطنة والتي تتطلب اولاً وقبل كل شيء حق المساواة والعدل قبل حق الاقتراع العام. وإذ حلت الأنظمة العسكرية ذات الحزب الواحد أو الإيديولوجيا الواحدة في السلطة باسم الفقراء والمستضعفين اي باسم الاشتراكية، فلم ينتج عن ذلك إلا تنمية احادية تجلت في تضخم قطاع عام غير منتج صحت تسميته "رأسمالية دولة" وهو نظام لا يقيم اعتباراً للمبادرة والإبداع وحسنات الاستثمار في القطاع الخاص. والنتيجة ان التجربتين اغفلتا البعد الشامل والتكاملي في التنمية، وهو البعد البشري الذي يحيل بدوره الى حلقات مترابطة في معاني المفهوم الجديد للتنمية وشروطه:
- تنمية وعي المواطن السياسي كإنسان مسؤول في المشاركة في الحياة السياسية.
- تنمية حس النقد والبحث عن الحقيقة ليكون الخيار والرأي عقلانياً.
- اعتبار مستوى التعليم ومستوى الصحة ومستوى الوعي البيئي ومستوى المشاركة معايير اساسية في درجات التنمية.
كل هذه الأمور شكلت رافعات جديدة للوعي بأهمية المواطن إنساناً فاعلاً في السياسة والثقافة والتنمية معاً.
3- البعد العالمي للمواطنة: ليس المقصود بالبعد العالمي للمواطنة، القول بالمواطنية العالمية، وكأنها استجابة للنزوع الذي تنحو نحوه العولمة الاقتصادية والسياسية والإعلامية اليوم، ولا الاعتقاد بالفكرة الداعية الى توحيد العالم في ظل حكومة عالمية، والتي طالما نادى بها فلاسفة ومفكرون منذ كانط وحتى فوكوياما اليوم. فمثل هذه الدعوة عدا طوباويتها فهي خطرة لناحية ان المؤهل للقيام بهذا الدور هي الدولة المسيطرة الأقوى عسكرياً واقتصادياً وتقنياً، أو هو التحالف الأقوى بين الدول العظمى ذات القبضة العسكرية كالحلف الأطلسي او هو مجموعة قليلة من الشركات المالية العملاقة التي تتحكم في السوق العالمية وفي حركة الأموال والاستثمارات في العالم عبر مجالسها الإدارية وخبرائها وشبكة اتصالاتها المحكمة. فكل هذه الأشكال العالمية هي خطيرة بالفعل وتهدد الديموقراطية وتهمّش فعل المواطنة حتى في بلدها. وإنه لواضح هذا التأثير في تقلص المشاركة في الحياة السياسية حتى في البلدان الديموقراطية العريقة. ويظهر ذلك في استنكاف المواطن الأميركي او البريطاني او الفرنسي عن المشاركة في الحياة السياسية او على الأقل فتور حماسته للاقتراع والمشاركة في الندوات والمهرجانات السياسية التي طالما كانت قوة رافعة لوعي المواطن السياسي. بل يبدو التأثير السلبي ايضاً في لا مبالاة المواطن الغربي بمصائر العالم والقضايا الكبرى البعيدة عن همومه اليومية.
مع ذلك فإن هذا المنحى الخطير للعولمة، وهذا التأثير السلبي لنتائجها على الحياة السياسية الوطنية، تجابهه عولمة من النوع المقاوم، والتي تتسلح بما انجزته حداثة الحياة السياسية في مرحلة ازدهارها من ايجابيات وسلبيات لتثبيت ايجابياتها وتجاوز سلبياتها بالمزيد من التسامح والانفتاح والاهتمام بمصائر الإنسان والكون والثقافات المختلفة.
فثمة من يدعو اليوم الى اعادة تأسيس مجال المواطنة وثقافتها بعد ان شابها في مرحلة ازدهار دور الدولة القومية، مشاعر قومية، وأحياناً شوفينية وعنصرية كان لها دورها التسعيري في حربين عالميتين. بل ان هذه المشاعر الشوفينية والعنصرية عادت فتفاقمت بعد ان حوّلت العولمة الاقتصادية والإعلامية المواطن الى مستهلك شره، وحوّلت المنطق السياسي الى منطق سوق، فاستنفرت الهويات الذاتية في مواجهة الهويات المغايرة حتى في الوطن الواحد ولدى المواطنية الواحدة بذريعة البحث عمّن يحمل مسؤولية الأزمات الاجتماعية والضائقة الاقتصادية.
يدعو آلان تورين وبعد ان يعاين الحالات المستنفرة في المجتمع الفرنسي في مجال العلاقة بين اصول المواطنين الفرنسيين، اي بين من هم من "أصل محلي" وبين من هم من اصل "مهاجر"، الى اعادة تركيب العالم على قاعدة الاندماج الوطني، ولكنه الاندماج المنفتح على التعارف والاغتناء بالثقافات المتنوعة وبالتواريخ المختلفة، وبالإثنيات المنتشرة في العالم وداخل الوطن الواحد. إنها حركة تعمل على إعادة تركيب العالم بمواطنة "في مجتمع ديموقراطي يسعى الى المزيد من تنوعه"، لا الى المزيد من شموليته ووحدته، وكما كان الأمر في مرحلة بناء الدولة القومية او في مرحلة حركات التحرر القومي او الحركات الثورية الراديكالية. حتى المدرسة في رأيه "ينبغي ان تكون متباينة ثقافياً ومجتمعياً وغير متجانسة". يعلّق الكاتب على الأزمة التي اثارها لبس الحجاب في بعض ثانويات فرنسا وأدت الى طرد فتيات مسلمات فرنسيات من إحدى الثانويات: "ما فائدة المدرسة إذا هي لم تكن قادرة على جعل فتيان وفتيات نشأوا في اوساط مجتمعية وثقافات مختلفة يتقاسمون الذهنية القومية والتسامح والرغبة بالحرية؟ ولماذا تكون المدرسة على هذا الجانب الضئيل من الثقة بالنفس، حيث ترى أن عليها اغلاق ابوابها في وجه الذين يختلفون ويختلفن عنها بأمر من الأمور؟".
هذا جانب من جوانب البعد العالمي لمواطنة اضحى عليها ان تستوعب اختلافاً قريباً او بعيداً عنها، ولكن محيطاً بها بصورة دائمة، لا بفعل انعدام المسافات فحسب، بل بسبب حضور هذا الاختلاف في العيش والحياة اليومية. ولئلا يؤدي عيش هذا الاختلاف الى توترات وأزمات وسوء تفاهم، بل لكي يؤدي الى الاغتناء والثراء، فإن برامج التعليم يمكن ان تسهم في وجهة حل، ولكن شرط ذلك "أن يضع التعليم على مستوى البرامج، لنفسه ثلاثة اهداف كبرى: التمرّس بالفكر العلمي، التعبير عن الذات، والاعتراف بالآخر". ويعني تورين بالاعتراف بالآخر "الانفتاح على ثقافات ومجتمعات بعيدة عن ثقافته ومجتمعه، سواء من حيث المكان او الزمان، وذلك بغية العثور فيها على القوى الإبداعية" التي يسميها "تاريخ تلك الثقافات والمجتمعات وإيجادها لذاتها عبر نماذج من المعرفة والعمل الاقتصادي والأخلاق".
هذه الدعوة لإطلاق حركة تعيد تركيب العالم، من خلال تجديد الفكر الديموقراطي لجعل فكرة حقوق المواطن والإنسان في حال القدرة على محاربة كل تسلط واستبداد ونفي وظلم في اي مكان ليست "طوبى" أو بعيدة المنال، بل ان ما يُطرح على مستوى اغتناء المواطن بالثقافات الأخرى، تطرحه بل تمارسه حركة الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان من خلال ما أضحى يسمى "عولمة القضاء"، اي الاغتناء بقوانين البلدان الأخرى الديموقراطية، وذلك باللجوء الى اي قضاء وطني في العالم تتيح قوانينه مقاضاة مجرمي الحرب. هذا ما حصل بالنسبة الى بينوشيه في بريطانيا ويحصل اليوم بالنسبة الى شارون في محاكم بلجيكا. فهل يمكن الحديث عن مواطنة عالمية جديدة تحمي نفسها بواسطة قضاء عالمي وتحتكم إليه؟
يلاحظ اليوم سعياً حثيثاً يبذل لتمكين "القانون الدولي لحقوق الإنسان". والمقصود بالقانون الدولي مجموعة الإعلانات والعهود والمواثيق والبروتوكولات المتعلقة بحقوق الإنسان والتي صدرت منذ العام 1948 وحتى اليوم. وهدف هذا السعي "توفير الوسائل الدولية لتقديم شكاوى لمحكمة دولية ضد اي طرف وأي دولة وأي جهة تمارس التعذيب وإهانة الإنسان سواء كان ذلك داخل سيادتها وأراضيها أم خارجها".
ويذكر هنا ان مؤتمر روما الذي عقد في تموز يوليو 1998 دعا الى تكوين محكمة دولية مستقلة تنظر في الجرائم المتعلقة بحقوق الإنسان، فإذا خرجت معاهدة روما التي حملت هذا المشروع الى حيز التنفيذ، من خلال اكتمال عدد الدول الموقعة عليها اذ تصبح نافذة وقانوناً دولياً بعد توقيع 60 دولة على كامل بنودها فإن آفاقاً واسعة ستنفتح امام تكوين "المواطن العالمي" و"القضاء العالمي".
وهكذا، ففي مواجهة الإرهاب العالمي، الذي عانت منه الشعوب الفقيرة والضعيفة وعانى منه البشر الذي يطمحون ان يصبحوا "مواطنين" كغيرهم من مواطني العالم الغربي تبرز ضرورة قيام العدل العالمي بديلاً عن سياسات القوة واستراتيجيات التهميش والتهديد. ان ما تصوره فوكوياما حول انجاز الحضارة الغربية مرحلة التاريخ، اي تجاوزها مرحلة الصراع والحروب والعنف بدا بعد حادثة 11 ايلول سبتمبر المروعة، سراباً. وبدا فعلاً ان ثمة مواطناً عالمياً ينشد العدل في كل مكان لأنه يتعرض لعنف من اي مكان. المفارقة المؤلمة التي نعيشها في هذه الايام ان المواطن الأميركي لم يكن يعرف ماذا يحدث في العالم بسبب "عزلة سعادته" وأن المواطن الأفغاني لم يعرف ماذا حدث في نيويورك بسبب "عزلة شقائه". بين العزلتين علاقة كامنة ومستورة يجب ان تكشفها العولمة العادلة. إن ما كشفه حادث 11 ايلول، تناقضات مرعبة كان يختزنها القرن العشرون. لكن هذا القرن يحمل ايضاً بواكير حلها عبر قوانين ومؤسسات حقوق الإنسان في العالم. الأمل يكمن اليوم في قدرة إرادات القرن الواحد والعشرين على تغليب قوانين ومؤسسات العدل العالمي للإنسان وللمواطن العالمي.
* كاتب لبناني، والنص ورقة قدمها اخيراً في ندوة جامعة البحرين عن "التربية وبناء المواطنة".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.